المواعظ
 المطران بشار متي وردة

المطران بشار متي وردة

الأحد الرابع من الصوم

"الإنسان بحاجة إلى التوبة" (متّى 21: 23- 46)

ماذا تظنون؟ 

سؤال بدأ فيه ربنّا يسوع مثل الابنين وفيه وجهّ دعوتهُ إلى رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب ليتأملوا محبّة الله في حياتهِم، التي تجعلهُ، وهو الخالِق، يتصرّفَ كأبٍ مُحبٍ يتطلّع إلى محبتهم المجانية له. أبٌ يذهَب هو بنفسهِ إلى أبنائهِ ويطلُبَ منهم التعاونَ معه من خلال العمل في كرمهِ، في إشارةٍ إلى الآب السماوي الذي يتعاون مع الإنسان بيسوع المسيح طالباً منه العمل في مواصلة عمل الخلق والحفاظ على الخليقة مكاناً حسناً للعيش. دعوةٌ بيّن فيها الآب محبَته وحكمَتَهِ التي يُقدمها بتواضعٍ وإحترامٍ كبير لحُرية الإنسان. 

فلم يُميّز الآب في طلبِ العمل في الكرم بين إبنيهِ، فالطلب كان مُماثلاً: "يا آبني آذهَب اليوم وآعمل في الكرمِ"، والابن الصالح لن يكون ذاك الذي يُجيبُ بطيبِ الكلام، بل ذاك الذي يعملَ ما يُريدهُ الأب. ويبدو من رواية المثل أن للأبِ علاقةٌ ناضجةٌ مع إبنيهِ، فالأب ذهبَ بنفسهِ وطلبَ من إبنيه "العمل في الكرم" ولم يُرسِل لهما رسولاً، ولم يعد الآب إبنيهِ بمجازاة مثلما لم يُهدِدهما بعقابٍ بل تركَ لهما حُرية القرار، حتّى إن الابنَ الأول رفض الطلبَ ولم يخشَ العقابَ. الآب أرادَ من إبنيهِ ان يُحباه بحريةٍ دون البحثِ عن مجازاةٍ أو خوفٍ من عقاب. هكذا يُنشئ الله الآب عائلتهُ البشرية من خلال علاقاتٍ محبّة يهبُ فيها كل طرفٍ محبتهُ مجاناً: "مجاناً أخذتُم مجاناً أعطوا". وفي مثل هذه اجواء المحبّة كان بإمكان الابن الأول أن يُغيّر موقفهُ: يتوبُ ويعدَل عن قرارهِ: "نَدِمَ ومضى"؛ ذهبَ وعمِل في الكرمِ مثلما أرادَ الآبُ، فطلبُ الآب كان له مكانة خاصّة في نفسهِ، وجوابهُ القاسي لم يكن على مستوى العلاقة، وبقي يُفكّر في كل هذا، حتّى إهتدى إلى الحقيقة، وكشفَ في ذلِكَ عن ضميرٍ حيٍّ ورغبة في تحمل مسؤولية "أن يكون الابن". فجاء خمرُ الكرمٍ مُباركاً بعلاقة المحبّة التي جمعت الأب بإبنهِ وبالغفران المجانّي وبالتوبة الملتزِمة. 

أرادَ ربّنا يسوع في هذا المثل أن يُثير في نفوس رؤساء الكهنة وشيوخ الشعبِ إمكانية التفكير عميقاً في واقعِ حياتهِم، ليتعرّفوا إلى حقيقة مواقفهم أمام الله، فيُوقِظُ القلبَ والذهنَ والفكَر والضمير، ويحكموا على واقعِ حياتهم بأنفسهم: هذا أنت يا إنسان! هذا ممكن إن كان في الإنسان الرغبّة في البحثِ عن الحقيقة، في البحث عن الله. رغبةٌ تتقدُ فيه وتجعلهُ يحاول كل الطرقِ ليصلَ إليها، مثلما حصلَ مع تلميذي عمّاوس (لو 24: 13- 25)، ومريم المجدلية (يو 20: 11- 18)، والذين اكتشفوا أنه هو الذي كان يبحثُ عنهم ليجدهُم حيثُما هم. 

أرادَ ربّنا يسوع أن يدعو رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب إلى التفكير جدّيا في أن رفضهم وعصيانهم يُمكن أن يكون لهم فرصة للإنفتاح على حقيقة محبّة الله، الآب السماوي بيسوع المسيح، فتضحى الخطيئة والرفض والعصيان فرصة نعمةٍ، ويكونوا فعلّة مُحبين على مثال قلب الأب، لا من خلال أقوالٍ طيّبة، أفعالٍ مُلتزمةٍ: " لَيسَ مَن يَقولُ لي "يا ربّ، يا ربّ" يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متّى 7: 21). 

وإزاء عنادهم وعجرفتهم، وجه إليهم ربّنا يسوع تعليماً قاسياً منطلقاً إلى رؤساء الكهنة وشيوخ الشعبِ، من جوابهم على سؤالِ: "مَن مِن هذين الإثنين فعلَ إرادة أبيهِ"، ليُعلِنَ أن العشارين والزواني، والذين يرفضهم المجتَمع يسبقونهم إلى ملكوتِ السموات. فالذين يعدّونهم "حثالةً المجتّمَع"، تابوا على يدِ يوحنا المعمذان، فكيفَ لا يتوبَ المتضلعون في الشريعة؟ ولكن، تصلّبَ الإنسان في تكبرهِ ومواقفهِ، وإعتقادهُ "بسمّو مكانتهِ" يمنعهُ من رؤية علامات حضور الله في الحياة، ولذلك، كانت توبة رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب أشبه ما تكون بمعجزة. ما يُريده ربّنا يسوع هو: إهتداءُ القلب وندامةٌ صادِقة وتوبةٌ مُلتزِمة: "نَدِمَ ومضى". 

ربّنا يسوع يرى في كل إنسان حاجة إلى التغيير نحو الأفضل، ويؤمِن بإمكانية الإنسان في التغيير، إذا تواضَعَوقَبِلَ محبّة الله الآب الذي يُعطيه الفرصة تلو الأخرى ليتوبَ ويهتدي إلى محبتهِ. ربنّا يدعونا إلى التأمُل في الــ"نعم" التي نعلنها مراراً قولاً وننكرها فعلاً، لأنها "نعم" الشفاه وليست "نعمُ" القلبِ، والسبب هو: "نظرتُنا المتعجرفة" إلى أنفسنا التي تمنعنا من التعرّف إلى حاجتنا إلى التوبة ورؤية حقيقة حياتنا. 

فهل نشعرُ نحن، وقد وصلنا إلى منتصف الصومِ بحاجتنا إلى التوبة وإلى الغفران؟ وهل تأتي توبتُنا صادقة ومُلتزمة فنُعبّر بها عن ندامة وإهتداء جذري على مثال الابن الأول، أم إنها مجرّد عبارات طيّبة لا تحمل ثماراً مثل الأرضِ التي قبِلت البذار بسرعة ويبستَ مع شروق الشمس؟ إن كان شعورنا بالحاجة إلى التوبة يتحدد في زمن الصوم فحسب لأنه فترة توبوية، فنحن لسنا أفضل من رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب الذين لم يعترفوا يوماً بأنهم خطأة وبحاجة إلى غفران الله إلا في يوم كيبور (يوم التكفير)، حيث يحتفل جميع اليهود بطقوس توبوبة: يَشهَدونَ أَنَّهم يَعرِفونَ الله ولكِنَّهم يُنكِرونَه في أَعمالِهِم. فهُم أُناسٌ عُصاة غَيرُ أَهلٍ لأَيِّ عَمَلٍ صالِح" (طيطس 1: 16). وسُيبيّن لهم ربّنا يسوع أن عجرفتهم وعنادهم ستقودنهم إلى إرتكاب خطايا جسيمة. 

فليُساعدنا ربّنا لتكون الـ"نعمُ" فينا صادقةً وإن حصل وأن قُلنا "لا"، فلتكن هذه لنا فرصةً للتوبة والعودة إلى أبينا والانضمام إلى مشيئتهِ.

الأحد الثالث من الصوم

"محبّة وخدمة مجاّنية على مثالِ الإبن" (متّى 20: 17- 28)

أعلنَ ربّنا يسوع أن صعودهُ إلى أورشليم يتضمن حملَ صليبِ الألم وهو على يقين من أن الله الآب لن يتركهُ، بل سيُقيمهُ رباً، "وتَجثُوَ لاسمهِ كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبي 2: 10- 11). هذا الجلوس (التنصيب) ليس مكافأة بل هو إعلانُ مجدِ الابن من قبل الآب. في هذه الأثناء تقدمَت أم إبني زبدى، مُعترفةً بأنه هو المسيح، وطلبَت "ترقيةَ" إبنيها: يعقوب ويوحنا إلى مكانةٍ متميزة بين حلقةِ التلاميذ في ملكوتهِ المقبل: الجلوس عن يمين يسوع ويسارهِ، ويبدو أن يعقوب ويوحنّا هما اللذان دفعا والدتهما إلى طلب ذلك، لأن ربّنا يسوع حاورَ الثلاثةَ معاً جواباً على طلبِ الأم، ودعاهمُ إلى أن يُفكروا عميقاً في معنى الخلاص الذي يُريدهُ للإنسان، وما سيتوقعونهُ في المستقبل ومكانتهم في "الملكوت"، فطهرَّ نوايا عائلة بيت زبدى ليتأهلوا أن يكونوا من عائلة ربّنا يسوع. 

