الاحد السادس من الرُسل
رسالة الكنيسة: الكرازة بالتوبة (لوقا لو: 12: 57- 13: 17)
"أَقولُ لكم:لا ولكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ". على الكنيسة أن تكرِز بضرورة التوّبة، وتواصِل العمل الذي شرع به ربّنا يسوع: "تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة" (مر 1: 15)، والمطلب الأول الذي أوصى به بطرس الناس الذين سمعِوا عظتهُ الأولى كان: "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (أع 2: 37). الفرصة مؤاتية الآن للتوبة، لتغيير الحياة والخروج من ظلمة الخطيئة إلى نور الله. والله، لأنه محبّة، قرر أن يُعطي الإنسانَ فرصةً أخرى؛ سنة إضافية، ليتوبَ إليه. فمع ربّنا يسوع بدأَ زمن التوبة الذي يجب أن لا يُؤَجّل إلى الغد. اليوم نحن مُطالبونَ بالتوبة، وبأن تكون لحياتنا ثمار صالحة. إلهنا وملكنا قرر أن يهبَ لنا فرصة جديدة لنتصاّلح معه ومع القريب، والمُصالحة تتطلّب ثماراً، فلا يكفي أن تكون أوراق الشجرة خضراء، بل يجب أن تكون الشجرة مثمرة، فتأتي توبتنا صادقة.
التوبة تعني تغيير الفكر والعقلية والشعور والإرادة والعمل، بل كل كيان الإنسان، إعترافاً منه بأن حياته السابقة كانت خاطئة، وهو مُستعد ليقبلَ الحياة الجديدة التي تأتيهِ من الله، فيعيش هويّتهُ الحقيقية "إبنُ الله"، ويحمل حُبَّ الله إلى عالمهِ. هو لا يعني أنه بالخطيئة عصى وصايا الله وتجاوز القوانين، بل رفضهُ أن يكون إبناً في بيتِ الآب. شعوره بأنه أهانَ محبّة الله: "يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ" (لو 15: 21). من هنا نفهَم لماذا يشعر القديس عادة بأنه أكثر الناس خطأة، بعد أن اكتشف محبّة الله له بيسوع المسيح، وعرِف كم أنه بعيد عن هذا الحُب، وكأنه غُصنٍ إنقطعَ عن الشجرة التي كانت تمدّهُ بالحياة.
التوبة ليست إذاً التوقف عن الخطيئة، بل قبول البُشرى السارة، سُكنى الله بيننا بيسوع المسيح. أن لا تُخطئ لا يعني أنّك إنسانٌ صالحٌ وأنّك تسير وفقَ إرادة الله. التوبة تعني أن تكون "مسيحاً آخر" من خلال شهادة حياتِك. فالمسيحية ليست عقيدة أخلاقية، بل دعوة لمُشاركة الله حياتَه، لذا، يُقدِم لنا ذاتهُ في الافخارستيا فنحيّا به. نحن مدعوون إذاً إلى التوبة، والتوبة فعلُ إيمان، أن نقول نعم للبُشرى السارة التي يوجهها الله إلينا بيسوع المسيح: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يو 1: 12)، وأن نبدأ بحياة مسيحية تبرهن عن مصداقيتها بثمار التوبة.
إلهنا قرر بمحبتهِ أن يهبَ لنا عطية الروح القدس لنكون أبناء الله الصالح الذي أحبّنا أولاً، ومحبتهُ قرّبتّنا منه، وأعادت إلينا الحياة التي كانت قد إنقطعت عنّا بفعل إرادتنا: "نحن مَن قرر الابتعاد عنه والهرب من الآب" (الابن الضآل). محبّة الله وغفرانهِ جعلت التوبة ممكنة ليعيش الإنسان حياة الشُكر والآمتنان لله الذي أحبّه وقبلهُ إبناً محبوباً. فيتحوّل، وبفضلِ النعمة، من إنسان يبحث عن ذاتهِ ليُخدم، إلى إنسان يبحث عن الآخرين ليخدمهم تلبيةً لنداء ربّنا يسوع: "اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك" (لو 10: 37)، فيبدأ بمحبّة الله من كل القلب وكل النفس وكل القوّة وكل الذهن، ليصل إلى القريب (لو 10: 27)، من دون أن تتجزأ هذه المحبّة، بل تكون صادقة وصافية نقيّة.
