المواعظ
 المطران بشار متي وردة

المطران بشار متي وردة

الأحد الأول من الصليب

الكنيسة: جماعة التطويبات (متى 5: 13 – 20)

عهدَ الله لموسى الوصايا في العهد القديم لتكون نوراً وهداية لشعبهِ، لكّن ربّنا يسوع كان أعظم من موسى، إذ تجسّد وصار إنساناً بيننا ومعنا. فعلّم ما كان يعيش. أعطانا التطويبات والتي تُجدد فينا "صورة اللهِ" التي تشوهّت بأنانيّتنا وخطايانا. فما يُميّزنا نحن المسيحيين هو أننا "جماعة التطويبات". جماعة تعيش كل حياتها تحت أنظار الله وفي مملكتهِ، فالتطويبات ليس تعاليم ووصايا وإرشادات، بل حالة الإنسان المؤمِن بالله الوقف أمام الله شاكراً والسائر أمامه متواضعاً، ومُستعداً للتخلي عن كل شيء، حتى عن إرادته الشخصية، من أجل إتمام إرادة الله.

إنسان جعل إتكالهُ على الله الآب من دون أن يبحث عن ضمانات أرضية أو ممتلكاتٍ، فغناهُ ومُلكهُ هو في الله، وإن تملَّك على الأرض يقفَ شاكراً الله على هذه النعمة متحرراً من سطوتها فقلبهُ صارَ مُلكَ الله، وهو يُصلي دوما بتواضع: "يا ربًّ أنــا مُحتاجٌ إليك يا رب".

جماعة التطويبات جماعة تحزن لخطايا العالم البعيد عن الله والباحِث عن فرحٍ عابرٍ ويعتقد متوهما أنه قادرٌ على الحصول على سعادته وحريته من دون الله. هو حُزن مُقدس لأن الإنسان الخاطئ لم يتذوّق طيبة الله فسيطّر عليه الخوف وتملّكه همٌّ أفقدهُ الثقة بالله فراح يبحث عن سعادتهِ بعيداً عنه. هذا الحزن المُقدس لن يكون إلا أن "تواضع" الإنسان، وجعل أنظاره مشخصّة نحو الله ونحو القريب، فلا يتعالى أذا حصلَ على منصبِ ولن يتفاخَر بموهبةٍ ولن يتشامخ على الآخرين الذين "لا يعرفون"، بل يسير معهم، ولن يبتغي بأن يكون "الأول" بل الأقرب إلى الناس لاسيما الفقراء والمهمشين على مثال ربّنا يسوع، ليحملهم إلى الله الآب، لأنه إنسان يبحث عن الحقيقة، والحقيقة هي: أن الله هو الذي يهبُ للإنسان الكرامة، وعندما يملُكَ الله إلهاً في حياتنا وعلى قلوبنا، عندها فقط: ننالُ كرامتنا. لذا، فإنسان التطويبات هو الباحِث عن البر، عن الله الذي خرجَ بربنا يسوع المسيح يبحث عن الضآل ليُعيده إلى الحظيرة.

هو إنسان الرحمة على مثال الله الآب فيُشارِكه في أعمق شعور إلهي: الرحمة. رحمة تنظر إلى معاناة الآخر وتتفهمه من دون أن تدينهُ، وتتجاوز له خطاياهُ وتغفِر له تقصيراتهِ وتراه بعيون الحب من جديد ولن يسمح للغضب والعداوة والإنتقام أن تسيطرَ عليه، لتكون الحياة ممكنة على الأرض. هكذا، يحفَظ قلبهُ طاهراً فيترجّى الخير من الإنسان فيسلُك تبعاً لذلك لأنه يرى الله في الآخرين فيُباركهُ، لتكون علاقاته بالآخرين فعل عبادة، ويضع السلام حيثما حلَّ بطيبِ الكلام والأفعال، فلا يتعب من مُصالحة الناس مع بعضهم ومع الله.

ربّنا دعانا إذن لنكون "جماعة؛ كنيسة التطويبات"، أن نعيش حياتنا كأبناء الله وندعو الآخرين ليكونوا معنا. يُريدنا أن نكون ملحاً يحفظ العالم من الفساد، ويُبقيهِ طاهراً مُكرساً لله. ينتظرنا ربّنا لنكون نوراً في العالم يُرشدهُ إلى الحقيقة، إلى الله بشهادة الحياة: "ليروا أعمالكم الصالحة"، فيشهدوا أن روح الله يعمل فينا ومن خلالنا.

 هذه ليست تعليمات وإرشادات، بل هي دعوة نلتزم بها وشهادة حياة تُرشد الناس وتعلّمهم أين يكمن الفرح الحقيقي: في الله الذي نختبره فرحاً في حياتنا على الرغم من الصلبان اليومية التي نُدعى لحملها. ربّنا يُعلمّنا أن طريق التطويبات سُيكلّفنا الكثير، ولكنه يدعونا إلى أن نوجّه أنظارنا إلى صليبِه، الذي فيه إنتصرَ على تجربة العيش إنساناً من دون الله، فقدّس حياتهِ ليُقدسنا.

اليوم تأتينا البشارة لتحملَ لنا مهمّة ومسؤولية: أن نحفظ العالم من الفساد ونُوصله إلى لله. فإذا كُنا نحن نسلُك مثلما يسلك العالم، نُخاصِم ونغشُّ ونكذبُ ونسرق وندين ونغضب ونُعادي، فما الذي يُميزنا؟ وكيف سيُمجّد العالم الله إذا لم يختبروه فينا؟

 

الأول من الصليب

عيد إكرامُ الصليب

الصليب؛ إنتصار محبّة الله وحكمتهُ (لوقا 24: 13- 35)

           

"ما معنى كل ما حصل؟" "ولماذا حصلَ كل هذا لنا؟" "لمّا هذا الصليب؟" "لماذا يُقتلَ الإنسان البرئ الطيّب الذي عاش رحمّة الله بيننا، وتتوقف المسيرة من دون أن يكون لنا الفداء؟ هذه بعضٌ من الأسئلة الكثيرة التي حملها قليوبا وزميلهُ وهما يُغادران أورشليم حزانى بسبب مشاعر اليأس والإحباط بعد توقفٍ فاشل لمسيرة خلف المعلّم القدير "يسوع الناصري". فلم يفهما أبداً معنى الأحداث ولماذا الصليب والموت، وما معنى أنه حيٌّ؟ نحن مثلهما نسأل مراراً كثيرة: "لماذا كل هذا الألم والشَر يا إلهي؟" "وأين حضوركُ في كل ما يحصل في حياتنا؟"

         ربّنا الذي تجسّد ليُشارِك الإنسان حياتهُ لن يتركهُ أسيرَ الحزن واليأس والحيرة، بل يرافقه ليُعيد له الفرح ويُعيده إلى الجماعة رسولاً، فرحُ اللقاء به والإنطلاق إلى العالم مُبشرين بمحبّة الله التي تتغلّب على قسّوة قلب الإنسان. فأول ما نتعلّمهُ من لقاء عمّاوس هو أن الربَّ عندما يُنعمِ على إنسان برؤية فهو يبغي بناء الكنيسة وليس قسمتها، هكذا، لم يؤسس قليوبا كنيسة جديدة، بل عادَ إلى جماعة الرُسل ليقوّيهم ويُثبتهم في المسيرة.

         بدءَ ربّنا يسوع رحلة تعليم التلميذين من جديد بعباراتٍ قاسية (وبخهما) وتحدّاهما لينفتحا على حقيقة الله ويفهما الكُتب، لأنه عرِف أن قلبهما يحترِق طالباً "الحقيقة"، والحقيقة هي: أن الله يُحبُ الإنسان ومحبتهُ لا تعرِف الحدود ولا يوقفها صليبٌ أو موتٌ، وإن تطلّبَ الأمر أن يبذُلَ حياتهُ من أجل الإنسان، فسيقدمها حُباً به. ربّنا ربّى تلاميذه على الحقيقة وعندما ييأسُ الإنسان ويخافُ ويحزَن معنى ذلك أنه "جاهلٌ" و"بطئُ الفهِم" ولا يعرف محبة الله، ولم يفهم مسيرة الله مع الإنسان. ربّنا لم يُلاطِف التلميذان أو يجاملهما، بل واجههما بحقيقتهما: "أنتما أغبياء".

         السؤال هنا: "لماذا أغلقت عيونهما عن معرفتهِ؟ كيف لم يعرفا المعلّم الذي تبعه لفترة ليست بالقصيرة؟ والجواب هو من حديثهما للغريب: "كُنّا نرجو"؟ كانوا هم الذين يُخططون لله كيف له أن يتصرّف ولم يكونا مستعدين لقبول تدبير الله، لذا، أُمسِكت أعينهما عن معرفتهِ، وتطلّب الأمرُ توبيخاً قاسياً من المعلم. نظنُّ أننا في مثل هذه الأوقات بحاجة إلى كلماتٍ تُهدأ من مخاوفنا وترافقنا بحنانٍ وطيبةٍ، ولكنَّ ربنا يسوع واجه التلميذان بحقيقتهما: أنتما جاهلان ولا تفهمان.