كان ربّنا يسوع قد أعلَن لتلاميذه أنهم سيجلسون على إثني عشراً عرشاً ويدينون أسباط اسرائيل الإثني عشر (متّى 19: 28)، وأرادَ التلميذان أن يُخصص لهما الكراسي المُتميّزة: اليمين واليسار. فجاء جوابُ ربّنا يسوع لهما: "أنتما لا تعرفان ما تطلبُان"، لأنه سبقَ وقال للتلاميذ جميعاً: "وكَثيرٌ مِنَ الأَوَّلينَ يصيرونَ آخِرين، وَمِنَ الآخِرينَ أَوَّلين" (متّى 19: 30). بعد بضع سنوات أمضياها مع المُعلّم عن قُربٍ واختبار عظمة رحمةِ الله بيسوع المسيح، يبدو أنهما لا يعرفان مَن هو؟ وما مضمون البشارة؟ فتصدُق صلاة المُزمّر: "وأَنا غَبِيِّ ولا عِلمَ لي وقد صِرتُ عِندَكَ كالبَهيمة، وأَنا معَكَ في كُلِّ حين وأَنتَ أَخَذتَ بِيَدي اليُمْنى. بِمَشورَتكَ تَهْديني ووَراء المَجدِ تأخذني." (مز 73: 22- 23).

انطلق ربّنا يسوع من غباوة التلميذين وجهلهما، ليُعلّمهما (وللتلاميذ وللكنيسة) عن مضمون البشارة التي يحملها للإنسان، ويُهديهما بمشورتهِ ويأخذهما إلى المجد الذي أعدّهُ هو لهما، وليس ما يرغبان هما فيه إنطلاقاً من رغباتٍ إنسانية يعوزها نضوج الإيمان. الأمر الأهم والذي تجسّدَ لأجلهِ هو: إعلان ربوبيةُ الله وخلاص العالم ليكونَ الإنسان بقُرب الله، ودعاهما ليتبعاهُ ويقبلا إرادة الله الآب في حياتهِما، مثلما قبلها هو، ليدخُلا في صُلب علاقتهِ بالآب، ليكونا أبناءً بالإبن، ربّنا يسوع المسيح: "أَتستطيعانِ أَن تَشرَبا الكأَسَ الَّتي سَأَشرَبُها؟ ويأتي جواب الأخوين: "نستطيع". جواب متحمّس جداً أثر فيه للضعف والجُبنَ" الذي فيهما وسننتظر أن يُختَبَر عملياً. فلم يعرفا مضمون جوابهما مثلما لم يعرفا ماذا طلبا، لأن الله الآب مُستعدٌ أن يُعطي ما لا يتوقعهُ الإنسان أو ينتظرهُ، إلهنا مُستعد أن يُعطي ذاتهُ للإنسان، فكم أن الإنسان غبيٌّ فيما يتمناّهُ. 

دعاهما ربّنا يسوع إذاً إلى أن يُشاركوه المصير: "تشربا من كأسي"، الكأس التي اعدها الله الآب للابن، كأس الطاعة: "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء! (متّى 26: 39)، وأن يكون فيهما الشعور الذي فيه، وهو: أن يكونَ مع الله الآب، وهذا يكفيهِ. فهو لا يتطلّع إلى شيءٍ أو يطمح في منصبٍ، كل ما يُريده هو أن يعملَ إرادة مَن أرسلهُ (يو 4: 34). عليهما ألا ينتظرا مكافأة على ذلِك، وهذا هو فعلُ الإيمان الصادِق. عليهما أن يتعلّما أن "طلبَ مشيئة الله والعمل بها" هو الأمرُ المُبتغّى، لاتّباع ربنا يسوع والبقاء معهُ ومُشاركتهُ المصير، هو الذي جاء ليعملَ مشيئة الآب (عبر 10: 5، 7). فالتباعة ليست البقاء بقُربِ يسوع، فحسب، بل أن نُشاركهُ المسيرة والمصير، أن نشُربِ كأس الطاعة لله الآب معهُ، وهذه نعمةٌ من الله الآب الذي يدعو الإنسان ليُشاركهُ حياتهُ الإلهية، فيهبَ ذاتهُ كلّيا لله مثلما وهبَ الله ذاتهُ للإنسان. 

طلبُ الأخوين وجوابُ ربّنا يسوع أثارَ مشاعِر الغضب في نفوس بقيّة التلاميذ، مما يُبيّن أن جميع التلاميذ فشلوا في فهمِ ما أرادهُ ربّنا يسوع وفحوى البشارة، يبدو أن الجميع أرادوا هذه العُروش المتميّزة: اليمين واليسار، ولكنهم لم يكونوا جريئين في طلبها مثل الأخوين. فدعاهم ربّنا يسوع إليه، وتحدّاهم ليتجاوزا تجربةً "العطش إلى المناصب والتسلط" الذي يسحق الآخرين، لاسيما الضعفاء والفقراء، ودعاهم ليُفكروا ويشعروا كأبناء الملكوت، ملكوت الله. فربوبيّة الله الآب ليست بالقوة المتغطرسِة، بل بالمحبة التي تخدُم الآخر وتُنعِش حياتهُ. وهذه المحبة جعلته يتجسّد لا ليقترِح أفكاراً أو تأملاتٍ وينتظر من الإنسان أن يعيشها، بل قدّم نفسه إنموذجاً، هو الذي اختار أن يُتمم مشيئة الآب واختار طريق المحبة الخدومة ليصلِ إلى قلبِ الإنسان، ويُخلّصهُ من التجارِب التي تتحدّاهُ. 

طلبُ الأم كان فرصةً ليواجه ربّنا يسوع تلاميذه بالشيطان الذي يحوم حولهما ويُجربهما برغبة التسلّط والمنافسة التي تهدِم العلاقات وتُزعزِع أُسس الكنيسة: "فلا يَكُنْ هذا فيكُم". ربّنا يسوع، وهو الابن، لم يطالب لنفسهِ بما يحقُّ للآب، ليكشِف عن أن "رغبة التلسّط والمنافسة" ليست موجودة في حياة الثالوث، لأن الثالوث هو محبّة. يكفي الابنَ أن يكونَ إبناً والآب أباً والروح روحاً، وكلٌّ يعمل من أجل مجدِ العلاقة، وهو يدعو التلاميذ (الكنيسة ونحنُ) لنكون صورةَ الثالوث على الأرض، فيضعَ كل واحدٍ نفسه في خدمةِ الآخرين، وأعطى ربّنا يسوع نفسه مثلاً ليقتدوا به، فانحنى وغسلَ أقدام تلاميذه ليُطهرِهم من "تجربة التسلّط" ومن "مشاعر المنافسة العدوانية. فرحنا ليس في المُجازاة وتمجيد الذات والتعظيم البشري، بل في أن نكون أبناءً لله الآب بالابنِ يسوع المسيح. ومن أجل أن نتعلّم كيف نعيش هذه الحياة الإلهية، يدعونا ربّنا يسوع إليه مثلما دعا تلاميذه إليه، لأنه يُحبهُم، هم خاصتهُ، ويُريدهم (ويُريدنا) أن نكون على مثالهِ هو.  

الأحد الثاني من الصوم

أنبياء كذبة وتلميذ صادق (متّى 7: 15- 21)

"إحذروا الأنبياء الكذبة"، هذا ما يطلبهُ ربّنا يسوع اليوم من تلاميذه، ومنّا أيضاً. الأنبياء الذين يسعون إلى تقديم تعليم فيه "مُساومة" على المبادئ التي أعلنها ربنا يسوع، وشكلاً من "الميوعة الروحيّة"، وعقيدة مُبسطة، و"كرازة بمغفرة الخطايا بدون الحاجة إلى التوبة، وبمعموذية بدون تأديب كنسي، وبشِركة بدون اعتراف، وبمحو الخطايا بدون ندامة. نعمةٌ رخيصة وغير مكلفة، فالنعمة الرخيصة هي نعمة بدون تتلمُذ. نعمة بدون صليب. نعمة بدون يسوع المسيح الحي والمُتجَسِد"(بونهوفر). 

يسعى الأنبياء الكذبة، وهم ذئابٌ خاطفة، إلى دخول الحظيرة بهيئة مقبولَة ومريحة للوصول إلى الخرِاف لا إلى الراعي. يُقدمونَ "تديناً وتقوى" تجعل الرعية تشعر بالراحة والإمتنان، إلى درجة أن الرعيّة لا تشعُر بالحاجة إلى "مُخلِص"، مثلما أن الشوك لا يحتاج إلى الكثير من الرعاية (الجهد) من الفلاح لينمو، فالأرض إذا تُرِكتَ ستُعطي شوكاً على نحوٍ طبيعي. هم مُخادعونَ ويُضلّون الجميع ويتنكّرون خلف أقنعة روحية وتقوى باطلّة. يطمحون إلى الحصول على "إمتيازات الخدمة": السلطة والنفوذ والشهرة والمال، لا على المسيح يسوع، فيعملون على إبعاد الرعية عن راعيها، ليعبثوا بالمؤمنين من أجل مصالحِهم. وباب هؤلاء "الأنبياء الكذبة" واسعٌ وطريقهم رحبٌ: "أَيُّها الفِرِّيسِيُّون، أَنتُمُ الآنَ تُطَهِّرونَ ظَاهِرَ الكَأسِ والصَّحفَة، وباطِنُكم مُمتَلِئٌ نَهبْاً وخُبْثاً" (لو 11: 39)

​مُشكلة هؤلاء "الأنبياء الكذبة" هي أن لهم "رِضى عالٍ عن ذواتهِم"، ويحسبون أنفسهم أكثر فهماً للحقائق، هذا من جهةٍ. ومن جهة أخرى حضورهم يزرع الشكوك داخل الجماعة (الكنيسة)، وحالة من "عدم الثقة" بين المؤمنين الذين يتساءلون دوماً: "مَن هو النبي الصادِق إذن؟" لذا، علّم ربّنا يسوع التلاميذ ضرورة الانتظار وعدّم التسرّع في الحُكم: "من ثِمارِهم تَعرِفونَهم". فالشجرة الرديئة ستُعطي ثماراً رديئة، فلا يستطيعون مواصلة الخداع طويلاً، لابد من أن تنكشِف حقيقتهم، لأن الإعتراف بالمسيح يسوع ربّا كان وما يزال مُكلفاً إذ يتطلّب تخلّيات عديدة، والتنازل عن امتيازات معنوية ومادية، حتّى إنه لا يُعطينا الحق بمُطالبةِ ربّنا يسوع بأي مُجازاة: "إِن الكأَسَ الَّتي أَشرَبُها سَوفَ تَشرَبانِها، والمَعمودِيَّةَ الَّتي أَقبَلُها سَوفَ تَقبَلانِها. وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني أَو شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، وإِنَّما هُوَ لِلَّذينَ أُعِدَّ لهم" (مر 10: 39- 40). 