بعضنا يعتقِد أن أهمّ شيء في حياة الإيمان هو أن يكون الإنسان صالحاً، لا يُخطئ ويعمل من أجل عالم إنساني أفضل أكثر عدالة وإنصافاً، وكأن محبّة الله تُترجَم من خلال محبّة القريب. ولكنّ المسيحية لا تبدأ منّا، بل من عند الله: "وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا
فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" (1 يو 4: 10)، لتكون العلاقة معه، حياةٌ مع الذي أحبنّا أولاً ويدعونا لأن نُشاركهُ حياته. المسيحية ليست "قائمة توصيات وأوامر أخلاقية"، بل هي حياة مع الله: "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله. فإِذا كُنَّا أَبْناءَ الله فنَحنُ وَرَثة: وَرَثَةُ اللهِ وشُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (روم 8: 14- 17). هذه البنوّة تهبُ لنا الشجاعة لنواصِل المحبّة من دون أن تتأثّر بموقف الآخر منّا، تماما مثل الذي يواصِل محبتهِ، بل يحوّل له الخّد الآخر عندما يضربه على خدّ اليمين (متّى 5: 39).
التوبّة إذن هي فعل إيمان، توقفٌ عن الخطيئة، وبدءُ حياة الشِركة مع الله. فلا يُمكن لنا أن نواصِل الحياة متوهيمنَ أننا أفضل من جميع الناس بسبب تقوانا مثلما صلّى الفريسي (لو 18: 10- 14). أو السعي لأن نجعل من تقوانا فرصة لنيل مديح الناس وإكرامهم، فنستغل حياة الإيمان التي تُريد أن تأخذنا إلى خدمة الله والقريب، أن تكون في خدمتنا. التوبة تعني أن نعيش بساطة الأطفال الذين يقفون أمام والديهم واثقين من محبتهم ومُستسلمين كلياً إليهم مثلما أنشدت أمنّا مريم (لو 1 :46 – 52). التوبة تعني عدم البحث عن السلطة والغنى إلهاً يُعبَد، والابتعاد عن القلق بشأنِ الغد: "لا يُهِمَّكُم لِلعَيشِ ما تَأكُلون، ولا لِلجَسدِ ما تَلبَسون، لِأَنَّ الحَياةَ أَعظَمُ مِنَ الطَّعام، والجَسَدَ أَعظَمُ مِنَ اللِّباس" (لو 12: - 22- 23)، وطلب ملكوت الله (12: 31). فالتوبة هي تخلٍ يومي عن "ملكوت الإنسان"، والسير بأمانة نحو "ملكوت الله". فليس الأنا هو المهم، بل الله هو الأهم، لأننا مجربون يومياً بنداءات تجذبنا بعيداً عن الله.
اليوم، يُبشرنا ربّنا يسوع بأن لنا سنة أخرى، فلنتأمل كيف سنحيا هذه السنة؟ ما الذي سنُغيّره في حياتنا؟ لمَن سنعتذِر؟ ومَن سنسامِح وسنغفر له؟ إلى أي إنسان ستقدم محبّة مُضاعفة نعويضاً عن إهمالِك إياه؟
الأحد الثالث من الرُسل
رسالة الكنيسة: الرحمة أفعال وليست أقوال (لوقا 10: 25- 37)
تواصِل الكنيسة نشرّ "البُشرى السّارة" وتُؤكِد على ما علّمهُ ربّنا يسوع من أن الله يُريد من الإنسان أن يكون رحوماً مثلما هو رحيمٌ، وأن يُعامِل الآخرين بالرحمة فيكون شهادة حيّة لفاعلية "البُشرى السّارة" في حياته وفي حياة الآخرين. وفي إنجيل اليوم واجه ربّنا يسوع تساؤلات عالم الشريعة التي أرادَ فيها إحراجَه فأرادَ يسوع أن يجيب عليهِ من خلال مثل السامري الرحيم، وبالسؤال: لا تسأل مَن هو قريبي؟ بل قريبُ مَن أنت؟ فالقريب ليس المجروح الذي تتعطّف عليهِ، بل هو أنت في مواجهةِ احتياجات الناس وألمهم، فترى وتُصغي وتَّتخذ موقفاً مسؤولاً منها. فيأتي جديدُ ربّنا يسوع ليُرشدنا إلى أن محبّة الله والقريب لا تنطلِق من رغبة شخصيّة لإشباع حاجّة فينا، بل تنطلِق من حاجةِ الآخر الذي يتطلّب منّا إنتباهاً وإصغاءً وقدرة على الشعور بالرحمة تجاهه (أشفقَ عليهِ)، والتحرِك بشكل فاعلِ لتغيير واقعهِ المُؤلِم فيواصِل الحياة بكرامةٍ. فتأتي المحبّة دعوة ونداءٌ من الآخر موجهةٌ إليَّ بشكل شخصي، لتُخرِج كل الخير والإحسان الذي خلقهُ الله فيَّ، لأنه خلقني على صورته ومثالهِ، فهو الخير (تك 1: 28)، لأحقق إنسانيّتي، مُدرِكاً أن الرحمة هي أفعالٌ (مُحبّة ومجّانية) وليست أقوالاً فارغة.