ظنَّ التلميذان أن "الغريب" الذي يرافقهما يجهلُ ما حصلَ في أورشليم، ولكنّ ربّنا يسوع كشفَ لهما عن جهلهما التام بالكُتبِ المُقدسة، فما حصل سبقَ وأن تحدّث به الأنبياء. فلم يكن في فكرِ الله "تدمير" الإنسان ليتغلّب على خطيئتهِ. وبدأ هذا الغريب يشرح لهما "فكر" الله. وتأزمَ الأمرُ أكثر إذ حلَّ الظلام على الجميع، هنا، وعوضَ أن يتركا هذا الغريب الذي وبخهما يُواصِل رحلته، طلبا منه البقاء، فقبِل الدعوة ولكنه ترأس "أفخارستيا" المحبّة، وعرّفهما معنى كل ما حصل: "هذه هي حياة الله"، حياة المحبّة والرحمة والعطاء الذي لا يعرِف الحدود، فأنفتحت أعينهما وعرفاهٌ فتجاوزا الخوف وعادا إلى أورشليم، إلى جماعة "الرُسل" إلى الكنيسة ليجعلا من خبرتهما هذه خبراً مُفرِحاً: بشارة؛ إيونكاليون.

         الصليب ليس علامة القسوة والفشل بل علامة إنتصار محبّة الله. فالله الذي وهبَ للوالدين محبّة تجعلهما يبذلان كل شيءٍ محبّة بأبنائهما لن يكون أقل منهما محبّة بالإنسان. فهو نبعٌ كلِّ محبة وأصلها. وهل يُمكن أن ننعمَ بفرح القيامة من دون جمعة الألم والخيانة؟ هل يُمكن للوالدين أن يفرحا بنجاح أبنائهما من دون تعبٍ وألم وسهر الليالي؟ لذا، يأتي ربّنا اليوم ليسيرَ مع التلميذين ودعاهما ليقرأ حياتهما على ضوء كلمة الله والافخارستيا، ليُوصلهما إلى الإيمان بأن الصليب على الجُلجلة ليس علامة إنتصار الخطيئة على الخير، بل شهادة حُبِّ الله للإنسان، هذا الحب الذي لا يُمكن أن تُوقفهُ الخطيئة: "ما مِن حُبٍ أعظمَ من هذا من أن يبذًلَ الإنسان نفسه عن أحبّائه". فصليبُ الجلجلة ليس صليب الفشل بل صليبُ الانتصار. ليس صليب القسوة بل صليب حنان الله الثابت. ليس صليبَ ضعفِ الله بل صليبَ قوّته وحكمتهِ، ليس صليبَ الموت بل صليب الرجاء.

مسيرتنا إلى الله تتطلّب تخليات كثيرة وتجّرداً عن الرغبات الخاصة لأكون مُستعداً لأقبلَ ما يُريده الله مني. ربنا يدعونا مثلما دعا تلميذي عمّاوس لينظرا إلى الحياة بعيون الفصح والقيامة، بعيون الحب الغير المشروط. بعيون تعرف أن تنظر إلى الآخر وإلى حاجته. تعرف أن تُسامح وتغفر وتُصالح، وتعود إلى الأخوة مُبشرة أنها إلتقتِ الربَّ. العيون التي ترى كيف يعطينا الرب حياته ليجعلها خُبزاً مُتقاسماً. بعيون ترى في المعاناة حضور الرب الراعي لنا، والذي لم ولن يتركنا بل أحبّنا بإمتياز وخاصة في ساعة ضُعفنا ويأسنا، فلم يدعنا أسرى الحزنِ، أو فريسة حيرتنا ويأسنا، بل يأتينا وكُلّه عزم ليقوي ضُعفَ إيماننا إن سمحنا له بأن يُكلّمنا، وإن دعوناه ليدخل بيتنا فيحلَّ لا ضيفاً بل صديقا حميماً.هذا هو انتصار الصليب الحقيقي: أن يدخل ربّنا يسع حياتنا، ونسمح له بأن يُباركها هو.

الأحد الأول من إيليا

ماذا تُريد أن أصنعَ لك: أن أُبصِرَ يا ربُّ (لو 18: 35- 43)

جلس الأعمى لسنوات طويلة يستعطي عطفَ الناس وشفقتهم، وكان يتحسس مرورهم ويلتمس رحمتهم، ليضمُن طعامه اليومي، فلم تتغيّر حياتهُ كثيراً. ولكنّ مرور ربّنا يسوع كان حاسماً في حياتهِ. فلقد إنتظره طويلاً، فصرخَ: "يا يسوع إبنَ داود إرحمني". وها هي الجموع التي كانت تُشفقُ عليه تريد إسكاتهِ، ولكنه إزدادَ صراخاً ثابتاً في قصدّه: يا إبنَ داود إرحمني". إصراره ولجاجته أوقفت ربّنا يسوع وأمرَ بأن يُحضروه ليلتقيهِ. لقد رأى بعيون الإيمان ما لم يراه الآخرين بعيون الجسد: هو المسيح المُخلّص الذي أرسلهُ الله ليهبَ البصر للُعميان.

عَرِفَ الأعمى أنه لا يُبصِر وهو مشلولٌ لا يقوى الحركة ولا يستطيع فعل الكثير ليُعينَ نفسه ليحظى بلقاء ربّنا يسوع، ولكنه كان يعرِف كيف يصرخ فاستغلَّ ذلك ليُحقق اللقاء بيسوع، وعندما دُعيَّ تركَ كلَّ شيءٍ في الحال وأسرعَ من دونِ إبطاءٍ إلى لقاء ربّنا يسوع الذي سألهُ: ما تُريد أن أصنعَ لك؟ وكان يعرِف ما يُريد: أن يُبصِرَ! أن يترُكَ المكان الذي تجمّد فيه منذ سنوات طويلة، فكان له ما أرادَ لأنه آمنَ. أبصرَ وراح يتبع ربّنا ويُمجّد الله، والجموع التي أرادت أن تُسكته إنطلقت تُمجّد الله. لقد تحرر من حبسهِ وتحولّ من "ساكنِ متشائم" إلى مُبشِّر فرح. من إنسان يصرخ طالبا عطف الناس إلى مُرنّم يُمجّدُ الله على الرحمة التي حصلَ عليها بربّنا يسوع المسيح.

لم تكن عملية شفاء الأعمى "سهلّة"، بل رافقها الكثير من الصعوبات. فربّنا يسوع كان بعيداً عن الأعمى، وهو في حركة متواصلة ويُحيط به جمهور كبير، بخلاف الأعمى الجالس على جانب الطريق ساكناً من دون حرِاك، وعليه أن يبذل جهداً للوصول إلى ربّنا، ولم يملُك إلا صوتهُ، فراح يصرخ. أجبره الناس على السكوت، فإزداد صراخاً، وهنا، جاء تدخّل ربّنا ليحسِم القضية، ويطلب لقاء الأعمى ويبدأ حوار شخصي بينهما يسمح للأعمى بأن يشترِك في مسيرة ربّنا نحو أورشليم. طلبَ الرحمة فنالها، ليس فحسب، بل حوّلتهُ إلى تلميذ ورسول ومُبشِّر.

يمرُ بنا ربّنا عشراتِ المرّات ولكننا مراراً ما نكون محبوسين في يأسنا، ومحبطين بسبب الصعوبات التي نختبرها، فلا نقوى حتّى على الصلاة والصُراخ لأننا خائفون وحزانى فنخسر لقاءاتٍ كان من شأنها أن تُغير حياتنا كلياً بسبب عدم إيماننا. وليس فينا إيمان من أن الآب السماوي هو معنا ويرافقنا بل يتقاسم معنا حمل صليبنا. ربّنا معنا لا ليُزيل عنّا الصعوبات، بل ليُقوينا ويُثبتنا في المسيرة حتّى نجتاز البحرَ آمنين ومؤمنين.