"يا ربّ، يا ربّ، أَما بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ محاولات من قبِل كثيرين لجذبِ إنتباه ربّنا يسوع إلى منجزاتهِم، وهي شكلٌ جديد من الفريسيّة التي طالبَ ربّنا يسوع تلاميذه أن يتجاوزوها، بل أن يزداد برّهم على برِّ الفريسيين. لم يطلُب الربّ من تلاميذه التنبؤَ بإسمهِ أو طرد الشياطين أو صُنعَ المُعجزات، فهذه لم تكن غاية التلمذة، بل نتيجتهُا. ربّنا يُشيرُ إلى "هؤلاء الأنبياء الكذبة" قائلاً: "لقد عملتُم ما لم أطلبهُ منكم. سعيتُم وراء أفكارِكُم وتأملاتِكم. أنا أعرِفُ تلاميذي من خلال شهادة حياة تُبرِز إرادةَ أبي". لذا، ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!"

​مَن هو التلميذ الصادِقُ إذاً؟ هو: مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات". كلماتُ ربّنا يسوع هي دعوةٌ للعملِ إذا سمحنا لها بأن تتجسّد في حياتِنا، مثلما "جسّد" هو في شخصهِ إرادةَ الآب. فحياتنا المسيحية، وحياة التكريس على وجه الخصوص، دعوة لإظهارِ حياة الثالوث، حياة المحبّة. أن نسمحَ لها بأن تدخُل قلوبنا وتُغيّرنا (توبة) لتُعطيَ ثمراً صالحاً ووفيراً. هو بناء على الصخرة، اختيارٌ أساسي للإنسان العاقِل، يتضمّن "الإجتهاد في الحفر" وتعميق الأسس ورفعِ كل العوائق متجنباً السقوط في تجربة "الكسَل" التي يوفّرها "الرمل". ليس المُهم إذاً حجمُ البناء ومساحتهِ، بل "أين يُقام هذا البناء وعلى أي أُسس تمَّ بناؤهُ؟. والإنسان العاقِل يختار البناء على الصخرة، أي أن يكون إنسان التطويبات، مُصلياً الأبانا، ومُتكلاً على تدبير الله، متخلياً عن دينونةِ الآخرين. 

فأن تكون تلميذاً للابن يعني أن تحاول الإقتداء به، فتعمَل إرادتهُ وتُظهِر أبوتّهُ في واقعِ حياتِك اليومية، وهو يعني أن تسمَح له بأن يُعيد تنشئة حياتِك بكل أبعادها وجوانبها لتكون على صورةِ حياة الابن، الابن الذي كشَف عن صورةِ إبن الملكوت في "التطويبات": فقير الروح ووديعٌ، رحومٌ وطاهرُ القلبِ، مُسالمٌ وجائعٌ وعطش إلى البِر ومُستعدٌ لتحمّل الضيق والإضطهادِ، مُحِبٌ لأعدائهِ، بل مُستعدٌ لأن يموتَ من أجلهِم، تماماً على صورةِ الابن. فلن يسعى التلميذ إذاً إلى أن ينالَ إعجابَ الآخرين أو جذبَ أنظارِهم، بل يرغبُ في أن "يعرفهُ الربّ"، وسيعرفُه عندما تظهَر صورةٌ الابن فيه، هذه الصوّرة التي عملت على تغييرهِ. وسيقِف أمام الله الآب دون أن يُطالبهُ بمكافأة أو مجُازاة، مثلما يصرُخ المدعوون بالتديّن، بل أن دعوة الله تُفاجئه: "تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ". فيُجيبُه الأَبرار: "يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك ؟ومتى رأَيناكَ غريباً فآويناك أَو عُرياناً فكَسَوناك ؟ ومتى رَأَيناكَ مريضاً أَو سَجيناً فجِئنا إِلَيكَ؟" (متّى 25: 34- 39)

الأحد السادس من الدنح

"ربّنا يسوع المسيح: العريس" (يو 3: 22- 4: 3)

قدّمَ يوحنا المعمذان ربّنا يسوع لتلاميذه وعرفه لهم بأنه: "حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (1: 28)، وهو الذي سيأتي يُعمّذ بالروح القُدس، وهو إبنُ الله (1: 33-34). واليوم يُقدّمه لهم بأنهُ "العريس" وهو أحد الأسماء المُحببة لدى الله والتي بها عبّر عن محبتهِ لشعبه. انها محبةً اختارَت وغفرّت لأن رحمته تتغلّب على خيانة شعبه له كما أعلنَ عنها هوشَع النبي، والذي تزوج من آمرأة أحبها وأنجبت له أولاداً، ثم تركتهُ لتمارس البغاء فيأخذ المعابد الكنعانية، ولكنّ حبَّ النبي تغلّب على خيانتها فأعادها إلى البيت الزوجي (هوشع 1- 3)، ليؤكِد على أن حُبّ الله يتغلّب على خيانةِ الشعب لأنها محبّة أبدية لا تتغيّر بخيانةِ الإنسان، لأن الله ليس كالإنسان، ومحبتهُ تجعلهُ يجتذبُ الإنسان رحمةً: "إني أحببتُكِ حُباً أبدياً، فلذلِكَ اجتذبتُكِ برحمةٍ" (إر 31: 3)، ويأمُلُ الله أن يكون الإنسان جديراً بهذه المحبّة، وهو ما شدّدَ عليه أيضا ًالأنبياء إشعيا وإرميا وحزقيال، وغيرهم. 

علاقة العريس بالعروس، تكشِف عن طبيعة العلاقة التي تربط الله بشعبهِ بعهد أبديّ وليس مثل عقد بشري. فبخلاف كل الديانات الأخرى التي تكون فيها العلاقة مع الإله "عقدٌ" يُلزِم طرفي العلاقة بالحفاظ على بنودهِ، فإذا خالفها الإنسان إنصبَّ عليهِ غضبُ الإله. ولكن الأمر يختلِف مع الله. فالعلاقة مؤسسة على المحبّة والرأفة (العهد) وليس على العدالةِ (العقد) فحسب. فيضحّي خيرُ الشريك وسعادته همَّ الله الذي يدفعهُ إلى بذلِ ذاتهِ من أجل حياةٍ أوفر لشريكهِ الإنسان: أَيَّها الرِّجال، أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها لِيُقدَسَها مُطهِّرًا إِيَّاها بِغسلِ الماءِ وكَلِمَةٍ تَصحَبُه، فيَزُفَّها إِلى نَفْسِه كَنيسةً سَنِيَّة لا دَنَسَ فيها ولا تَغَضُّنَ ولا ما أَشْبهَ ذلِك، بل مُقدَّسةٌ بِلا عَيب" (أفسس 5: 25- 27)، بل متجاوزاً له خياناته. فتجسّدُ كلمةِ الله إذاً لم يكن ليدينَ الإنسان بل ليُخلّصهُ ويُعيدَه إلى بيتِ الآب: "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يو 4: 16- 17). 

محبّة الله إذاً أختارتَ الشعب: "لا لأِنَّكم أَكثَرُ مِن جَميع الشَّعوبِ تَعَلَّقَ الرَّبُّ بِحُبِّكم واخْتارَكم، فأَنتُم أًقَلُّ مِن جميعَ الشَّعوب، بل لِمَحبَةِ الرَّبِّ لَكم ومُحافَظتِه على القَسَم الَّذي أَقْسمَ بِه لآَبائِكم أَخرَجَكُمُ الرَّب بِيَدٍ قَوِّية وفَداكُم مِن دارِ العُبودِيَّة، مِن يَدِ فِرعَونَ، مَلِكِ مِصْرَ" (تث 7: 7-8)، ووهبَ له الحكمة ليعرِف كيف عليه أن يُحافِظ على صدق هذه العلاقة وصفائها. هذه الهبّة أصبحَت هبة جسدية بربّنا يسوع المسيح حكمةُ الله (1 كورنثس 1: 24)، فأتاحَ للإنسان فرصة ليشارك في حياة الله فيصيرَ إبناً في الابن يسوع المسيح. فعندما دعا يوحّنا تلاميذهِ ليفهمواً أن الله وهبَ لربّنا يسوع أن يكونَ حاملَ بُشرى الله فهو المسيح، وإن ما يحصل هو عرسٌ حقيقي لأن العريس (يسوع المسيح) حضرَ بينهم أخيراً، فهو يدعوهم (ويدعونا) إلى التيقّظ والإصغاء إلى بُشرى الخلاص التي تجسّدت بربنا يسوع المسيح، لأن الله الآب، بمحبتهِ، جعلَ التوبة زمناً لفرحٍ، بل لعُرسٌ أبدي. فيسوع هو هبّة الله، كلمتهٌ الأخيرة، وهو دعوةٌ للإنسان إلى التوبةِ. ربّنا يسوع ليس فرصةِ للتأمل والتساؤل أو الخصومةِ، بل يقظةٌ نحو قرارٍ حاسم: "تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة" (مر 1: 15). 