لنعد ونتأمل في قصة السامري الرحيم؟ فمعلمُ الشريعة أرادَ أن يُحرِجَ ربّنا يسوع فسألهُ: يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟ ليرى هل سيأتي بما هو جديد فيستحِق كل هذه المكانة والشهرة بين الناس؟ أم سيُناقِض الشريعة وتكون هذه فرصة للإطاحةِ به؟
وعلم يسوع ما يدور في ذهن عالِم الشريعة، فأعاد السؤال بسؤالٍ آخر، ووجه سائله ليقرأ الشريعة بعيون واهبها، الله. والمطلوب ليس تطبيق بنود الشريعة بحرّفيتها، بل أن تكون في خدمةِ الإنسان، فليس بمقدور أحدٍ أن يُتمّها ما لم يكن مُستعداً لأن يقبلها نعمةً ومسؤولية. وتبدأ هذه المسيرة من كون الإنسان حُراً ليُحِب: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ". الإنسان الأناني بحُبِ ذاته، والذي يبحث عن إشباع رغباتهِ والمحبوس في أفكاره ورؤياهُ لن يكون حُراً بكفاية ليرى "جديد الله"، ويُحِب مثلما يجب أن يُحِب. وهذا واضح من أسلوب حياة الكاهِن واللاوي، فلكل منهما مشروع للحياة: لقاء الله، ليكون لهما صيتٌ حسنٌ ومكانةٌ متميّزة وسط شعبهما، وهكذا تتحقق سعادتهما. كانا مؤمنان بأن هذا اللقاء يتحقق في الهيكل، سُكنى الله، وعليهما أن يكونا مُستعدين لهذا اللقاء بطهارِة الجسد فلا يمُسان ما هو نجس، الجثّة مثلاً فجعلا من الشريعة طريقاً لتحقيق هذا المشروع، وإلتزما بها حرفياً. والرب لم يدنهما على ذلك، ولكنهما لم يَنعما باللقاء الذي كانا يطمحان إليه. وأما السامري، مع أنه غريب عن الديار بل عدوٌ للمُستمعين، فلم يختلِف عنهما فيما يُريد لحياتهِ، فلهُ هو أيضاً مشروعه الحياتي الخاص، ولكنه مشروع منفتحٌ لجديد الله.
فجأة ظهَر على طريق حياتهم إنسانٌ مجروح بأمسّ الحاجة إلى المُساعدة، إذ كان جريحاً مُهان ومتروكاً بين حيِّ وميّت بسبب شرّ الآخرين وجشعهم. هذا الإنسان كان نداءً ودعوة موجهة إلى المارين الذين كانوا أحراراً قادرين على الإجابة بـ "نعم" أو "لا". حضور هذا الإنسان باغَتَهم ولم يكن بمقدورهم التغافُل عن منظره أو والتظاهر بعدم رؤيتهِ، فمثل هذا الموقف هو كذبٌ وإفتراء. أنت رأيتَ وسمعِت أنينَ هذا المجروح، وعليك أن تتّخذ موقفاً إزاء ما تراهُ وتُصغي إليهِ. فإن ملتَ بعيداً عنه (مثلما فعل الكاهن واللاوي)، فسيموت، وتكون أنت مسؤولاً عن ذلِك، فلستَ أفضل من الذين ضربوه وجرحوه بحثاً عن أمواله وسعادتهم، وإن إنحنيتَ نحوه "رحوماً مُعتنياً" (مثلما فعلَ السامري) فسيحيّا وستكون أنت سببَ خلاصهِ: أنت مُخلصهُ، أنت الماشيحا بالنسبة إليه.