لقد طلب الأعمى النظر لا من أجل أن يعود إلى مكانهِ فينظر ويميّز بين فقراء القوم وأغنيائه ليطلب ما يشاء، ولم يعد إلى المدينة باحثاً عن عملٍ، بل إنطلقَ خلف يسوع السائر إلى أورشليم الموت. ربّنا يسوع لم يعدنا بمسيحية خالية من الصليب، بل جعل الصليب في مركزها: "كل مَن لا يحمل صليبهُ ويتبعني فلا يستحقني". ولجميعنا صُلبانٌ كثيرة  وصعوبات جمّة، والسؤال الذي يتحدانا اليوم: هل جعلتنا هذه الصُلبان، أقرب إلى الله الباحِث عنّا، أم إن المُجرّب نجحَ في إبعادنا عنه بسبب ما نُعانيه من ضيقٍ وهمِّ وحيرة وشكٍّ؟ هل جعلتنا المتاعِب والهموم والألم والضيق عمياناً جالسينَ على طريق الحياة نستعطي عطفَ الناس وشفقتهم، أم ملأتنا إيماناً وإنتظاراً لخلاص الله الآتي إلينا في طُرقٍ لا نتوقعهُ؟ أوَ لم يحن الوقت لنترُك "أراضينا المريحة" وننطلق نتبع جديد الله؟

نحتاج إلى شيء واحد إذن: أن نثبت في الصلاةَ وأن نواصل الطلب، مؤمنينَ أن الله الآب آتٍ لخلاصنا مهما طال الانتظار. مواصلة الصلاة تُبقي الإيمان حيّا فاعلاً فينا عارفين أن الذي دعانا هو أمينٌ. نختبرُ الكثير من الصعوبات التي تشلُّ حركتنا وتأسرنا في مشاكلَ وتُعمي أنظارنا فلا نُبصِر حقيقةَ الناس والأحداث من حولنا. فلنطلب نعمة الإيمان اللجوج، نعمة البصر لنرى تقّرب الله في حياتنا، فلنطب رحمة الله فنتقوّى وننهض من مشاكلنا ونسير خلفَ يسوع، فنُصبِح سبب تمجيد الله: "ولمّا رأى الشعبُ ما جرى، مجدّوا لله كلّهم" (لو43:18).

اليوم، إذا دعانا ربّنا وسألنا: ماذا تُريد أن أصنعَ لك؟ كيف أخدُمك؟ تُرى ما الذي سنطلبهُ منه؟ جوابُ هذا السؤال مهمٌ جداً في حياتنا، وعلينا أن نتأمل ملياً في حياتنا كلّها قبل أن نطلب. ما الأمرُ الأهم الذي عليَّ أن أطلبهُ اليوم إذا سألني ربّنا هذا السؤال. بالتأكيد هناك قائمة بالكثير من الحاجات المادية التي نحتاجها في حياتنا، ولربما نفسية أو إجتماعية، وكلّها حاجاتٍ حقيقية يعرفها ربّنا قبل أن نطلبها منه. ربنا يُريد منّا أن نطلب ملكوت الله وبرّه، أما البقية فتزاد.

الأعمى إنموذج إيمان للإنسان الذي لا توقفهُ صعوباتٌ بل يُتابِع المسيرة حتّى لو عارضه الناس ومنعوه. إيمانه تحوّل إلى صلاة وإستغاثة لجوجة، وعندما تحينُ السرعة فهو مُستعد لأن يترُكَ كل ما يملُك، كل الضمانات، من أجل اللقاء بيسوع.

 

الاول من ايليا

عيد مار قرداخ الشهيد

الدعوة إلى القداسة

يجمعنا ربنا يسوع في أفخارستيا الشُكر اليوم لنحتفل بذكار مار قرداغ الشهيد والذي شهدَ لربنا يسوع في تقدمة حياتهِ، وفيها يدعونا جميعاً للتأمل في دعوة القداسة التي دُعينا إليها جميعاً، لأن الله، وبحسبَ ما علّمه بولس الرسول أختارنا لنكون قديسين: "هكذا كان (الله) قد اختارنا فيه (المسيح) قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين بلا لوم أمامه. إذ سبق فعيننا في المحبة". فالقداسة دعوّة لجميعنا وليس حكراً على نُخبةٍ من المؤمنين.

القديس هو كل مؤمنٍ سمَحَ لربّنا يسوع المسيح أن يملُكَ عليهِ: "وفيما بعد لا أحيا أنا بل المسيح يحيا فيّ". إنسان خصص، كرّسَ نفسه وحياتهُ كلّها للمسيح، فالعلاقة بيسوع المسيح هو بدءُ مسيرة القداسة وأساسها، فهي ليست أعمالاً خارقةِ، بل دعوة للإتحاد بيسوع المسيح والإلتصاق به، ولبسُ المسيح، ليكونَ فينا فكرُ المسيح ومواقفهِ، المسيح المتواضِع والرحوم، وجه الله المُحِب، والذي لم يأتِ لدينونةِ الإنسان، بل، بحثَ عنه ليُخلّصهِ. فالقديس يحملُ في قلبهِ المسيحَ يسوع، ويهبُهُ لكلِّ مَن يلتقيهِ.

لقدّ تعلّم القديس أن يكون تحت إرشادَ الروح القُدس، والذي يُعطيهِ الحكمة ليسلكَ حسبما يُريده الله، والشجاعة ليشهدَ لمحبّة الله التي ظهرت بيسوع المسيح، عارفاً أن ذلك نعمةٌ من الله وليست بقدراتهِ الخاصّة. الروح القُدس هو الذي يجعل القديس يُحبُ الله فوق كلِّ شيءٍ ويُصلّي إليه ويتأمل كلمتهُ، ويحتضِن القريب بذات المحبّة من دون رياء أو نفاق أو حسدٍ. فكل ما يفعلهُ القديس هو بدافع المحبّة لله وللقريب.

وهكذا تمكّن القديس من محاربة الشّر في حياتهِ هو أولاً فأختبرَ تخليّات عديدة، وتنازل عن إمتيازاتٍ كثيرة، وإجتهدَ في إماتات عظيمةٍ، وتزهدَ عن الدنيا ومفاتنها، فعاش بساطة "الألوهة"، فكان كليّا لله، وأنتصرَ على الشّر بقوّة المسيح يسوع، عرِف أن العالم كلّه صارَ أكثر خيراً بوجود إنسان تغلّب بقوّة المسيح على الشّر. فالقديس هو إنسان يعرِف اين يُحارِب الشرِ، في حياتهِ أولاً.

هذا هو سرّ قداسة حياة قديسو الكنيسة وشهداؤها: "الإلتصاق بالمسيح إلتصاق الأغصان الكرمة"، ونشر قداسة الله وطيبتهِ، فلا يُمكن للإنسان أن يُصبِحَ قديساً من دون المسيح، فالمسيح، قدّوس الله، هو الذي يُقدِس حياة الإنسان.

الأحد السابع من الصيف

الصلاة إلى الله (لو 18: 1- 14)

يدعونا ربّنا يسوع إلى أن نصلي ولأنه يعرف أننا لا نُحسِن الصلاة أرادَ أن يُعلمنا الصلاة، فلننتبهُ ولنُصغي إليه.

أول درسٍ في كيفية الصلاة هو أن نُصلي بإلحاحٍ ونواصلُ الصلاة بمثابرةٍ، مثلما فعلت الأرملة التي تعرّضت إلى ظُلمٍ من رجلٍ، فذهبت عند القاضي، وكان معروفاً بظلمهِ لتستعيدَ حقهّا. ثابرت الأرملة وواظبت على الطلب حتّى نالت مطلبها. لم تتراجع عندما لم تتلمّس إستجابةً لمطلبها، بل واصلت حتّى أزعجتهُ بالطلب، ولبّى لها القاضي طلبها ليرتاح من إزعاجها لا حُباً بالعدالةِ. هكذا يُريدنا ربّنا يسوع أن نكون: أن نُصلي ونثابِر على الصلاة، فالمُثابرة علامة على الإيمان الذي لا يعرفُ الشكّ واليأس، وعلامة انتصار إيماننا وثقتنا بإلهنا رغم التعب والملل والتشتت الذي يُصيبنا خلال الصلاة. الأم تريزا تقول: "إذا أردت أن تصلي بشكل أفضل، صلِّ أكثر".