فبيسوع المسيح، نحن مدعوون إلى عُرسٍ، وعلينا أن نستعد للمُشاركة فيه. فنتخلّى عن إنشغالاتنا، ونخلع عنّا ما لا يليقُ بهذه الدعوة ونلبسَ ثياباً تُعبّر عن فرحنا باختيار الله لنا، شاكرين إياهُ على هذه النعمة التي تجعل مُشاركتنا صادِقة. فدعوته لم تأتنا إستحقاقاً منا بل نعمةً مجانية من سخاء محبة الله وهو يريدنا أن نكون جديرين بهذه النعمة. ربّنا يسوع عبَّرَ عن ذلك في قصّة الملك الذي أرسلَ عبيدهُ إلى الشوارع والساحات ليدعو الجميع إلى أن يُشاركهُ فرحَ عُرسِ ابنهِ (متّى 22: 1- 14)، فمعَ أن الملكَ كان مُستعداً ليستقبِلَ الجميع، إلا أنه كان ينتظر منهم أن يتهيأوا للعرس بثياب لائقة بهذا الحدث الكبير مُعبرين بامتنان عن فرح المُشاركة، لأن المَلك سيفتخِر بمَن شاركهُ الفرح، ويعني ذلك روحياً: التوبةَ الصادقة ليدخلوا عالمَ الله، ليعودَ الفرح والبسمة والجمال إلى حياتنا من جديد. فالدعوة إلى العُرس تحمل معها قوّة مُغيّرة. 

وكيف يكون التغيّير اليوم؟ 

"أَمَّا الآن فأَلْقُوا عَنكم أَنتُم أَيضًا كُلَّ ما فيه غَضَبٌ وسُخْطٌ وخُبْثٌ وشَتيمة. لا تَنطِقوا بِقَبيح الكَلام ولا يَكذِبْ بَعضُكم بَعضًا، فَقَد خَلَعتُمُ الإِنسانَ القَديم وخَلَعتُم معَه أَعمالَه. ولَبِستُمُ الإِنسانَ الجَديد، ذاك الَّذي يُجَدَّدُ على صُورةِ خالِقِه لِيَصِلَ إِلى المَعرِفَة" (قولسي 3: 8-10). فعلى سبيل المثال، أن نتخلّى عن مفاهيم المنافسة والخصومة التي عبّر عنها تلاميذ يوحنّا عندما جاؤوا يشتكون نجاح رسالة المسيح ونستيقظ لجديد الله الذي يأتينا بهِ. فالمنافسة السلبية تجعلنا نحيدُ عن "الهَدّف" الذي من أجلهِ تجسّد كلمةُ الله، وتُغذي فينا مشاعر العداوة والخطيئة، وتحرمنا من المُشاركة في هذا العُرس. رغبة المنافسة أضحّت قوّة مُدمرة لعلاقاتنا الأخوية وحتّى بعلاقاتنا مع الله الذي نتهمهُ مراراً بأنه يقف وراء سبب فشلنا، متجاهلينَ حقيقةَ أن الشّر استحوذ علينا، فصرنا نتراكض وراء الإنجازات والرُقي الإجتماعي والإغتناء المادي. وكلها تسبب لنا دماراً روحياً مؤسف وتقضي على الفرح بدعوتنا المسيحية.

الأحد الثالث من الدنح

"هذا حمل الله" (يو 1: 29- 53)

شِهدَ يوحنّا أمام تلميذيهِ بأن يسوع هو "حملُ الله"، وكانت هذهِ العبارة كافية ليترُكَ التلميذان مُعلمها ويتبعا ربّنا يسوع. ولكي نفهم معنى هذه العبارة علينا أن نعود إلى كُتبِ العهد القديم حيث أوصىّ الله العبرانيين إذ كانوا في مصرَ أن تذبحَ كل أُسرةٍ حملاً صحيحاً وتأكلهُ ليلاً وترش من دمهِ على أبواب بيوتها، فيجتاز ملاك الموت مساكنهم (خر 12: 5). وإستخدمّ إرميا النبي نفس العبارة "حمل" عندما عانى إضطهادَ أعدائهِ (إرميا 11: 19)، وتحدّث إشعيا عن عبد يهوه الذي سيموت ليُكفّر عن خطايا شعبهِ، ويظهَر كشاةٍ سيقَ إلى الذبح، وكحمل صامتٍ أمام الذين يجزونهُ ولم يفتح فاهُ (إش 53: 7). ورأت الكنيسة الأولى في ربّنا يسوع صورةَ الحمل، إبنُ الله المحبوب، وكلمتهُ الذي حملَ خطايا العالم، وبموتهِ صارَ للإنسان الحياة، لأن الله صالحَ الإنسان مع نفسهِ بيسوع المسيح.

أخطأ الإنسان وكان للخطيئة عواقِبُ على حياتهِ، فهي حرمتهُ من أن يكون في شِركة مع الله ولم يعدْ حارساً على حياة القريب بل أضحى ظالماً. ولأن الله محبّة ولا يُريد هلاكَ الإنسان بل خلاصهُ، أرسلَ كلمتهُ وصارَ بشراً وحملَ على نفسهِ عواقِبَ الخطيئة، مع إنه لم يُخطئ، ليتمتّع الإنسان بحياة الشِركة مع الله. في الخطيئة رفضَ الإنسان محبّة الله: "كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ. جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه". أرادَ الإنسان أن يعيشَ إنسانيتهُ وأن يكون َإلهاً من دون الله، فارتكبَ جرائمَ بحقِ القريب. لقد رفض واقعهُ الخاطئ، متجاهلاً أنه صارَ عبداً للخطيئةِ: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْداً لِلخَطيئَة. والعَبدُ لا يُقيمُ في البَيتِ دائِماً أَبَداً بل الابنُ يُقيمُ فيه لِلأَبَد. فإذا حَرَّرَكُمُ الابنُ كُنتُم أَحراراً حَقّاً" (يو 8: 34- 36). 

لم يستطع الإنسان بقواهُ الخاصة إذاً أن يتجاوز واقعهُ الخاطئ من جراء الخطيئة، فكانت حياةُ الشِركة مع الله مُستحيلةً. حاولَ الإنسان أن يستخِدم الشريعة التي وهبها الله له عوناً ليظهرَ من خلالها كاملاً ويعوّض عن الإهانة التي ألحقها بالله، ولكنه فشِل في كل مرّة، بل إزدادَ الدين عليهِ. فجاءت البشارة بيسوع المسيح: لن يكون عليكَ دينٌ؛ أنا سأوفيه عنّك، إبدأ العيش إبناً لله. عشّ حياتَك مُتحرراً من سطوّة غرائزِكَ ومن عبودية الخطيئة، لأنك مدعو لأن تعيش الحياة الإلهية. مغفورة لك خطاياك، واقبل الروح القُدس. 

إلهنا وهبنا إمكانية أن نكون مُبرَّرين بالإيمان بيسوع المسيح، لأنه في يسوع المسيح لم يطالب بحقهِ في التعويض عن الإهانة والتجاهل الذي لحِقَ به، بل عامَلنا بالمحبّة والرحمة والحزم ومنحَ لنا فرصة العيش كأناس جدد: "يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟ فَقَالَتْ: "لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ". فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: "ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً" (يو 8: 10- 11). كانت ثمة حاجة إلى إنسان بريءٍ لتتمَ المُصالحةُ بواسطتهِ، ليس لإرضاء غضبِ الله بل، بسبب الخطيئة التي أسرت الإنسان وجعلتهُ يُفكِر بأنه لن يحظى بالشِركة أبداً: "أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه:يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ" (لو 15: 18- 19). فالخطيئة إستغلّت الشعور بالعدالة تجاه الله لتُبقي الإنسان بعيداً عنه. وبسبب عدم وجود مثل هذا الإنسان تجسّد كلمة الله، ليأخذ على نفسهِ وزرَ الخطيئة، فتحمل الخيانة والنكران والرفض والسخرية والعذاب والصلبَ. لقد جعلَ ربّنا يسوع نفسه محروماً من الله ليعود الإنسان إلى بيتَ الآب ويستمتِع بالعُرس إحتفالا بعودتهِ. تعاملَ الناس مع يسوع كما نتعامل تماماً مع الله، مُستغلينَ طيبتهُ ومحبتهُ وصبرهُ، ونتمادى في الخطيئة.

عندما يُشيرُ يوحنّا إلينا للنظر إلى ربّنا يسوع بعبارة: "هُوَذا حَمَلُ الله" فهو يدعونا إلى أن نواجه حقيقة خطايانا، فهذا هو حمل الله الذي يحمل خطايا العالم، وهو يعني أنه يحمل خطيئتي أنا. النظر إلى يسوع المتألم والمرفوع على الصليب يجب أن يكون صادقاً إلى مرحلة فيها يواجه ربّنا يسوع قلوبنا الصخرية، ويكسِر صلابتها، ليبعَث فيها الحياة من جديد، تماماً مثلما فعلَ مع بطرس: "فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب إذ قال له: "قبل أن يصيح الديك اليوم، تنكرني ثلاث مرات" فخرج من الدار وبكى بكاء مراً." (لو 23: 61). وأمام هذه النظرة اعترفَ بطرس بخطيئته بحرية ونزاهةٍ من دون تبريراتٍ، وهكذا أتاحَ لله الفرصة ليغسل له قلبهُ ويُطهرهُ. لم يستخِف بمحبة الله ورحمتهِ، بل بكا بكاءً مراً. 

فإذا مات المسيح من أجلنا فهذا معناه أننا نحن مَن قتلَ ربنا يسوع وصلبهُ، خطايانا هي سببُ عذابهِ وموتهِ على الصليب: تجاهلنا لمُتطلّبات إيماننا المسيحي وتصرّفنا وكأننا لا نعرِف المسيح يسوع؟ تعظيمُ راحتنا ومصالحنا بل جعلها إلهاً يُعبَد فصرنا بسبب هذه العبودية فاسدينَ في نظرتنا وفي مواقفنا؟ ربّنا يسوع يسألنا من على الصليب: لماذا تتهم بطرس بنكراني، ويهوذا ببيعي؟ ماذا فعلتَ أنت اليوم؟ هل كنت زوجاً صادقاً في عائلتِك؟ هل كنت أماً مسؤولةً في بيتِك؟ هل عشتم دعوة الله لكم بمحبةٍ وبنزاهةٍ لا غشَ فيها؟ كل خطيئة فرصة للمُجرّب ليقول لربنا يسوع: أمِن أجل هؤلاء صُلِبتَ؟ 

الأحد الثاني من الدنح

كلمة الله: نورٌ لحياتنا (يو 1: 1- 18)

تدعونا أمنّا الكنيسة لنتأمل كشفاً جديداً (دنحا) عن "هوية" ربنا يسوع المسيح. فهو إبنُ الله المحبوب مثلما أُعلنَ يومَ عماذهِ، وهو مسيحُ الربِ الذي أُرسِلَ ليكونَ مع الإنسان، لاسيما الفقراء والمُهَمَشين والمُستضعفينَ، وهو كلمة الله الذي كان مع الله منذُ البدءِ وبه خُلِقَ العالم، وفيه خلاصنا لأنه "النور" الذي يُضيء حياتنا ويقودنا لنعيش حياة أبناء الله، وهذا كلّهُ صارَ لنا نعمةً من الله الآب، مثلما يُعِلِن إنجيل اليوم.