المحبّة بالنسبة لربّنا يسوع المسيح، ليست "عاطفة وشعوراً وإنجذاباً" تنطلِق منّا نحو الآخر، بل هي وصيةٌ وواجبٌ: "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة:أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً. إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يو 13: 34- 35). فتكون المحبّة فعل رحمة مجّانياً وليس تأملاً وتعليماً، ولم يحاول السامري أن يعرّف بنفسه للمجروح. الرحمة، بحسبِ تعليم ربّنا يسوع، ومثلما اختبرها هو، ليست تعاليم بل هي تكريسُ الحياة لخدمة الآخر، خدمةٌ سخيّة حتّى بذل الذات. إنحناءٌ نحو الآخر، وتعاطفٌ مع حاجاتهِ: أنت مُحتاجٌ لأن أغسلَ لكَ قدميك: و"إِذا لم أَغسِلْكَ فلا نَصيبَ لَكَ معي" (يو 13: 8). رحمة تتطلّب وقتا وجهداً: إيقافٌ لمسيرة الحياة وإنحناء نحو المجروح وصرف الزيت والخمر؛ مؤونةَ الطريق، واستخدام كل ما هو شخصي (دابتهُ) من أجل إنقاذ حياة المجروح.
الكنيسة التي إنطلقت في يوم العنصرة لتنشر البُشرى السارة التي صارت لنا بيسوع المسيح، يجب أن تلتفِت نحو الناس، ولا سيما الفقراء والبؤساء، وتُصغي إلى آلامهم واحتياجاتهم الأساسية، ألا وهي: الله. للكنيسة مشروع واحدٌ فقط وهو مشروع الملكوت الذي تحقق بيسوع المسيح، وعندما تنظر إلى العالم بعيون الله، عيون الرحمةِ، ستُلاحِظ كم من الناس تُركوا أحياءً جسدياً ولكنهم أمواتٌ روحياً. فعلى الكنيسة (علينا) أن نعي ونفَهَم أن رغبتنا في السعادة وفي تقديس ذواتنا، يجب أن تمر من خلال خدمةِ الآخرين، وليست لتحقيق رغباتٍ وتطلّعات شخصية: "وأُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ لِيَكونوا هم أَيضاً مُكَرَّسينَ بِالحَقّ" (يو 17: 19). هذا هو معنّى عبارة: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ". فالآخر هو الله الذي خرجَ للقائنا بالشكل الذي اختاره هو لنا، وليس مثلما يحلو لنا أن نراه ويسألنا أن نكون "قريبا" له.
الأحد الثاني من الرُسل
رسالة الكنيسة: الرحمة مقابل النميمة (لوقا 7: 31- 50)
إنطلقت الكنيسة إلى العالم حاملة رسالة المسيح بدافعٍ من الروح القُدس: "ولكن المؤيد، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم جميع الأشياء ويذكركم جميع ما قلته لكم". وعلى الكنيسة أن تُقدِم للعالم ما علّمهُ ربّنا يسوع وعملهُ، فلن تأتي بتعليم جديد. وتعليمهُ الأول والأهم هو: "الله محبّة. وهذهِ المحبة تقبلُ الجميع لاسيما الخاطئين"، فمَن يؤمِن بهذه المحبّة ويتوبُ ينالُ نعمةَ الغفران، ولن يُستثنّى أحدٌ من هذه النعمة. هذه المحبّة تستبقُ كل مبادرة يقوم بها الإنسان، بل تُطالِبُ الإنسان بإستجابة مماثلة، فتضحى محبّةُ الإنسان جواباً سخياً على محبّةِ الله التي بادَرت وانتشلتهُ من ضياعهِ ووهبت له حياة جديدة. هذا ما أكدَّ عليه ربّنا يسوع في المثل الذي قدّمهُ لسمعان الفريسي الذي فَهِمَ الدَرسَ وأجابَ بالصواب لكنه، بسبب قساوة قلبهِ، لم يتمكّن من تلبية متطلبات هذا الدرس شأن ما فعلتهُ المرأة التي اقتحمَت المجلس وسجدت عند قدمي يسوع. هذه المرأة الخاطئة أحبّت كثيراً، وعبرت عن محبّتها العظيمة بسخاءٍ. هي مؤمنةٌ بأن الله أحبّها بيسوع المسيح وإستقبلها على نحوٍ لم تتوقّعهُ، بخلاف سمعان الفريسي الذي كان يودّ طردها من المجلس.