ولكن، ألاَ يعلَم الله ما نحن بحاجةٍ إليه حتّى يطلُب منّا أن نواصِل الصلاة؟

"نحن لا نُحسنُ الصلاة" مثلما يقول الرسول بولس (روم 8: 26)، وترانا نطلبُ ما نراهُ خيراً لنا، والحال أن إلهنا يعرِف أن ليس كل ما نطلبه هو لخيرنا. نحن مثل الأطفال يطلبون من والديهم ما يظنون أنه نافعٌ ومفيد، وعلى الوالدين تمييز الأفضل لأبنائهم. لذا، علينا أن نقف في الصلاة أمام الله لنُصغي إليه ونميّز إرادتهُ، ربّنا قال: "وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه. فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه. لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" (متّى 6: 32-34). أن يكون فينا الإستعداد لعمل مشيئتهِ في حياتنا، أن نترُك لها المجال ليُكمِل إرادتهُ فينا ومن خلالنا: "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لو 1: 38)

الدرس الثاني في الصلاة هو أن نكون متواضعين في الصلاة، فنحضَر أمام الله مثلما نحن، حاملين بشكرٍ كل ما وهبهُ لنا من خيراتٍ وبركاتٍ، ومتأسفين على أننا أحيانا كثيرة لم نستجيبُ له مثلما يجب. أن نقفَ أمام الله من دون أقنعةٍ أو تبرير الأخطاء، بل صادقين فيما نقول من دون رياء أو كذبٍ، مؤمنينَ أننا نقفُ أمام أبٍ لن يدين ولن يُحاكِم، بل أبٌ ينتظرٌ عودتنا إليه. تماماً مثلما فعلَ العشار الذي إنحنى أمام الله معترفاً بأنه إبتعدَ عن محبتهِ، لم يكذب أمام الله، ولم يُطالِب الله بأن يمنحهُ الغفران لأنه جاء يُصلي، بل تركَ ذاته كليا بين يدي الله طالباً الرحمة: "إرحمني يا الله"، وهذه الرحمة قادرةٌ على تغييره: أقول لكم: هذا العشار نزلَ إلى بيتهِ مقبولاً عِندَ الله".

والآن، يسألنا ربّنا يسوع: كيف تصلّون، وماذا تقولون في الصلاة؟

عادة نحن لا نُصلي بكثرة، لأننا نتوهمُ أننا قادرون على تدبير حياتنا من دون الحاجة إلى الله. وإذا صليّنا، فنحنُ نقفُ أمام الله شعوراً منّا بواجِب الصلاة إليه، فنؤديها بأقلِ الإلتزامات الممكنة، ونتراجع عنها متوهمينَ أنها مضيعة للوقت والجهد.

في صلاتنا ترانا نستعرِض حياتنا وإنجازاتنا، ونتباكى متأسفين على ما نُعانيهِ من خبراتٍ وصعوباتٍ. أو نستغل فرصة الصلاة هذه لنعلِمَ الله بأخطاء هذا وذاك من الناس. بالحقيقة: نحن لا نُحسِنُ الصلاة. يروي لنا آباؤونا الروحيون عن جدالٍ حصل بين رُهبانٍ عن أهم اللحظات في حياة ربّنا يسوع: فقال بعضهم: ولادته في بيتَ لحمِ، وقال آخرون: قيامته من بين الأموات، وآخرون: إقامةُ لعازر. ثم توجهوا بالسؤال إلى معلّمهم: ماذا تقول يا معلم؟ ما الحدث الأهم في حياة يسوع؟ فأجاب: الحدث الأهم في حياة ربّنا يسوع، هو أنه كان يعي ما يقول! فحياتهُ كانت صلاة، وصلاته كانت حياة.

الصلاة فرصةٌ للقاء الله الآب، فعلينا أن نتعلّم الصلاة إليه بتواتُرٍ، فالذي يُحبِ يرغب في محادثةِ ولقاء مَن يُحبهُ دوماً. وأولى كلمات اللقاء تكون كلماتَ إعجابٍ وإندهاشٍ. فنتقدّم أمامه بتواضعٍ شاكرين له أبوّتهُ معنا. فأولى كلمات الصلاة هي "الشُكر"، وهو ما أكّد عليهِ ربنا يسوع في قراءات الأحد الماضي، وأوصى به بولس الرسول: "كونوا في كل شيء شاكرين! هذه هي إرادة الله فيكم في المسيح يسوع" (1 تسا 5: 18). نشكرهُ على محبتهِ التي وهبتَ لنا ربّنا يسوع المسيح.

وعندما نُصلي علينا أن نسأل إلهنا أن يهبَ لنا بيسوع المسيح دوماً، هو الذي قال: فيُعطيكم الآب كُلَّ ما تطلبونه بآسمي، وهذا ما أُوصيكم به: أن يُحبَّ بعضُكم بعضاً" (يو 15: 16- 17). فنحن أبناء الله بيسوع المسيح بكرُنا، والذي حملنا في صلاتهِ إلى الله الآب، وعلّمنا أن نُصلي: "الأبانا"، فلا يُمكن أن أتقدّم للصلاة لوحدي، بل أحمل في صلاتي كل إخوتي وأخواتي بمحبةٍ. فالصلاة ليست فرصة للشكوى على الآخرين وفضح أخطائهم، بل الوقوف أمام الله الآب حاملين بمحبةٍ كل الناس إليه، حتّى البعيدين عنهُ وقد عملنا واجتهدنا لنكون قُربهم لخدمتهم جسديا أو روحيا، ولنا في أمنّا مريم خيرُ مثالٍ، فعندما عرِفت أن الله اختارها لرسالةٍ عظيمةٍ، وقدّسها لتحمل كلمتهُ، إنطلقت تخدم مَن هم بحاجةٍ إلى الخدمة. 

 

السابع من الصيف

الأحد السادس من الصيف

الإنسان: فعلٌ شكُرٍ وامتنان (لو  17: 5 - 19)

 

كشفَ الأبرص الشاكِر، والذي شفيَّ وهو في طريقهِ إلى لقاء الكاهنِ، معنى الإيمان. الإيمان الذي طلبَ الرُسل من ربّنا يسوع أن ينالوا المزيد منه، فالإيمان يعني أولاً: تمجيدُ الله وشُكره، تقديم العبادة النزيهة له وحدهُ، وهو ما يصعبُ على الإنسان مراراً. فالشُكر هو خير تعبيرٍ عن إيمانٍ نقي بمَن نُحبهُ، ونفتخِر فخراً عظيماً بأننا لولا محبتهِ ورحمتهِ ما كُنا سنكون ما نحن عليه. لذا، ولأهمية الشُكر في حياتنا، يجمعنا الله دوماً حول مذبحهِ في أفخارستيا إبنه، ربّنا يسوع المسيح، لنكون جماعة الشُكر، فالأفخارستيا هي فعل الشُكر لأن الله اختارنا بربنا يسوع المسيح ليُبارِكنا ويجعلنا نوراً بين الأمم. وأول صلاّة نرفعها بعد مناولة جسد ربّنا يسوع المسيح، هي صلاةُ الشُكر: "كلّنا نحن الذين بموهبة الروح القُدس ..."، فالشُكر يسبُق التضرع.

كان الناس يؤمنون أن البرص ليس مرضا ًفحسب، بل حُكمٌ وعقابٌ من الله على الإنسان، ويحتاج إلى المصالحة مع الله، لذا قالوا: "إرحمنا" ولم يقولوا "إشفنا". والحال أن الله نفسه جاء ليُصالح الخطأة، فأمر ربنا يسوع البُرص العشرة بالذهاب إلى الكهنة قبل أن يشفوا، بل لم يتلقوا أية علامة على أنهم سينالون الشفاء: "أمرهم وعليهم أن يطيعوا"، أي، يجب أن يكون لهم إيمانٌ بكلمة ربّنا يسوع، وهذا ما حصل بالفعل. جميعهم ذهبوا من دون أن يسألوا: متى نُشفى؟ وكيف سنُشفى؟ آمنوا بما قاله ربّنا يسوع فنالوا الشفاء. فالشفاء جاء ثمرة الطاعة. أمرهم بالقيام بفعل يتطلّب الكثير من الشجاعة: الذهاب إلى أورشليم، حيث مركز الرئاسة الكهنوتية، بل مدينة محرمة عليهم كونهم يحملون مرضاً مُعديا وهم من المغضوبِ عليهم من قبل الله.

لقد تصوّر البُرص التسعة أن على يسوع، كونه مسيح الله، أن يمنحهم الشفاء، وكأنهم يستحقونَ ذلك، لذا، لم يعودو ليشكروا. أما السامري، فلقد شعرَ بأنه غير أهلٍ لمثل هذه العطية فعادَ ليشكرَ. يشكر حضور الله في يسوع المسيح: "عادَ يُمجدُ الله". لقد أكتشفَ السامري مَن هو ربّنا يسوع: هو الطريق إلى الله. فالإيمان بيسوع يقودنا إلى الله الآب، بل أن ربّنا يسوع يحملنا إلى الله الآب، الذي أرادَ أن يُصالحنا بابنهِ يسوع المسيح. فعلُ الإيمان يكتمل إذن بالعودة إلى الله ممجدين إياه، فالإيمان فعلُ من الله وعودةٌ شاكرةٌ إليهِ.