كما ولكشِف اليوم تعليم لحياتنا. فبدءأَ يوحنا إنجيلهُ بعبارةِ: "في البدءِ كان الكلمة"، وهي عبارة تأخذنا إلى الكلمات الأولى في الكتاب المُقدس، في سفر التكوين، إلى البدءِ الأول: "في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (تك 1: 1)، مُعلناً إيمان الكنيسة بأن "الخليقة كلها" تعود إلى لله الخالق، وهي في الوقت نفسه هدية للإنسان، وإننا، مع يسوع المسيح أمام فعلِ خلقٍ. كما ويُعلمنا ان الكلمة لم يُخلَق، بل كان مع الآب قبل إنشاء العالم، وبهِ وفيه صارَ الخلقُ بدءاً بالنور: "وقالَ اللهَ: "لِيَكُنْ نور"، فكانَ نور (تك 1: 3)، وكانت هذهِ أول كلمة نطقَ بها الله، فأبدعَ الحياة. وعندما تتجسّد كلمة الله في العالم: "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا" أصبح نورَ العالم: "ما دُمتُ في العالم، فأنا نورُ العالم" (يو 9: 5). هذا النورَ أخبرنا عن محبةِ الآب ورحمتهِ: "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه".

الإنسان الذي خُلِقَ على صورة الله، وأُعطي أن يكون "وكيلَ" الله ليعتني بالخليقة ويُديمَ استمراريتها، إلا أن الإنسان تعجرفَ وتوهَم أنه سيّد الحياة، وحجبَ نورَ الله عن حياتهِ، متوهماً أن له الحكمة (النور) ليحيا من دون الله، فكانت الظلمةُ والشر والخطيئة التي حطّت من كرامتهِ وجعلتهُ عبداً للخطيئة. أرادَ الله أن يُعيدَ للإنسان الكرامة المسلوبة بالخطيئة، فتجسّد: "والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا"، وفي تجسده تغيّرت العلاقة مع الله، فصارَ بإمكان الإنسان أن يراهُ ويلمُسه ويشعُرَ بقربهِ: "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة ... نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا لِتَكونَ لَكَم أَيضًا مُشاركَةٌ معَنا ومُشاركتُنا هي مُشاركةٌ لِلآب ولاَبنِه يسوعَ المسيح" (1 يو 1: 1-3). فالتجسّد أولانا إمكانية أن نرى ونسمع ونعِرف الله على نحوٍ جديد، بل أن نُشاركهُ أيضاً حياة الإلوهةِ وهذا صارَ لنا نعمةً بفضل علاقة الآب بالإبنِ، علاقة الله بيسوع المسيح. بل ومنحَ لنا أيضاً هويةً جديدة، إذ صِرنا أبناء الله بالإبن يسوع المسيح: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله".

هذا الوحي (التجسّد) لم يكن ليكشِف الله عن جبروتهِ وآلوهيتهِ، ولم يرغَب يوحنا الإنجيلي في أن يُقدم لنا تعاليم عقائدية، بل تعليماً لحياتنا، فالتجسّد صارَ من أجل الإنسان، وفيه يدعو الله الإنسان ليُشاركه حياة الألوهةِ. نحن لسنا إذاً أمام "مشهدَ" نُعجَب به أو تعليم نحفظهُ، بل إننا مدعوون إلى لقاءٍ الكلمة، لقاء المسيح، نورُ العالم، النور الذي يُنير الظُلمة التي نحن فيها ويمنح لنا حياةً جديدة، حياة أبناء الله. والإيمان بيسوع المسيح يعني: بدءُ علاقة جديدة مع الله، علاقة الأبناء بأبيهم، وأن ندع نورَ الله، يسوع المسيح، يدخل فينا ويشعَّ في حياة الآخرين، ليتمجّد عملُ الله فينا ومن خلالنا: "أَنتُم نورُ العالَم ... هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متّى 5: 14- 16).

التجسد يعني أن الله يُحدّثنا بالقُرب منّا، لأنه بيننا، في وسطنا، صارَ بشراً مثلنا، وسيكون هو أولَ من يُكمِل ما يطلبهُ من الإنسان. إلهنا لم يعد ذاك المُعلّم الذي يسأل موسى ليصعدَ الجبل ليُسلّم إليه كلماتهُ، بل نزلَ هو بنفسهِ ليعيشَ هذه الكلمة أولاً قبل أن يُعلِنها. وفي ذلك تعليمٌ للحياة لنا نحن الذين نسعى لنكون مُعلمينَ أكثر منّا عاملينَ. نحن الذين نجتهِد للحفاظ على "مكانة الشرف" "وإمتيازات المعلم والحكيم".

الإنجيلي يوحنا وكنيستهُ شهودٌ على واقع تجسّد كلمة الله بينهم. ففي التجسّد تركَ إلهنا مجدهُ؛ وكأنهُ تخلّى عنه، ووهبُ ذاتهُ للإنسان دون تحفظ. التجسّد هو عطيةُ الله للإنسان، والله أعطى ذاتهُ كلياً: "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يو 15: 13). ولأننا خُلقنا على صورة الله ومثاله، فنحن مدعوون لأن نتمثّل به، فنتعلّم العطاء بسخاء ومحبّة. إلهنا لم يُرسل لنا ملاكه ليُرشدنا إلى طريق الخلاص، بل تجسّد هو، وأخلى ذاتهُ وصارَ إنساناً مثلنا وعاش بيننا. أعطى ذاتهُ للإنسان، ليتعلّم الإنسان ألا يكتفي باعطاء ما يفضل عنهُ بل ما هو عزيزٌ على قلبهِ مثلما فعلَ إبراهيم فجعلهُ الله بركة لجميع أمم الأرض: "خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ" (تك 22: 1- 18).

         لقد صّرنا بربنا يسوع المسيح أبناء النور، وهو ينتظر منّا أن نشهدَ في حياتنا على أن نورهُ قد أشرقَ علينا، فنسلُكَ سيرة أبناء النور (أفسس 5: 8) في كل عملٍ صالح نقومُ به عن محبّة، وإحدى علامات حياة أبناء النور هي المحبّة الأخوية التي بها يعرفوننا إن كُنّا في الظلمات أم في النور: "مَن أَحَبَّ أَخاه أَقامَ في النُّور ولم يَكُنْ فيه سَبَبُ عَثرَة" (1 يو 2: 10). فلنُصلِ ليُنيرَ ربّنا يسوع حياتنا، فنرى بنورهِ. 

الأحد الأول من الدنح

أعلنُ سنةً مرضيةَ لله (لو 4: 14- 30)

أعلنّ ربّنا يسوع عن أصل رسالتهِ ومضمونها من خلال الإستشهاد بآياتٍ من نبؤة إشعيا النبي: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ". في ربّنا يسوع تمّت كلماتُ إشعيا النبي فظهرت هويته: إنهُ ذاك الذي مسحهُ الربّ (الماشيحا؛ المسيح) وهو يتحرّك بدافع الروح القُدس. الروح القٌدس هو الذي وجهّ نشاطه مُعبراً عن إتحادٍ مع الله الآب. تبشيره ورسالتهُ ليست إذاً بدافعٍ بشري ومن منطلقاتٍ ومُبادراتٍ بشرية، كأني به "مُعلّمٌ عظيمٌ" أو "رجلٍ حكيمٍ"، مثلما يظنهُ البعض. بل جاء بدافع من الروح القُدس يحمل رسالة للبشرية، ويدعونا إلى الإصغاء إليه. وهذا هو معنّى: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيّ"، أي أنه يحيا بفعلِ الروح القُدس. الحياة الروحية بالنسبة لنا ليست سلسلةَ تعبّدات تقوية فحسب، بل هي دعوة أن نعيش تحت أنظار الروح القُدس وأن ندعه يقود حياتنا. فالروح القُدس إذاً هو أصل رسالة ربّنا يسوع وسببها.

أما رسالته فموجهةٌ أولاً إلى الفقراء والمأسورين، للعميان وللمظلومين، ولكي يعلن سنة مرضية للربّ. سنةُ كان الشعب يحرِص على أن تكون مُكرسة كلياً لله من خلال شهادة حياة يكون لله فيها الأولوية فيُعيدون كل شيءٍ إلى حالتهِ الأصلية، كما كان في فكرِ الله، فيتحرر العبد ويُعفى الدين وتُعاد مُلكية الأشياء والأشخاص وتُبطَل زراعة الأرض ... وغيرها من التوصيات (أح 25: 8- 17)، فالإنسان أفسدَ تدبير الله في تعاملهُ المُستهلِك والأناني في العالم. وبالإضافة إلى ذلك، فقد بدأت مع ربّنا يسوع بدأت سنةٌ مرضيةٌ لله، أي بدأ الزمن الإلهي، وعلينا أن نعيش حياتنا كل يومٍ واعينَ لحقيقةِ: أن أيامنا هي جزءٌ من زمن الله. هذا الزمن ليس عبثياً أو فوضوياً، بل هو زمنُ الخلاص، لأن الله أرادَ خلاص الإنسان منذ البدءِ.