زار الله شعبهُ زيارة خاصّة تحمل الكثير من الحب والمودّة. زاره ليتقاسم معه الغذاء على نفس المائدة. فحضور ربّنا يسوع في بيت سمعان الفريسي يجب أن يُفهَم مثل زيارة الله حاملاً الخلاص والفرح للبيت، حتّى لو كان هناك عوزٌ في الضيافة من قبل الإنسان، مثلما قال للذي دعاه للمأدبة. لم تنتقد المرأة الخاطئة سمعان الفريسي بسبب نقص الضيافة هذا، بل راحت تُكملُ النقص بتواضعٍ وجعلت كلّ هيبتها (شعرها) ومالها تحت أقدامِ المُخلِص، وسمحَت لربّنا بأن يتحدّث عنها أمام الحاضرين، فجعلت من هذا اللقاء لقاء صلاة صادِق. هي لا تحتاج إلى كلمات تقولَها لربّنا عن نفسها، بل تؤمِن بأنه يعرفها جيداّ، وهي مؤمنة بمحبتهِ لها. فقررت أن تبدأ مسيرة التوبة من عند قدميهِ، وتكون شاهدة لغفران الله لها الذي قبلتهُ مجاناً من النبي- المسيح يسوع. لقد عرِفت حقاً إلى من تلتجئ، فلم تذهب عند الفريسي لأنها كانت تعرِف أنه سيطردها لكونها خاطئة- نجسة، بل إرتمت عند قدمي ربّنا يسوع مؤمنةً بمحبتهِ التي تتجاوز عن خطاياها. هي تعرِف أن قلب الإنسان أقسى من أن يقبلها، وكانت تُدرِك خطورة المسيرة للقاء ربّنا يسوع، ولكنّها لم تُبالِ بشيء سوى بلقائهِ.
محبّة الله أعظمُ من خطايا الإنسان. بهذا الإيمان والرجاء دخلَت هذه المرأة بيت سمعان الفريسي غير مُباليةٍ بإنتقادِ الناس ورفضهِم لها، ووصلت حيث يجلُس ربّنا يسوع وسجدتَ تغسل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعرها. بخطايا فقدت كرامتها، وبحضورها عند قدمي ربّنا إستعادَت كرامة "إبنة الله الآب". وأرادَ ربّنا يسوع أن يجعل هذا اللقاء فرصة فيها يدعو سمعان الفريسي إلى الإنفتاح على "الخلاص" الذي حلَّ في بيتهِ. ربّنا يسوع أشارَ إلى سمعان الفريسي أنه ليس أكثر نزاهةٍ من المرأة، فهو خاطئٌ أيضاً، وعليه أن يترُك لله مهمّة دينونة الناس، ويقبَل نعمةَ الغفران المجّاني الذي صارَ للجميع بيسوع المسيح. وهكذا، تأتي توبة الإنسان لا إدعاءً بإستحقاقٍ، بل جواباً من الإنسان على نعمة الله التي بادَرت وغفرت للجميع خطاياهم قليلة كانت (خمسونَ ديناراً) أو كثيرة (خمسمائة دينار).