نحن واعوونَ للشر الذي أصابَ العالم والإنسانية وتركَ خلفهُ ضحاياً بل كوارثَ وأمراضٍ يصعبُ شفائها إنسانياً. ونعيش في هذه الأيام مآسٍ كثيرة سببها خطيئةُ الإنسان. ويُؤلمنا كثيراً إبتعادُ الإنسان عن الله الآب، وتفكير البعض من أنه، أي الله، بعيدٌ عنّا وعن مآسينا، والحقيقةُ هي أنه معنا دوماً، ويعمل على عمل الخير ومد يد الرحمةِ ونشر المحبة والسلام، ولكنه يطلبُ منّا أن نكون له شاكرين دوماً. مشاعرُ الشُكر هذه ليست عباراتٍ نقولها، بل مواقف علينا أن نلتزِم بأن نكون فعلةً أمينينَ لنُحقق تدبيرهُ الأبوي، مثلما فعلَ ربّنا يسوع. أن ندخلُ مجدهُ وذلك بأن نسعى لعملِ إرادتهِ وتحقيقها في العالم، وإرادتهُ تكمنُ في خلاص كل إنسان، والخلاص يكون في القُربِ منه، مثلما فعل الأبرص الذي شُفيَّ جسدياً، فعادَ يُمجد الله ويقترِب من ربّنا يسوع لينال الخلاص.

البُرص التسعة نالوا الشفاء الجسدي، ولكنهم لم ينالوا الخلاص، حالهم حالُ كثير منّا: نعرِف الله ولكننا لسنا قريبين منه. تحدي الإيمان الكبير اليوم هو أن نكون مؤمنينَ "شاكرينَ"، فنحن مهوسونَ بحبِ الذات إلى مرحلة نجد فيها صعوبة في التعرّف على تدبير الله في حياتنا. ألمنا الجسدي وظروفنا تجعلنا نتردد في تلفظ تعابير الشُكر، ونُكثِر من التذمّر، وكأن الله غير آبهِ بما نختبرهُ من ألمٍ وصعوباتٍ وإضطهادٍ. يروي لنا آباؤنا الروحيون عن كاهن إشتهرِ بمواعظهِ التي كانت مليئة بعباراتِ الشُكر على الكثير من النعِم التي كان يتلمسها في حياته، ويراها في حياة رعيّته. وحدث أن عاصفةً هوجاء ضربت القرية فدمّرت كل شيءٍ، فراهنَ العديد من الناس من أن الكاهن اليوم لن يجد ما يشكر الله عليه، وإذ به يبدأ عظتهِ بعبارة: "نشكركَ يا الله لأن أيام حياتنا لا تُشبهُ هذا اليوم المُتعِب".

ربّنا يسوع يُعلّم تلاميذه، ويُعلّمنا، أن نكون جماعة شاكرين. جماعة تعرف حاجتها وتعترف بالنعمةِ التي قبلتها. عالمنا اليوم مُصابٌ بأمراضٍ كثيرة، وهذه الأمراض راحتُ تٌصيبُنا نحن المسيحيين أيضاً. فالعالم لم يعد يعترفُ بمجّانية العطاء، ولا يعرف بالتالي أن يشكرُ. العالم لا يؤدي عملاً إلا وينتظر المُقابلَ مكافأة أو منصباً، ولذا فهو لا يشعر بواجبِ الشُكرِ. وحتى ما بين المتزوجين لا يوجد كلماتُ الشُكر، بل يظنُ الرجل أن من واجب المرأة أن تُدبّر البيت من دون أن تُشكَر، وتعتقد المرأة أن من واجب الرجل أن يوفّر المصاريف من دون أن يُشكر. وهكذا نكبر ويكبر معنا هذا التعامل حتى مع الله. كلمة الشُكر هي مثل حاجة النبات إلى الماء. كلمات الشُكر هي حياة كل علاقة إنسانية وحتى علاقتنا مع الله. فلو تعلّمنا أن نشكر الله، سنتعلم أن نشكر الأب والأم والأخ والأخت والصديق على كل ما يُقدموه لنا من محبة ورعاية وإهتمامٍ، وهذا كبيرٌ في عيونَ الله. نشكر الله على إنسان يحاول أن يترك في حياتهِ إشارةً لحضور الله المُحِب، وأن لا نتردد في تمجيد الله على ذلك مهما كان ذلك صعباً علينا أحياناً، فالشُكر سيُغيّر نظرتنا للحياة، ويُعيدنا إلى الله الذي يحاول الشر أن يُبعدنا عنه.

ربّنا يُريدنا اليوم أن نكون من الشاكرين لا من المُتذمرين أو ناكري الجميل، لاسيما وأنه ينتظرنا دوماً لنحتفلَ معه بالأفخارستيا، والتي تعني فعلَ الشُكرِ.

 

السادس من الصيف

الأحد الخامس من الصيف

عندهم موسى والأنبياء (لو 16: 19- 31)

لم يلعَن ربّنا يسوع الغنى بل حذرنا من التعلّق به والتعبد له فنتنكّر لإلهنا وخالقنا، وننسى القريب، هذه هي رسالة إنجيل اليوم، وكلمة الله: "عندهم موسى والأنبياء"، كفيلةٌ بأن تُذكرنا بهذه الحقيقة. فالتعلّق في الغنى يكشُف عن وهمٍ لطالما أغرى الإنسان، فاعتقدَ أنه حصل على كل شيءٍ، وهو قادرٌ على صنعِ المعجزاتِ، متناسياً الآخرين، فالغني لم يُفكّر بإخوتهِ الخمسة إلا بعد مماتهِ، وهو يتعذّب، ولو تذكرهم لصاروا ستة، ولو تذكّروا لعازر الفقير لأصبحوا سبعة، وهو عدد الكمال، جماعة مُحبّة، وبالتأكيد كان الربُّ سيتذكّرهم كلهم معاً. فلا سعادة من دون الآخرين، لأن السعادة تكون في المُشاركة، ويذكّرنا بولس الرسول بكلمة لربّنا يسوع: "تباركَ العطاء أكثر من الأخذ" (أع 20: 35). فالغنى قسّى قلب الإنسان وأعمى عيناه وصمَّ أذنيه فلم يسمع ولم يرَ ولم يشعر بحالة إخوتهِ ولا بالقريب الذي إلتصقِ قربَ بابهِ.  

 خطيئة الغني أنه لم ينتبه إلى حضور لعازر وكأنه لم يَره، لم يسمع أنينَ لعازر، وكان له يدان ولكنه لم يُحرّك لعازر من مكانه، ولم يأمر بأن يُحّركَ من أمام بيته. كان غنياً ولكنه لم يعمل على تغيير حياة لعازر. ربنا لم يقل ان الغني طردَ لعازر الفقير، أو أهانهُ، أو ضربهُ، ولكنه لم يعتن به ولم يُطعمهُ، وكأنه لا يراهُ ولا يسمعهُ ولا يشعر بوجوده وإحتياجاتهِ، فصارت الهوة كبيرة بينهما، بل عظُمت جداً، لأن الغنى أعمى عيون الغني وصمَّ آذانهُ عن السماع.  صحيح أنه لم يطرد الفقير من أمام بيته، ولكنه رضيَ بحالة لعازر وكأنها أمرٌ طبيعي لا يعينه البتّة، مُتناسياً أنه مسؤولٌ وحارسٌ على القريب. فالجحيم الذي استقرَّ فيها لم تكن عقاباً على أنه فعلَ شيئاً، بل لأنه لم يفعل شيء من أجل إسعاد حياة القريب.

أما لعازر الفقير فقَبِلَ بالفُتاتِ الذي كان يتساقط من مائدة الغني، ورضيَ بحالهِ من دون تذمّر أو حسدٍ لحياة الغني، وصبرَ من دون أن يلعن الله على وضعه الصعب بل بقيَ اسمه خالداً في ذاكرة الناس: لعازر أي الله المُعين. لقد حافظَ على نقاوة قلبه فلم يدع للحسد أو الغضبِ أو التذمّر مجالاً للتسرب إلى قلبه، بل إنتظرَ لعلَّ الغني يرأف بحالته ويُبادرَ إلى مساعدته. كان هناك إمكانية لحصول معجزة، إلا أن قسوة قلبِ الغني حرمتهُ من هذه النعمة. فالمعجزة الحقيقية، هي إمكانية توبة الإنسان واهتدائهِ. أن يتغيّر ويُعدّل طريقهُ فينظر بعين الرأفة والرحمة إلى الآخرين، ويعترفَ بتواضع أن ما ناله إنمّا هو للمُشاركة من أجل حياة إنسانية أفضلَ للجميع.

عندهم موسى والأنبياء، عندنا كلمة الله، عندنا تعليم الكنيسة الذي قدّموه أباء ومعلمون وشهدَوا من خلال تقدمة حياتهم لهذه الكلمة. عندهم قديسون عظام أضحوا منارة في طريقنا نحو الله. فلا ننتظر المُعجزات، ولا نعتمد على "أوهام" العرّافين، بل لنُنظّف آذاننا ونُهييء حياتنا ونوسّخ أيدينا بعمل الخير. ولنسعَ بما ما أُوتينا من إمكانياتٍ ومواهب لتغيير حياة الفقراء من حولنا، فخيرات الأرض هي للجميع، وإذا ما أعطينا الفقير فإنّما نُعيدُ إليه ما هو له.