ربّنا يسوع، الذي أُعلَن للجميع يوم عماذه: "أنت إبني الحبيب بكَ سُررتُ" (مر 1: 11)، أرادَ في شهادة حياتهِ أن يُبيّن معنى: "أنني إبنُ الله الحبيب"، فهذه البُشرى لم تكن مدعاة للإفتخار بل دعوة إلى الألتزام، فالأختيار: أنت محبوب (روحية)، حلَّ على ربّنا يسوع وحملَ معهُ تكليفاً (أخلاقية) بأن يكون مُحبّاً. عاش ربّنّا حياتهُ كفعلِ شكرٍ دائمٍ تحت أنظارِ الله المُحب فكان له الإله والآب، وبيّن لنا كيف نعيش كلمة الله: "أحبب الربًّ إلهكَ من كل قلبِكَ، وكلِّ نفسكَ وكل ذهنِكَ وكل قوّتكِ، وقريبكَ مثل نفسكَ" (مر 12: 29- 31)، من خلال محبّة أصيلة لا غشَّ فيها. محبّة الله تتضمّن بالضرورة الإهتمامَ بما يهتمُ به الله، ولا سيما بالإنسان الفقير والحزين والمُعذّب والمأسور والمريض.

هكذا سيكون لرسالة ربّنا يسوع المسيح إنطلاقة روحية: فالله هو الذي مسحهُ بروحهِ فكرّسه لرسالةٍ، مثلما سيكون لها مضمون يأتي كبُشرى سارّة للإنسان الفقير والمسجون والمظلوم والأعمى. لا يُمكن أن تكون المسيحية علاقة خاصّة بين الله والإنسان الفرد فحسب. بل إنطلاقة من علاقة شخصية نحو رسالة للجماعة، مثلما سيوضحّها متّى لاحقاً: "تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ" (متّى 25: 34- 36). هذه هي أخلاقية أبناء ملكوت الله، أخلاقية تعني عملياً: أن يلتزمَ الإنسان بمسؤوليتهُ في أن يكونَ مثلما يُريده الله أن يكون: محبوباً ومُحباً. وهذا أمر يتطلب السير في طريق يقودنا فيهِ بُكرنا ربّنا يسوع المسيح، فنحن نعيش زمن رضى الله.

مع ربّنا يسوع بدأت سنة مرضية لله، اليوم ليس بعدُ يومنا بل هو يوم الله، صارَ مُلكَه. وبدءُ مسيرة الإيمان الناضج يكون عندما نعي حقيقةَ: أننا نعيشُ تحت أنظار الله الآب اليوم؛ وكل يومٍ، وهو الذي يهبُ لنا كلَّ يومٍ لنُبشِر من خلال شهادة حياتنا: أننا أبناؤهُ المحبوبونَ. وكلّما توهّم الإنسان أنه "سيّد وقتهِ" دخل في ظلمةٍ وجهالةٍ: "فقالَ لَه الله:يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟ فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله" (12: 20- 21).

علينا، ومثلما كتبَ بولس إلى الغلاطيين أن نتعلّم صنعَ الخير: "فما دامَت لَنا الفُرْصَةُ إِذًا، فَلْنَصنعَ الخَيرَ إلى جَميعِ النَّاس ولاسِيَّما إِلى إِخوَتِنا في الإِيمان" (6: 10). لا يجوز إضاعةُ الوقت في قضايا وأمور تافهةٍ. فكل يوم وكل لحظةٍ يهبهُا الله لنا يمنحنا فيها فرصة أن نجعل منها فرصة إرضائهِ، لأننا نعيش في زمن رضاهُ. سنة رضى الربّ فرصةٌ فيها نشكر الله على اليوم الذي يُنعِم به علينا، ودعوة إلى المثابرة على مسيرة الإيمان في سبيل تحقيق معنى حياتنا المسيحية، مٌتمثلينَ بربّنا يسوع، ومُستعدين لمواجهةِ التحديات التي نختبرها في حياتنا سواء أكانت شخصيةً أو آتية من الآخرين، كما جرى لهُ في مدينتهِ حيثُ أرادَ سُكانها أن يقضوا عليهِ "يُمسكوا به ليكونَ لهم وحدهم". هذا الثبات وهذه الأمانة متجذّرة في أمانة الله تجاهنا هو الذي يُريد بيسوع المسيح أن يصلَ إلى الجميع، إلى المُهَمَشينَ والفقراء، وأن يكون قريباً منهم. أمانة وثباتٌ من إنسان حُر ومُحب وناضجٌ، يعرِف أن الله يحبهُ. فلا يبقى لهُ، أن يبحث عماّ يُرضي أناهُ، بل عما يُرضي الله الآب. 

عيد الختانة (رأس السنة الميلادية)

نحن مُكرسون لله الآب (لو 2: 21- 28)

تدعونا أمنّا الكنيسة اليوم للتأمل في دعوتنا التي إبتدأت من الله الذي اختارنا فكرّسنا له، فهذا هو معنى الختان: "أنه مفروز ومُكرس (مُخصصٌ) لله، لأنه هبةُ الله، في إعترافٍ صريحٍ أن كل ما لنا هو منه وإليه. وهذا التكريس لا يحطُّ من كرامتنا، بل يجعلنا له أبناء: "أمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا" (يو 1: 12- 13)، لذا، نسمعَ سمعان الشيخ يُرتِل مُسبحاً الله: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل". فهذا الطفل هو هبةُ خلاصٍ من الله، وهو يُمثِل إنتظاراتِ البشرية كلّها، والأمرُ الأهم هو: إنه البكرُ، أي الأخ الأكبر الذي يفتتحِ أمامنا الطريق الذي يُوصلِنا إلى فرح الله.

اليوم، ونحن نختُم سنةً أُعطيت لنا لنُحقق فيها مضمون دعوتنا المسيحية. فلنسأل أنفسنا: كيف تعاملنا مع عطيّة الله لنا؟ فقد أعطى الله كلاً منا وزناتٌ وفقَ إمكانياتنا وقُدراتنا، وينتظر منّا أن نُقدِم حساباً عنها، مثلما علّمنا ربّنا يسوع في مثل الوزنات (متّى 24: 14- 30). إلهنا يثقُ بنا وهو يدعونا إلى أن نثقَ بثقتهِ بنا. وهبنا ربنا كل مالهُ، سلّمنا يسوع المسيح، كلمتهُ، وينتظّر منّا أن نُسمِعَ هذه الكلمة بُشرى سارّة إلى الآخرين من حولنا. هو يعرِفنا على نحو شخصي، فأعطى وزناتٍ كلٌّ وفقَ طاقتهِ، إنطلاقاً من محبتهِ لنا. محبةٌ تتفهم واقعنا، وتدعونا إلى أن نجتهِد في البحث عن خيرنا بعيداً عن دوافع الحسد والغيرة التي تُرهقنا: "لماذا أعطاني وزنتين ولم يهبَ لي أكثر؟ ما الذي يُميّز هذا وذاك عنّي؟ أسئلة مثل هذه كفيلةٌ بأن تقتل فينا الحياة. نتذكّر كلمات المُزمّر: "يا رَبِّ قد سَبَرْتَني فَعَرَفتني، عَرَفْتَ جُلوسي وقِيَامي. فَطِنتَ مِن بَعيدٍ لأَفْكاري. قَدَّرتَ حَرَكاتي وسَكَناتي وأَلِفتَ جَميعَ طرقي. قَبلَ أَن يَكونَ الكَلامُ على لِساني أنتَ يا رَبُّ عَرَفتَه كلَه" (139: 1-4). الربُّ يثقُ بي، ويعرفني ويدفعني إلى أن أعيش جميع الإمكانات التي وهبها لي، حتّى تلك المجهولة بالنسبة لي، فالصعوبات الشخصية لن تكون، لي مع الله الآب عائقاً بل تكون تحدّياً يحفّزني على المزيد من الإلتزام والشجاعة.

نحن مدعوون إذاً لأن نستلِم هذه الوزنات، هذه الأيام، السنة الجديدة التي تُعطى لنا، كزمنٍ مُباركٍ نشكرُ فيه الله لأنه اختارنا وكرّسنا له، ومنح لنا فرصة أن نكون له شُركاء، تماماً مثل الخادم الأول والثاني اللذين إهتما بإستغلال الوزنات ولم يحسبوا أنفسهم عبيداً للسيد بل شُركاء، وأسرعوا نحو العمل والمتاجرة دون إبطاء أو تردد، ولا قلق في شأن عودة صاحبها. يكفي الخادمين ثقة السيّد بهما. فجاء سفر السيد الطويل فرصة ليُحققوا فيها ذواتهم وينموا وينضجوا ويتحملوا مسؤولية حياتهم إنطلاقاً من: السيّد وثقَ بي وسلّم إليَّ مالهُ، فعليَّ أن أُبرِهِنَ له عن كوني جديراً بهذه الثقة. ثقة السيّد بهم ومحبتهُ لهم غيّرتهم من حالة الخدم (العبيد) إلى الشُركاء، الأبناء، يحملوا للسيد محبّة ما كانت لتكون لولا مُبادرتهُ هو تجاههم، مُبادرة مُحبّة حملت للطرفين ثماراً، وزناتٍ أخرى. فالثمار جانبٌ أساسي في العلاقة. يقبَل السيد مشاعر الود والإحترام والمهابة من الخدم، ولكنه يُريد أن يرى ثمارَ هذه المحبّة: يُريد زيادة الوزنات.