وهناك المزيد في هذا اللقاء. ربّنا يسوع تجاوزَ لسمعان الفريسي عن نقص الضيافة وأشارَ إلى خطيئة النميمةِ التي اقترفها الفريسي، وذلك ليس عن طريق التوبيخ بل في "شكل المحبّة التي ينتظرها الله منهُ". لقد شاهَد سمعان الفريسي عظيمَ محبّة المرأة وسخاءَ القلبِ الذي لم يكن هو مُستعداً لأن يُقدمهُ للضيّف المُميّز: المعلم يسوع الناصري. وعوَضَ أن يتوبَ ويعوّض عن ذلك، صبَّ جام غضبهِ على المرأة فراحَ يُفكِر في خطاياها لا في محبتها، فعبّرَ إلى الوثنية لأنه تنكّر لوجود الله وجعل نفسه الديّان الذي يُحاكِم الناس ويحتقرهم، وأرادَ بتفكيره هذا أن يمنعَ ربّنا يسوع من استقبال المرأة لأنها خاطئة ونجسة، أرادَ أن يتحكّم بمواقف ربّنا يسوع وقراراتهِ. ولأنه جبانٌ مثل كل النمامين عادة، لم يكن له الشجاعة ليُفصِح علناً عن أفكارهِ، وفي حالةِ سمعان الفريسي فهو يُناقِض نفسه، فهو من جهةٍ يُقيمُ مأدبة في بيتهِ لأصدقائه، ومن جهةٍ أخرى يُقدِم نفسه "نماماً" يُفكِر بالسوء في الآخرين ويسعى إلى الحطّ من كرامتهم، ويقول سفر الأمثال: "إِنْسانُ الخَدائع يُثيرُ الخِصام والنَّمَّامُ يُفَرِّقُ الأَصحاب" (16: 28).فالنمام يدمّر العلاقات الإنسانية ويُنهيها لأنه يزرع الشكوك بين الناس، ويُصبح هو نفسه شخصاً غير موثوقٍ به، فالجميع يتساءَلون: "ما الذي سيقوله عنّا في غيابنا". فعلينا أن نُصلي يومياً مع المزمزّ: "أَقِمْ يا رَبِّ حارِسًا على فَمي وراقِبْ بابَ شَفَتَيَّ"، لئلا تنطق شفاهنا بالسوء: "لا تَخرُجَنَّ مِن أَفْواهِكم أَيَّةُ كَلِمَةٍ خَبيثَة، بل كُلُّ كَلِمةٍ طيِّبةٍ تُفيدُ البُنْيانَ عِندَ الحاجة وتَهَبُ نِعمَةً للسَّامِعين" (أفسس 4: 29).
لقاء ربّنا يسوع اليوم بسمعان الفريسي وبالمرأة الخاطئة دعوةٌ لنا إلى التوبة، وهي رسالةُ الكنيسة التي تحملها للعالم أجمع: "الله الآب ينتظركُم ومحبتهُ تتجاوز لكم خطاياكم، ورحمتهُ تستقبلكم بفرحٍ، فتوبوا إليه".
عيد العنصرة (الأحد الأول من الرسل)
رسالة الكنيسة: أن تُحدِثَّ الناس عن يسوع المسيح
(يوحنا 14: 15- 16، 25- 26/ 15: 26- 16: 4)
احتفل شعبُ إسرائيل بعيد العنصرة مُستذكراً حدث إقامة العهد في سيناء حيث أعطى الله الشريعة: الكلمات العشر، لتنظّم شكل العلاقة التي تربط الله بشعبه والإنسان أخيه الإنسان. واستلم الشعب هبة الشريعة وإنغلقَ على نفسهِ متوهماً أَنه الأفضل بسبب اختيار الله له، وانغلقَ على الله مكتفياً بالشريعة. عوض أن تكون عطيّة الله دافعاً وانطلاقةً نحو الآخرين حاملين رسالة الخلاص: "أخترتُكم لتكونوا نوراً للأمم"، أضحت، بسبب أنانية الإنسان فرصة للتفاخر، بل حافزاً للصعود وإزاحة الله والإستيلاء علىمكانتهِ مثلما حصل مع جماعة برج بابل (تك 11: 1-9). والأمرُ الأهم الذي سيقوم به الروح القُدس هو أن يذكر الُرسل: "بعمل ربّنا يسوع" الذي كان عمل محبّة تجاه جميع الأمم، وعليهم أن يتعلّموا أولاً محبّة الأخوة مثلما هو أحبهم، محبّة حتّى بذلِ الذات. وهذه المحبّة ستجعلهم يفهمون بعضهم بعضاً حتّى لو إختلفوا في الطباع والجنس والأعراق واللغة، فالجميع اليوم يفهَم ما قاله الرُسل. هذه المحبّة تنمو في تربة التواضع، وتنتعِش من خلال الحضور معاً، والصلاة معاً بعيداً عن روح التنافس التي تخلق الإنقسامات داخل الجماعة، وتقتل فرص الحياة فيها.