إلهنا لا يُحرّم الغنى ولا يلعنهُ، ولا يقول: ان كل غني سيذهب حتماً إلى الجحيم. على العكس، فكلاهما الغني والفقير هما أبناء إبراهيم: يا ابتاه إبراهيم إرحمني ... تذكّر يا ابني ...، ولكن المُشكلة كانت أن هذا الغني لم يتصرّف بأموالهِ مثلما يجب أن يتصرّف كابنٍ حقيقي لإبراهيم. فأبنُ إبراهيم لا يحتاج إلى مُعجزاتٍ ليُؤمنَ، بل يحتاج إلى علاماتٍ، والفقير هو احدى العلامات التي يضعها الله في حياتنا لنؤمن ونتوبَ إليهِ. إبنُ إبراهيم هو إنسانٌ يتضامنُ مع الفقير والمحتاج والمعوَز، وكم لنا من شواهد في تاريخ الكنيسة لأبناء إبراهيم الأُصلاء، وكم لنا من شواهد اليوم أيضاً تُفرحنا بطواعية عملها الخيري تجاه الفقراء. إلهنا يفتح باب الملكوت للجميع شرطَ أن نعيشَ الأخوّة الفعلية من الآن، والأخوّة الحقيقية تتطلّب قلباً رحوماً كقلبِ الله أبينا. ولكن هذه الرحمة كانت تنقص الفريسيين الذين كانوا يُعلنون بافتخار: إنهم كملّوا كل ما تأمر به الشريعة، فصاروا معلمين لها.

فإذا وهبَ الله للإنسان من خيرات الأرض فعليه أن يشكرَه على هذه النعمة، وشكرهُ يتحقق واقعاً عندما يُشارِك الفقير فيما وهبهُ الله له. هذا ما علّمه الله للأباء في العهد القديم: أن يتركوا جزءً من الحصاد للمحتاج والفقير. وإذا صاموا فعليهم أن يكسروا خبزهم مع الجائع، فملكوت الله هو ملكوت المحبّة وثمرها عدالةٌ وسلامٌ. وإذا وُجدَ فقيرٌ وسُمِعَ صوتُ أنينهِ فهذا يعني أننا بعيدون عن أجواء ملكوتِ الله. 

لربما نقول: كم كان إبراهيم قاسياً ولم يُبالِ بتوسلاّت الغني، الذي لم يطلب منه سوى قطرة ماءٍ، ثم أن يُنبه إخوته إلى الحذر من الغنى وحياة اللامبالاة. رَفضَ إبراهيم توسلاًت الغني، الذي كان أولَ مَن رفض توسّلات الفقير. ولكن، علينا أن لا ننسى أيضاً أن إبراهيم يُؤكد أن رحمة الله تشمل الجميع، فيرسل لنا الأنبياء، بل الفقراء ليُنبهونا على أننا قادرون على أن نكسَبَ الحياة الأبدية، إذا عشنا على الأرض حياة المحبة والتضامُن مع الأكثر فقراً وحاجة. ربّنا يُعلّمنا أن نستخدم الغنى لا ليُبعدنا عن الناس ويخلقَ هوّة عظيمةً بيننا. ربّنا يعلّمنا ان نستخدم هذا الغني لنجعل منه أصدقاء لنا، وهذا ممكن بمحبتنا لهم، لا بمحبتنا لما نملِك. أكد إبراهيم للغني أنه حتّى وإن قام أحدهم من بين الأموات وذهبَ ليُنذرَ إخوته الخمسة، فلن يؤمنوا، وهذا صحيح اليوم ايضاً. لأننا جميعاً سمعنا هذه القصة منذ أن كُنّا نتهيأ للمناولة الأولى، ولكنها لم تُغيّر شيئاً في حياتنا، فما زلنا نتراكض خلف الغنى، وما زال المال يُفرّق حتّى بين الأخوة. 

 

الخامس من الصيف

الأحد الرابع من الصيف

قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله (مر 7: 1- 23)

عالمنا اليوم مهتمٌ جداً بالمظاهر الخارجية والتي تُفسِد قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا فتجعلنا أنانيين ومرائين نبحث عن رضى الناس ونسعى لجذب إنتباههم وكسبِ تعاطفهم بحثاً عن مصالحنا الشخصية. وفساد القلب يجعلنا خُبثاء نزرعُ الخصام والعداوة بين الناس، وهي كلّها مواقف تُبعدنا عن الله، المحبّة والصلاح. إهتمامنا بالمظاهر الخارجية وبما يقولهُ الناس عنّا يجعلنا أحيانا مخادعين نُخفي حقيقة مشاعرنا وما نُفكِر فيه من أجل أن يرسم الآخرون صورة حسنّة عنّا. فعندما نجعل نظرة الناس إلينا أهم من نظرة الله يعني إننا نؤمن بالناس أكثر من إيماننا بالله، والأخطر أَننا نُهينُ كرامة الناس لأننا نراهم وكأنهم "المعجبون"، فإن لم يُعجبوا بأفعالنا، أهملناهم. من هنا يبحث المرائي لا عن نظرة كل الناس، بل هو يبحث عن نظرة أُناس لهم مكانة في المجتمع. لاسيما في عصرنا الذي يبحث عن المظاهر. ترانا أحياناً كثيرة نُجامِل الآخر في حضورهِ وندينهُ في غيابهِ. نبتغي رضاء الآخرين فنُحسنُ الكلام عنهم، ولكننا لا نُحِبُهم. البحث عن الشُهرة والسمعة الحسنة جعلنا "نُمثل" أمام الناس فنتظاهر بالمحبّة وداخلنا مليءُ بالغضب والحسد. وهذه علامةٌ على "بُطلانِ" محبتنا، وهي كلّها علاماتٌ تُشير إلى أن قلوبنا أصابها جفافٌ روحي وصارت قاسية، صلبة لا تتحمل حضور الله، مما جعلَ الله يقول على لسان إشعيا: "هذا الشعبُ يُكرمني بشفتيه، وأمّا قلبُه فبعيدٌ عني. وهو باطلاً يعبدني بتعاليم وضعها البشر". 

لذا، يُنادينا ربّنا يسوع لنهتمَّ أكثر "بالداخل؛ بالقلّب" فيقول: "أصغوا إليَّ كلّكُم وإفهموا: ما مِن شيءٍ يدخل الإنسان يُنجسهُ، ولكن ما يخرجُ من الإنسان هو الذي يُنجسُ الإنسان. يدعونا ربّنا إلى أن يكون القلبُ مُستعداً لقبول رحمةِ الله فيضحى أرضاً خصبةٍ ترعى كل ما هو طيّبٌ وحسنٌ من أفكارٍ ونوايا تُترجَم بأعمال المحبّة والرحمة، فيتنقّى القلب بحضور الله وينتعِش ليُكرِم الله والإنسان القريب. فما نفعُ غسل اليدين إن لم يكن القلب مُطهراً من الأفكار والظنون السيئة؟

طلبَ ربّنا يسوع العودة إلى المعنى الصحيح للإيمان: أن يكون لنا قلبٌ مؤمنٌ بالله ونقيٌّ تجاه الإنسان. قلبٌ يبحث عن حضور الله شاكرً ممجداً. فالقلب النقي يرى عظائم الله من حولهِ، ويرى في الإنسان إبداع الله، فيخدمهُ مُحباً، ويُقدّس حياتهُ بتعبّدٍ صالحٍ ومُستقيم، فالعبادة الصادقة تنبع من القلب النقي ذو النظرة الصافية واللسان اللطيف الصادِق، الخالي من الكذب والرياء والخُبث. ربّنا يتحدانا قائلاً: "ما نفعُ الأيادي النظيفة والهيئة الخارجية المهيبة إن كان القلبُ مريضاً بالخُبثِ والرياء؟

ربّنا يدعونا اليوم لأن نتواجهُ مع دواخلنا مؤمنين أن الله الآب يسنُدنا بمحبتهِ ورحمتهِ، وينتظر منّا تعبداً نزيهاً وتوبة صادقة. إلهنا وملكنا يتطلّع إلى قلوبٍ نقيةً، متواضعة تنفتح للإهتداء ولا تتصلّب في كبريائها وتنغلق في ريائها، فيقدّس حياتنا كلّها، خارجاً وداخلاً، بعيدأً عن النفاق والإزدواجية. 