محبة الله وثقتهُ تخلقُ الإنسان من جديد، مثلما خلقت خدم السيّد ونقلتُهم من حالة الخدم إلى حالة شُركاء، والتي تضمنت دعوة المُشاركة التامّة في حياة السيّد، فيُصبح اهتمام السيّد وانشغالاته انشغالهم وهمهُم على نحو شخصي: "فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ" (لو 15: 31). من الآن منح لهم السيّد الفرصة ليروا الحياة من منظاره هو، بعيونه هو، وأن يتحملّوا المسؤولية معه. فلم يكن السيّد مهتماً بالأرباح التي قدّمها له الخدم، ولم يُحاسبُهم على ذلك، بل كان مهتماً بموقفهم إزاء الوزنة، ووهبَ لهم ما بقُدرته أن يُعطي وهو: الفرح، والفرح هو هبتهُ العُظمى: "قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً" (يو 15: 11). هو يُعطي ذاتهُ: "إدخل إلى فرحِ سيّدك"، بمعنى: تعال نتقاسم الحياة معاً، عارفين أنه ليس فرح عاطفي أو مُتعة عابرة بل فرح كلّف الخدم جهداً وتعباً ومجازفة. وقبِل السيّد منهم جُهدهم وأتعابهم، بل باركها.

إلهنا وهبَ لنا سنة كاملة أرادَ فيها أن يكِشِفَ لنا عن محبتهِ، فكيفَ تعاملنا مع هذه العطيّة؟ ملكنا وربنا يهبُ لنا سنة أخرى مُحملّة بفرصٍ جديدة فهل لدينا رغبة واستعداد لنُبادلهُ المحبّة ونثقَ بثقتهِ فينا؟ نحن مُكرسونَ له، فكيفَ سنعيش تكريسنا المسيحي في عالمٍ مُضطرِبٍ بالصراعات والحروب والنزاعات؟ فينا جميعاً مخاوفُ بسبب ما اختبرناه من صعوباتٍ وأزمات خلال السنة الماضية، مخاوفُ قد تجعلنا، نتراجع أمام المُبادرات الجديدة. البابا فرنسيس يدعونا قائلاً: "يجب أن نتساءل (دوماً) ماذا نفعل كي تنمو كلمة الله لدى الآخرين. إن الرب يعرفنا شخصيا ويوكل إلينا ما يتلاءم مع كل واحد منا، لكنه يثق بالجميع! فلا نخيّبنَّ آمالهُ فندع الخوف يشل تقدمنا الروحي.

عيد الميلاد

وهو المسيحُ الربّ ... فلنُمجدهُ ونُسبحهُ يومَ ميلادهِ (لو 2: 1- 20)

كعادة كل عامٍ نجتمعُ اليوم لنحتفل بميلاد ربّنا يسوع المسيح. ويدعونا لوقا الإنجيلي لنتأمل الطريق الذي إتخذه الله ليكون قُربَ الإنسان، مع الإنسان، طفل يُولد وسط عائلة مُهجرة تبحث مأوى، ولا تجد مكاناً، في تعبيرٍ عن حالة الإنسان المنشِغِل دائماً عن الله، فلا مكان لله في قلبِ الإنسان. وتستمر الحال على ما  هي عليه كل سنةٍ: نجتمِع لساعاتٍ ونحتفِل لأيام ثُم نعود إلى ممارسة حياتنا وكأن شيئاً لم يحصل أبداً، فتعود الملائكة إلى السماء لتُبلِغ الله: شعبُك لا يُريد أن يقبَل البُشرى السارة التي تعلنها لهم، ولا تغيير في حياتهِم، فميلادُك كان للحظاتٍ فقط.

ولكن، أي تغيير ينتظره الله منّا في ميلادهِ اليوم؟ أوَ لا يكفي أننا إنسحبنا من عالمنا وأشغالنا وخصصنا له هذه الساعات؟

نُريد في هذا الميلاد أن يحصلَ تغيير في حياتنا وذلك بإعلان وعيش حقيقة في حياتنا: أن يسوع هو المسيحُ الربُّ مثلما أعلنهُ ملاكٌ الربّ للرعُاة، من خلال الإيمان به شافياً لجروحاتنا ومخاوفنا، وأن ننضمَ إلى جُندِ السماء فنُمجدهُ على حضوره معنا ومرافقتهِ لنا.

الميلاد ليس إحتفالية بل مسيرة نحو ... قيام من حالة نحن فيها وتوجهُ نحو واقعٍ جديد. فما نفعُ الميلاد إن أتى ومضى وتركنا حيثُما نحن من دونِ أي تغيير في حياتنا؟ المحتفلون بميلاد ربّنا يسوع كانوا أُناساً متحركين: يُوسف ومريم والرعاة والمجوس، أناساً في مسيرةٍ، حُجاجاً دفعتهم بُشرى الميلاد إلى أن يتركوا أراضيهم وأوطانهم واشغالهم ومواشيهم ليكونوا حيثُ أرادَ الله أن يكون. حجٌ وقيامٌ تطلّب شجاعةً للتخلي عن المُعتاد الذي تعوّدنا عليه، ليلتقوا الله طفلاً طلبَ السُكنى في مريم فوجدَها مُكرسةً كلياً له: "وجاؤوا مُسرعين، فوَجَدوا مريمَ ويوسُفَ والطِّفلَ مُضجَعاً في الـمِذوَد". وهكذا اختبروا الخلاص الذي بشرهم به الملاك. المولود هو مُخلصٌ وهو المسيحُ الرب، وقد اختار أن يكون خادماً ومأكولاً فاستقرَ في مذودٍ (مخصص لإطعام الحيوانات) ليكون في خدمة الإنسان، ليس مُخلصاً ورباً فحسب، بل، ليبقى معه ويُغذيهِ (الافخارستيا)، فيواصِل المسيرة وقد تقوى بخُبزِ الله مثلما أختبر ذلك إيليا النبي (1 ملو 19: 5- 8). 

"المسيحُ الرب"، ربٌّ يُعبَد ويُمجّد إلهاً أوحد في حياتنا. عندما يُعلِن جُندُ السماء أن المولود هو المخلص وهو المسيح الرب، فهذا هو إقرارٌ إيمان يُريد الله ان يُذكرنا به، فيعود بنا إلى أولى الوصايا: "أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذي أَخَرجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة. لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي" (خر 20: 2-3)، لأن الله عارفٌ أننا نعبدُ آلهةً كثيرة: الشُهرة والمال والسُلطة والمكانة المتميزة وتحقيقُ الإنجازات والحصول على الإمتيازات ... إلخ"، لذلِك، يُريد أن يُذكرنا اليوم بأن الآتي هو "الربُ الأوحد"، وهو مَن يستحقُ التمجيد والعبادة، وفي تعبدنا هذا له سيُحررنا من كل مخاوفنا وهمومنا وقلقنا وحاجاتنا وطموحاتنا وسعينا لتحقيق الإنجازات وانتظارات الآخرين. نحن نستنزف طاقاتٍ وأوقات ومشاعر للحصول على رضى هذا وذاك من الناس، فتجدُنا متعبين ومرهقين نرزحُ تحت حملٍ ثقيل. اليوم، تأتي بُشرى الميلاد لتُعلِنَ لنا: "لست مُجبراً يا إنسان على أن تُرضي الناس، بل قُم وأسرع لتقبل الله المولودَ طفلاً من مريم، هي التي قدّمت حياتها خادمةً لله، وتهيأت لحضورهِ وهي مستعدةٌ لأن تُقدمهُ لكلِّ مَن يحجُّ إليهما.

ربّنا يسوع ينتظر أن يكون لنا الشجاعة لأن نجعل قلوبنا تُعيّد عيدهُ، فنترُك جانباً مشاعر الغضب والبغض والعداوة والحقد التي تأسرُها لتكون قلوبنا وحياتنا له كُلياً ويملكَ عليها مسيحاً (مُخلِصاً) ورباً. فينا غضبٌ موجهُ ليس ضدّ القريب فحسب، بل ضدّ الله أيضاً. مُعظمنا يظنُ أن الله ليس عادلاً ورحوماً ومحباً معنا، فحرمنا من خبراتٍ أو أشخاصٍ او إمتيازاتٍ ومراتب شرفٍ نستحقها. فينا شعور بأن الله والعالم لم يُنصفنا. هذه المشاعر الغضوبة حولّـت قلوبنا وجعلتها صخرية يابسة لا حياة فيها ولا تشعر بحضورِ الله ولا تتحسس قُربهُ، لذا، صارت الحاجة إلى أن يخلقُ الله فينا قلوباً من لحمٍ ودمٍ مثلما تنبأ حزقيال: "هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: إِنِّي سأَجمَعُكم مِن بَين الشُّعوب، ...وأُعطيهِم قَلبًا آخَر، وأَجعَلُ فيهم روحًا جَديدًا، وأَنزِعْ مِن لَحمِهم قَلبَ الحَجَرِ وأُعْطيهِم قَلبًا مِن لَحْم، لِكَي يَسيروا على فَرائضي ويَحفَظوا أَحْكامي، ويَعمَلوا بها فيَكونونَ لي شَعبًا وأَكونُ لَهم إِلهًا. أَمَّا اَلَّذينَ قُلوبُهم تَسيرُ نَحوَ قُلوبِ أَرْجاسِهم وقَبائِحِهم، فأَجعَلُ سُلوكَهم على رُؤوسِهم، يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ" (حز 11: 17- 21).

 ربّنا يسوع ينتظر أن يجد في قلوبنا مكاناً يُولدُ فيه، وهذا لن يكون ممكناً إلاَّ إذ استأصلنا من قلوبنا وإلى الأبد الغضبَ والضغينةَ التي نشعرُ بها تجاه هذا وذاك من الأقرباء أو المعارِف، وحتّى تجاههُ. ربّنا يسوع لم يتجسّد حتّى يقبل هدايا مادية، بل جاء يبحث عنّا، نحن الذين أغلقنا أبواب حياتنا حزانى ينقصنا الفرح ويملأها الخوف فيجعل حياتنا في ظلمةٍ الشكوك والظنون والأوهام والمخاوف التي تأسرنا وتشلُّ حياتنا. لذا، جاء اليوم ليقول لنا: "لا تَخافوا، ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: "وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ. وإِلَيكُم هذِهِ العَلامة: سَتَجِدونَ طِفلاً مُقَمَّطاً مُضجَعاً في مِذوَد". إلهنا يُريد أن يُنيرَ ظلمتنا ويشفى جراحاتنا ويُطيّب حياتنا بحضوره، فلنقُم ولنمضِ إلى حيثُ يُريدنا الله أن نكون، فلا نبقى محبوسين في "ظُلمتنا"، هو نورُ حياتنا: "وأَشرَقَ مَجدُ الرَّبِّ حَولَهم".