ولأن إلهنا وملكنا محبّة، قرر النزول إلى الإنسان ليرفعهُ إليه بيسوع المسيح، الذي انحدرَ حتى ركع امام رُسلهِ وغسل لهم أقدامهم. لذا، فالشريعة الجديدة التي يريدها اللهلشعبهِ هي: شريعة المحبّة: "إن كُنتُم تُحبوني"، فمحبّة الله تسبُق الوصية وتفترضها، إذ لا يُمكن أن يكون لنا محبّة الأبناء لأبيهم ما لم تتأسس على "المحبّة"، هذه المحبّة التي نتقاسمها مع الاخوة والأخوات من خلال "الكون معاً في الصلاة"، وهذا ما طلبهُ ربّنا يسوع من رسُلهِ: "كانوا يواظبون جميعاً على الصلاة بقلب واحد، مع بعض النسوة ومريم أم يسوع ومع إخوته" (أع 1: 14). فالصلاة معاً هي أول الأنشطة التي طلبها ربّنا يسوع من تلاميذه مؤكداً على أهمية نقطة الإنطلاق: الله. فالكنيسة ليست مشروع الرُسل، بل مشروع الله الذي يستلمها الرُسل مسؤوليةً وإلتزاماً، في مجابهة صريحة لأنانية الإنسان وتكبره الذي يعتقد أنه صاحبُ المشروع ومالكهُ، وهذا ما يدفعهُ إلى تدمير الآخرين وتدمير نفسهِ بسبب مشاعر الحسد التي تجعله شخصاً غضوبا يُثير في الآخرين مشاعر الخوف ويخلق الإنقسام لأنه يُريد السيطرة على مجريات الأحداث والتحكم بحياة الآخرين.
اليوم، يبعث الله روحهُ، محبتهُ لتُرشِدَ التلاميذ والكنيسة فيجمَع ما كان مُشتتاً ويُقرِّب البعيدين ويخلق جواً من التفاهم بين المختلفين، لأن المحبة تجّمع وتجعل الإنسان يشعُّ، لذا، فألسنةُ النار التي تنزل على التلاميذ لا تُحرقُهم بل تجعلهم أكثر تشبُهاً بالله، أكثر محبّة. تُحرِق فيهم كل ما يعيق توهج المحبّة: الأنانية والكذب والخداع والرياء والفساد ورغبة التسلط والتملُك التي تجعل الإنسان ينغلق على ذاتهِ فيُعادي نفسه والآخرين. نارٌ تُحرِق أشكال الخطيئة وتُبطِل الخوف الذي يمنعُ الإنسان من أن يكون صادقاً في استجابتهِ لدعوة الله له. وهكذا تتطهّر علاقة الإنسان مع الله الآب ومع أخيه الإنسان، غير خائفٍ أو متردد من إلتزامات هذه العلاقة، التي تتطلّب تخلّيات عديدة، وإستعدادات إستثنائية لمواجهة رفض العالم لمثل هذا الروح: "سيفصلونكم من المجامع بل تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يؤدي لله عبادة." (يو 16: 2).
هذه هي متطلّبات الإنتماء إلى شعبّ الله الجديد: الكنيسة، أن يكون فينا فكرُ المسيح، وأن نعمَل تحت إرشاد الروح لنجعلهُ حاضرا ًفي حياة العالم: "ولكن المؤيد، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم جميع الأشياء ويذكركم جميع ما قلته لكم". ربنا يسوع المسيح اختار الكنيسة والروح القدس ثبّتها، فالروح القدس لن يأتي بما هو جديد، لأن الله قالَ كل ما كان يريد أن يقولهُ بيسوع المسيح، بل جاء يُذكِرّ التلاميذ (الكنيسة) بما قالهُ ربّنا يسوع وعملهُ من أجل أن يتمجّد اسمُ ربّنا يسوع: " فمتى جاء هو، أي روح الحق، أرشدكم إلى الحق كله لأنه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما سيحدث، سيمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم به". وعلينا أن لا نتوقّع قبولاً من العالم لنا، لأننا سنقدِم لهم ربّنا يسوع المسيح، وليس أنفسنا أو أفكارنا ومُخططاتنا.