 كلام الله، إنجيل ربّنا يسوع ليس كتاباً للقراءة والتأمل فحسب، بل توجيهٌ للحياة. ربّنايقول لنا اليوم: أصغوا إليَّ كلكّم وإفهموا ... توجيهٌ صريح وواضح يتطلّب الطاعة من دون إبطاء: فليس أمامنا اختياراتٌ حرة نقبلها او نرفضها، فيُعلمنّا ربّنا يسوع أن نقاوة القلب هي التي تؤهلنا لمُشاهدة الله: "طُوبى لأنقياء القلوب فهم يُعاينون الله"، يشاهدونهُ في كل خلائقهِ الحسنة التي أبدعها. ذي القلب النقي يرى حضور الله ويشكر لمستهُ، بخلاف القلبِ السيء الذي يرى الشر. لذا صلّى المزمّر إلى الله قائلاً: "قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله" (مز 50: 12)

القلبُ النقي نعمة من الله. قلبٌ جعلَ أفكاره وإرادته منسجمة مع كل ما تقتضيه قداسة الله، قلبٌ يرى العالم والناس بعيني الله، فيجد القريب في حياته مكاناً لائقاً ويكون محبوباً. فلا يمكن أن يُستغلَّ أو يُحسب سلعة. قلبٌ تعافى وتطهّر من الظنون السيئة وتحرر من الأفكار الشريرة، ويرفض سمعاها أو نشرها بين الناس. قلبٌ قادرٌ على قبرِ المشاكل ليصبح جسرَ المُصالحة. قلبٌ يعرِف أن يشكر ويمدح ويُشجع ويبُارِك. قلبٌ متواضع لا يستمتع بالحديث عن خطايا الناس وهفواتهم ولا يطيب له أن يتحدث بها في كل مكان ويضخمها، لتظهر اخطاءَه الخاصة طفيفة. قلبٌ تائبٌ إلى لله يعرف أن هناك خشبة في عينيه تمنعهُ من رؤية القشّة في عين القريب (متى 7: 3- 5).

لذا، يدعونا ربّنا اليوم إلى ثورة على أنفسنا أولاً، لتكون مسيرة التوبة نحو الله من القلب فنعيش محبة صادقة للقريب لا رياء فيها ولا خداع، واضعينَ أنفسنا أمام الله مثلما نحن لا مثلما يُريدنا أن نكون. فعندما أضع نفسي أمام الله أكتشف خطيئتي، فلا أتسارع للحكم على الناس، لأنني سأرى الخشبة في عيني وهي ستمنعني من رؤية القشة في عيني أخي (متى 7: 5). علينا أن نفحص ضميرنا اليوم بصدق ونحن نشترك في وليمة ربّنا المسيح: هل كنت مرائياً في حياتي؟ متى وكيف؟ ومع مَن؟ هل أهتم بنظرة الناس أم بنظرة الله؟ هل استخدمتُ مواهب الله في حياتي لتمجيد اسمي ام لتمجيد الله!

 

الرابع من الصيف

عيد التجلي

ربّنا يدعونا للصلاة معه  (متى 17: 1- 9)

إعتاد رَبَّنَا يسوع على الصلاة إلى الله الآب، وكان يختار الأمكنة المنعزلة للصلاة أو صعود الجبل في خطوة للإرتقاء نحو الله ليكون في وحدة معه. فعلى الجبل تلقى موسى الوصايا، وعلى الجبل خاطب الله إيليا، وعلى الجبل ألقى رَبَّنَا يسوع تعليمهُ الأول على الجموع.

وفي إحدى مناسبات الصلاة هذه اختار ثلاثة من تلاميذه الذين إجتهدوا في محبتهم له، وكانوا قريبين منه، ليكونوا معه في لحظات الصلاة هذه، فأصعدهم الجبل، ولكن، التعب والنعاس غلبهم فناموا عميقا وإستفاقوا على مشهد "التجلي" إذ تجلّى رَبَّنَا يسوع أمامهم وتراءى نوراً ساطعاً وظهر إلى جانبه موسى وإيليا، فحسُنَ لهم هذا المنظر: "يا ربّ حسناً لنا أن نكون ها هنا". ولكن المسيرة خلف رَبَّنَا يسوع تتجاوز تفضيلاتنا الشخصية: أن نكون مع يسوع، فهناك ما هو أعظم: "إسمعوا له". هذه كانت كلمة الآب التي أكدّت بنوّة رّبنا يسوع، وعلى ما يطلبهُ منّا: "السماع" لربنا يسوع فالسماع له يعني إسكات بقية الأصوات ليكون هو وحده الطريق الحق للحياة. "السماع" يعني الرغبة في أن نعطي لصوت الله، رَبَّنَا يسوع المكانة التي يستحقها، فله السماع وحدهُ

فأول خطوة عملية للإحتفال بعيد التجلي هو: الإستعداد لسماع يسوع، قراءة الكتاب المقدس، الـتأمل في الإنجيل، فهذه الخطوات تغذي إيماننا وتقويه لمواجهة الصعوبات وتمييز إرادة الله. وهو أمر صعب جدا في هذه الأيام، لذا، نحن مُطالبون بالصلاة ولكن بحُسن إختيار أمكنة الصلاة أيضاً

ولكن كيف لنا أن نُصلي؟

هنا تأتي الخطوة الثانية التي تكمّل الخطوة الأولى، فمع السماع تأتي خطوة أن نشخص أنظارنا لتتوجه نحو رَبَّنَا يسوع مثلما فعل التلاميذ الذين تمنوا السكنى طويلا معه. فصعود الجبل لا يعني أبداً أننا قادرون على مواجهة تجربة التعب والكسل والنعاس، فالتلاميذ تخلّوا عن يسوع في ساعات صَلاتِهِم المتميزة، سواء أكان ذلك على جبل التجلي أم في بستان الزيتون. محبتهم له قربّتهم إليه، ولكن عليهم أن يجتهدوا في أن يبقوا ثابتين في هذه المحبّة، ليكون سماعهم "طَيِّبَا" لقلب الله

ولكن كيف لنا أن نحقق "السماع" الذي يطيبُ لقلب الله؟

هذا يبدأ من خلال تباعة رَبَّنَا يسوع وهو يصعد الجبل للصلاة، فساعة الصلاة ليست خلوة للحديث عن أنفسنا أمام الله، بل، للحديث مع الله، وهو الذي سيجعلنا نشعُّ نوراً. الصلاة إليه تطهّر حياتنا لتكون بيضاء خالية من كل حقد وعداوة وخبث ورياء. الصلاة إليه تجعلنا قادرين على تباعة رّبنا يسوع بإيمان وأمانة وحمل الصليب بإيمان. الصلاة تُطهرنا وتجعل حياتنا بيضاء كالثلج ليشع نور الله من خلالها ولا يُعيقهُ أي شي

فلننتبه ونحن نرتقي إلى الله في الصلاة لتكون صلاتنا إليه طلبَ إرادتهِ ومشيئتهِ دوماً مثلما فعل موسى، وإرادة وإستعداداً لإتمامها مثلما فعلَ رَبَّنَا يسوع المسيح. بهذا تتقدس حياتنا: أن نكون مع رَبَّنَا يسوع، أن نسمع إليه، أن نتبعهُ.  

إلهنا وملكنا طلبَ من الرُسل الثلاثة: بطرس ويعقوب ويوحنا أن يسمعوا إبنه يسوع المسيح، ومن خلالهم يدعونا جميعاً، بل يدعو العالم كلّه لكي يسمع ويطيع هذا الأبن الذي فيه النور والحياة. أن نسمعَ له على مثال مريم أمنا التي يقول إنجيل لوقا انها كانت تحفظ كلمة الله في قلبها (لو 2: 51)، والحفظ يعني أنها كانت تسمع الكلام وتتأمل فيه. أن نسمع له في أحداث حياتنا اليومية حتّى العابرة منها لأننا نؤمن بأنه الله الآب، والذي يستخدِم كل الطُرق ليصلَ إلينا. هذا السماع سيعمل على تطهير قلوبنا ويقوّي أيادينا لنترجم واقعَ متطلّباتِ إيماننا عارفين أننا سنُواجه صعوباتٍ كثيرة وتحديات صعبة.

هي دعوة إلى التوبة، إلى الصعود إلى جبلهِ للقاء شخصي معهُ، والمكوث في حضوره المنعِش والمُطَهِر. هي دعوة للصلاة معه وإليهِ، ومن خلال الصلاة سيكشُف لنا عن الطريق الذي علينا أن نسلكهُ في حياتنا. عالمنا يجرنا إليه، يشدنا بل يأسُرنا، هوذا صوتَ الربّ يدعونا لنصعدَ إليه، فيلبسنا هو ثوبَ البرارة من جديد. 