والتغيير الثاني الذي يريدهُ ربّنا منّا هو أن نكون مع جُندِ السماء ممجدين ومُسبحينَ الله، وزارعي السلامَ على الأرض: "وانضَمَّ إِلى الـمَلاكِ بَغَتةً جُمهورُ الجُندِ السَّماوِيِّينَ يُسَبِّحونَ الله فيَقولون: "الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه!"، فإن كُنا نُريد أن نكون من أهلِ رضاهُ، لنهَبْ قلوبنا له، ولنضبُط لساننا وشفاهنا فلا تنطق إلا بالحق ولا نتكلم إلا بما يُرضي الله ويُمجدهُ. كلامنا أضحى تمجيداً لذواتنا وتحقيراً للآخرين. تعظيماً لإسمنا وتصغيراً لاسم القريب. مدحاً لمكانتنا وإهانةً لمكانةِ الآخرين. لذا، جاء جُند السماء ليُعلمونا أن إحتفالية الميلاد لن تكتمِل إلا بتمجيد الله، فيكون على الأرض وبين الناس السلام. فالمسيحية ليست تعاليم ووصايا بل هي حياة نعيشُها في الأرض على نحو يرى الآخرون فينا أثرَ وتأثيرَ حضور الله فيها: عمانوئيل. مَن يرانا ويتعامَل معنا سيقول: لقد وُلِد الله حقاً في حياة هذا الإنسان. الفمُ الذي تعلّم تمجيد الله لن ينزلق في ثرثرةٍ مُهينةٍ، وسيكون كلامهُ كلام نعمةٍ وطيبةٍ وسلامٍ، وهو ما نحتاجهُ جميعاً، لاسيما في هذه الأيام التي لنا فيها فرصة لنتواصَل مع الآخرين أو نتقاطع معهم.

فإذا جئتَ اليوم لتحتفِل بميلاد ربّنا يسوع لا تترُك للمجرب أن يجعلَك تحتفِل به ظاهراً، بل، احمل الطفلَ وقرّبهُ إلى قلبِكَ، وأجعلهُ يشعرُ بما تشعرُ بهِ، وسلمّهُ مخاوفَك وأحزانِك وهمومِك، فهو كفيلٌ بأن يضعَ في فمِكَ تسبحةَ شُكرٍ له، فتُنشِد مع الملائكة: "الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه!".

عيد عماذ ربّنا يسوع المسيح

التواضع بدءُ وحي الله (متّى 3: 1- 17)

لبّى ربّنا يسوع المسيح دعوة يوحنّا المعمدان إلى معموذية التوبة فخرجَ إلى البرية مُعبراً عن إستعدادهِ التام ليكون حيثما يُريده الله أن يكون، مع الإنسان الخاطئ في طريق التوبة إليه. نداء يوحنّا: "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات"، كان كافياً ليتركَ ربّنا يسوع كلَّ شيءٍ؛ العائلة والمهنة ومدينة الناصرة متوجهاً إلى بريّة اليهودية، وتقدّم الجموع التي جاءت من أورشليم ومن اليهودية ومن ناحية الأردن تسمعُ يوحنّا وتعتمذ على يده. جاء يسوع أيضاً وانحنى أمام يوحنّا ليقبلَ منه معموذية التوبة. 

كان ربّنا يسوع يعرِف ما يُريد، فبعض الذين جاؤوا عند يوحنّا كانوا ينتظرونَ مشاهدة معجزة أو الاستماع إلى عظاتِ نبيّ قدير: "يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟ فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم ... هاهيَ ذي الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار". لم تكن الجموع تدرك كُنهَ هذهِ الرتبة، أما ربّنا يسوع فكان يعرِف ما يُريد: أن يعتمد معموذية التوبة، أن يُكمِل مشيئة الله الآب. التوبة التي تعني تغييراً كلياً لأسلوب التفكير والحياة الذي تعوّدنا عليه نحو حياة جديدة، ولا يُمكن المساومة في هذا الشأن أبداً. حياة جديدة ليست متمركزة على الذات ولا تتطلّع إلى تحقيق حاجات الأنا، بل تُريد محبّة الله وأن تُحقق رضاهُ. وأول خطوة لقبول هذه الحياة الجديدة هو إنحناء متواضعٌ لقبولِ جديد الله. 

بدأَ يوّحنا رسالتهُ، هو الذي أرسلهُ الله ليعدَّ الطريق أمام الماشيحا، وصارَ له كثير من الأتباع والتلاميذ، ويُفتَرض أن ربنا يسوع كان أحد تلاميذ يوحنّا حسبما وردَ في إنجيل يوحنّا: "وقامَ جِدالٌ بَينَ تَلاميذِ يوحَنَّا وأَحَدِ اليَهودِ في شَأنِ الطَّهارَة، فجاؤوا إِلى يوحَنَّا وقالوا له: "راِّبي، ذاكَ الَّذي كانَ معَكَ في عِبْرِ الأُردُنّ، ذاك الَّذي شَهِدتَ له، ها إِنَّه يُعَمِّدُ فيَذهَبُ إِليهِ جَميعُ النَّاس" (يو 3: 25- 26). يوحنا كان إذاً المعلّم، ويُفتَرض أن يقوم التلميذ بخدمةِ معلّمه مثلما يخدم العبد سيّده، ما عدا حلَّ نعليهِ. في البرية، يوحنا المعلّم لم يجد نفسه أهلاً لينحني ويخلع نعلَّ تلميذهِ: "وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه"، وجاء التلميذ ليُبيّن تواضعاً أعظم، عندما إنحنى أمام معلمهِ يطلب المعموذية. هذا هو بدءُ الوحي، تواضعُ الله. إلهنا يُعظمُّ مكانة الإنسان فينحني أمامهُ خادماً: "ما جاء ليُخدَم بل ليخدُم ويفدي بحياتهِ كثيرين". فالوجه الإنساني لله يتمثّل بالتواضع ويطلبالحياة الجديدة والرحمة، وبالتالي يُرينا الطريق إليهِ.

لاحظ يوحّنا أنه أمام المسيح، قدوس الله، إنسان بلا خطيئة، فقال له: "أَنا أَحتاجُ إِلى الاعتِمَاذِ عن يَدِكَ، أَوَأَنتَ تَأتي إِليَّ؟"، لكنَّ ربّنا علّمه أن إرادة الله الآب هي أهمُ من رأي الناس فينا، وكأنه يقول: "لا يهمني كيف تراني أنت، ما يهمنُي هو أن أصنعَ إرادة مَن أرسلني وأرسلَك، وعماذي على يدك هو تصديقٌ لرسالِتكَ وتثبيتٌ لرسالتي. فلنعمل ما يُرضي الله ويُبهجُ قلبهُ. وصادقَ الله على فعلِ ربّنا يسوع إذ أعلنَ رضاهُ: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت". 

غطسَ" في الماء مُبيناً طاعتهُ لإرادة الله الآب التي شاءت أن يكونَ مع الإنسان كلياً ويختبر ما يُعانيه من تحديات وصعوباتٍ. نزلَ إلى "العمُق" حيث وقعَ الإنسان أسيرَ الخطيئة، ليكون إلى جانبهِ وليهبَ له فرصة أن يرى نورَ الله بيسوع المسيح، ويتشجّع الإنسان ويسير خلفَ ربّنا يسوع نحو نور الله. "غطسَ وخرجَ من هذا الغطسِ إنساناً مُكرساً لله، وسيواصلِ الحياة ليكشِف عن طبيعة هذه البنوّة ومضمونها في حياة إتسمت بالرحمة إزاء الجميع. في فعل الغطسِ في الماء اشارة إلى إستعداد لتغيير أسلوب الحياة الخاطئ نحو حياة جديدة. فيها يُريد الله أن يكون الإنسان حُراً مثلهُ، حُراً حتّى من عظمتهِ، فــ"هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 6-8). ومن خلال هذه الطاعة يكتمل فعل التحوّل الذي يُريده الله في حياة الإنسان. التوبة- التغيير ضروري ولكنه ليس كافياً لتحقيق حياة الشركة مع الله، لذا، كان لا بُد من العماذ بالروح القُدس والنار: "أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار". 

ربّنا يسوع هو "البكر"، وهو الذي يتقدّمنا على طريق القداسة. الطريق الذي فيها يتبنانا الله الآب أبناء له مثلما أعلنَ اليوم في العماذ: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب الَّذي عَنه رَضِيت"، فنحن نصبح بالعماذ، أبناء لله بيسوع المسيح ابن الله، الله الذي بادَر فأرسل يوحنّا ليمُهِدَ الطريقَ إلى يسوع الأبن الذي يُدخِلنا في صُلبِ علاقتهِ بالله، لنُصبحِ عائلة الله وخاصتهُ. لذا، تؤمن الكنيسة أن العماذ هو هبة من الله ونداء ينتظِر جوابنا لا من خلال طقوس العماذ فحسب، بل من خلال شهادة الحياة التي فينا نُظهِر تعاوننا مع الروح القُدس الذي يُرفرفِ على حياتنا ليُبدِع منها حياة تليقُ بأبناء الله. فجميعنا أعلنَ يومَ عماذه، بواسطة الأشبين، أننا نؤمِن بالله الآب والأبن والروح القدس وبأمنا الكنيسة، ونكفرُ بالشيطان وبأباطيلهِ، وأننا عازمون على السير في طريق القداسة متمثلين بربّنا يسوع فعيش حياة أبناء الله، وإلهنا يتطلّع لنحقق هذه المواعيد. فلنطلُب نعمة الثالوث الأقدس، الذي تجلّى اليوم في عماذ ربّنا يسوع، نعمة التواضع لنسيرَ الطريق الذي يقودنا إليه.