الأحد الثالث من الصيف

التوبة: هوية جديدة للإنسان (يو 9: 1- 38)

تعودّت الناس على أن تُلقي للمتسوّل نقوداً أو تترك له طعاماً أو ملابس، ويكون العطاء من الفائِض عن حاجاتهم، وتتوقّع الناس من المتسوّل أن يشكرهم على إحسانهم. ربّنا يسوع مرَّ في حياة هذا الأعمى، وأعطاهُ ما لم يُعطهِ آخرون: المحبة والرحمة والتي تمثلّت بالاهتمام والعناية به على نحو شخصي.

لم يسأل هذا الأعمى ربّنا يسوع العون، ولم يطلب أحدٌ من ربّنا التدخلَ لشفائهِ مثلما حصل في مناسباتٍ أخرى، ربّنا هو الذي أخذ المُبادَرة فتوجه نحو الأعمى وإنحنى أمامه متضامناً مع معاناتهِ، ووضعَ طيناً على عينهِ وخاطبهُ شخصياً: "إذهب وأغتسِل في بركة شيلوحا". هذه هي قُدرة الله الآب: محبتهُ لكلِّ إنسان وعلى نحو شخصي، وهذه المحبة ليست إهتماماً بحاجاتهِ الجسدية فحسب، بل، راح ربّنا يسوع يبحث عنه بين الجموع ليُثبتهُ في الخلاص الذي نالهُ ويجعل منه رسولاً له، فيتمجّد إسم الله دوماً ويُعبدَ إلهاً رحوماً: "فقال: آمنتُ وخرَّ فسجدَ له".

موقفٌ ربّنا يسوع هذا جاء خلافاً لما توقعهُ تلاميذه الذين كانوا يبحثون عن أسباب تعاسة هذا الإنسان. كما وعاكس موقف الكتبة والفريسيين الذين اتخذوا من الشريعة ذريعة لحبسِ الناس وتوبيخهم على سلوكياتهم التي لا تتوافق مع ما يؤمنونَ به. ربّنا يسوع، وجه رحمة الآب، جاء لا ليروي لنا أسباب ألمِ الإنسان وتعاستهِ، ولم يفرض الشريعة قانونا يحدُ ويُحدد بُشرى الخلاص، بل إنحنى نحو هذا المُهَمَش ليُقول له: "أنت مهمٌ في عيون الله"، "انا موجود لأجلِكَ"، آمن فتنالَ الشفاءَ ويتمجّد إسمُ الله إلهاً أباً ومُحباً.

لقد نالَ هذا الأعمى هويةً جديدة، فبعد أن كان يستعطي عطفَ الناس ويصرخ نحوهم ليجذبُ أنظارهمُ إليه ليُحسنوا إليه، أرسلهُ ربّنا يسوع إلى بركة شيلوحا (بركة الرسول)، وولِدَ من هناك رسولاً يشهدُ لقُدرة الله في ربنا يسوع، وحثَّ الناس لتؤمنَ بالبشارة من دونِ خوفٍ أو مساومة مثلما فعل والداهُ. وكشفَ في ذلك عن "العمى" الذي أصابَ الجميع، فلم يروا رحمة الله التي تجلّت في ربنا يسوع المسيح، ولم يتوبوا إليه، لذلك فهم عُميان منذ طفولتهم. هم آمنوا بإلهِ ديان يُحاسبُ الإنسان حتّى وقت معاناتهِ، متناسينَ رحمةٌ الله التي لم تحكُم الشعب الخائِن، مثلما لن تحكُم على الأعمى أو تدينهُ، بل رفعتهُ ليعيشَ إنسانيتهُ بكرامةٍ. ولم يتطلّب الأمرُ سوى "إنحناءةٌ مُحبة وصادقة" من ربّنا يسوع ويُشعرهُ بأنه إنسانٌ يستحقُ الإهتمام، حتى بعد أن أبصرَ طريقهُ. رحمةُ إلهنا ولمسةٌ ربّنا يسوع المسيح كشفتَ عن "العمى" الذي اصابهم، فكلهّم مهتمٌ فقط بمظهرهِ وتدينهِ وما الذي يقول الناس عنهم، حتّى والده، لم يُقدمان لأبنهما الأعمى الدعم والمساندة التي هو بحاجةٍ إليها في مثل هذه الأوقات، بل تهربوا خوفاً. وهذا هو "العمى" الحقيقي: إهتمامي بنفسي وبحياتي من دون أن أُبالي بما يعيشهُ الآخر من معاناة، لذلك قالَ الآباء الروحيون: "كلّنا يولَد أعمى منذ الطفولة".

لم يذكر لنا الإنجيلي يوحنّا إسمَ هذا الأعمى، وتعمّد في ذلك، لأنه يُمُثلنا جميعاً نحن الذين مراراً ما نُوقفُ الحياة أمام حدثٍ أو أزمة أو مُشكلة، ونتوقف عن الرؤية رافضين مواصلة السير خلفَ ربّنا يسوع المسيح، الرحوم الشافي. يروي لنا الكتاب المُقدس قصةّ نعمان السوري (نعمان الأبرص) في سفر الملوك الثاني (5: 1- 19) فنعمان كان ضابطاً مشهورأً في جيش آرام، ولكنه عانى من البرص، ففي حياة كل إنسان مهما كان عظيماً معاناة شخصية، صليبٌ عليه أن يحملهُ بإيمانٍ. قالت له خادمتهُ أن في إسرائيل (السامرة) نبياً عظيماً سيشفيه. نعمان السوري، الرجل العظيم يسمع لخادمتهِ في موقف متواضعٍ منه، فخاطِب ملكهُ والذي بدورهِ أرسل إلى ملكِ إسرائيل طالباً تقديم العون لنعمان، فشقَّ ملكُ إسرائيل ثيابهُ قائلاً: "ألعليَّ أنا الله الذي يُميتُ ويُحيي". رأى ملكُ إسرائيل الأزمة عسكرياً وظنَّ أن ملك أرام عازمٌ على غزو البلاد. فلما سمِعَ إليشاع النبي ما فعله الملك وبخهُ لعدم إيمانهِ وطلبَ منه أن يُرسل إليه نعمان الأبرص، وهو بدورهِ أرسلهُ ليغتسِل بمياه نهر الأردن سبع مرات.

غضبَ نعمان من إستقبال النبي له ومن أمرِ النبي وقرر العودة إلى ديارهِ حتّى أقنعه خدامهُ قائلين: "لو أمركَ النبي بأمرٍ عظيمٍ، أما كنتَ تفعلهُ؟ فكيفَ بالأحرى وقد قالَ لك: "إغتسِل وآطهر". فأطاعَ ونالَ الشفاء ووقفَ أمام النبي إليشاع ممجداً الله: "هاءنذا قد علمتُ أن ليس في الأرض كلّها إلهٌ إلاَّ في إسرائيل". وأخذ كومة ترابٍ، من تراب أرض إسرائيل، ليتعبدّ لإله إسرائيل فقط.

في حياتنا أخطاءٌ وأزماتٌ يُمكن أن نواجهها بقُدراتنا ومهاراتنا الفكرية والعلمية والتي تجعلنا مُحبطين من هولِ هذه الأزمات وجسامتها. لربما إرتكبنا خطايا نشعرُ بالأسى والحزن بسببها، بل ونُعذِب أنفسنا شعوراً منّا بالتقصير والإهمال، نسعى للتعويض غير عارفين إننا محبوسينَ في الماضي ولم نعد نرى المُستقبل مع إمكانياتِهِ. أو أن نواجهها بتواضعٍ فيها نقبلُ رحمةِ إلهنا الذي مدَّ يدهُ بربنا يسوع ليشفينا منها، مهما بدت الصعوبات والإعتراضات كبيرة خارجية كانت أم داخلية والتي تنتفض معارضة سيرنا طريق الشفاء الروحي.

"آمنتُ، وسجدَ"، وهذه هي خاتمة الشفاء الأعمى من بطنِ أمهِ، وطريق التوبة الصحيح. العودة إلى الله والتعبّد له بمحبة وصدقٍ، فالتعبد لغيره سواء أكانت طموحاتٍ أو منجزات أو أشخاص يُعمي عيوننا ولا نرى حضورهُ المُحِب من حولنا. لقد غيّر ربّنا يسوع حياة الأعمى، فإنتشلهُ من موضع الهدوء والإحسان والشفقة وأرسلهُ ليكون سبب خلافٍ حتّى مع أقرب الناس إليه. مسهُ ربّنا بنورِ الإيمان وجعلَ حياته في فوضى عارمةِ وتركهُ يواجهَ العالم وحده بعبارة واحدة: هذا الرجل هو من الله. وهكذا تنعمَ بالشفاء الجسدي والروحي معاً.

فهل لنا هذه الشجاعة لنكون مثل هذا الأعمى رُسل لربنا يسوع؟ 

 

الثالث من الصيف