نحن مدعوون اليوم إلى الصعود نحو العُلية، العُليّة التي وهبَ فيها ربّنا يسوع المسيح جسده ودمه للتلاميذ، ينالون اليوم هبّة الروح القُدس. نحن مدعوون لأن نقبلَ ربّنا يسوع في أفخارستيّتهِ ونسمحَ للنار التي أرادَ أن يُلقيها على الأرض بأن تضطرم فينا (لو 12: 49)، وتُحرِق فينا كل مشاعر التنافس والمُخالفة التي تُبعدنا عن الآخرين. نارٌ تجمعنا في الصلاة معاً وتخلُق فينا مساحة لقبول الاخرين في تفهّم ومسامحة. علينا أن نتجنب الرغبة في "أن نخلقُ الآخرين على صورتنا ومثالنا"، ونسمح لروح الله بأن تجعل صورة الله المحبّة تشعُّ فينا وأن يكون لإرادة الله الكلمة الأولى والحاسمة في حياتنا فتعطينا قلبا جديداً ولساناً ولغةً تُقربّنا من الآخر. فمحبة الله تجعلنا أكثر قُربا منه وأكثر تضامنا مع الإنسان: الأخ والقريب. محبة الله ستجعلنا نُحدِث الناس عن يسوع المسيح، وهذا لن يُخيفهم مثلما يحصل عندما نُحدِثهم عن أنفسنا وأفكارنا ورؤيتنا. فلنُصلِ إلى الروح القُدس ليُذكّرنا بكل ما قاله ربّنا يسوع وعملهُ، ونحدّث الناس عنه.
الأحد الثاني من القيامة (الأحد الجديد)
"طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا" (يو 20: 19- 31)
كلما قُرئَ علينا هذا الإنجيل يتركّز اهتمامنا حول توما وشكوكهِ متناسين أن الإنجيلي يوحنّا كان مُهتماً بالبشارة بربّنا يسوع المسيح، الذي كشفَ عن نفسهِ مرّة أخرى إنه الراعي الصالح والمُحِب والذي يعرِف خرافه وهو قريبٌ من حاجاتهم، فتراءَى للتلاميذ وسجناء الخوف، ووهب لهم ما كانوا بحاجة إليه: "السلام"، ومنح لهم الروح القُدس ليبدؤا رسالتهُم في العالم، ثم عاد وظهرَ لتوما ليُثبتهُ في الإيمان، ويسمع منه مجاهرة إيمان شخصي: "ربّي وإلهي"، مثلما ظهرَ لمريم المجدلية وسمِع منها مجاهرة إيمان شخصي أيضاً: "رابوني أي يا مُعلمي"، وجعلَ منها رسولة قيامتهِ.
حظي التلاميذ على رؤية ربّنا يسوع القائم من بين الأموات "وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه"، وفرحوا لِمُشاهَدَتِهمِ له بغياب توما الذي لم ينعَم بهذه المشاهدة، فطالبَ بها، وعبّر عن موقفهِ من قيامة ربّنا يسوع: "إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن". فعلى الصليب كشفَ الله عن عظيمَ محبتهِ للإنسان. وحضرَ ربّنا يسوع بين تلاميذه، وتوما معهم، ولبّى طلبهُ دون أن يُوبخهُ بسبب عدم إيمانهِ بشهادة الرُسل، مثلما لم يوبّخ تلاميذه لأنهم لم يؤمنوا بشهادة مريم المجدلية، فأغلقوا الأبواب عليهم خوفاً من اليهود. إيمان توما هو أمرٌ مهم بالنسبة لربّنا يسوع من شروط الإيمان التي وضعها توما، فأعطى له علامة الإيمان التي طلبها، ودعاه ليرى ويؤمِن، فجاهرَ بإيمانهِ على نحو شخصي: "ربّي وإلهي".
محبّة ربّنا يسوع لتلاميذه لم تنتهِ عند موتهِ، بل واصلَ رعايتهُ لهم ولكل الكنيسة التي تؤمِن بالبشارة من خلال البركة التي أعلنها أمام التلاميذ: "طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا". محبتهُ كراعٍ جعلتهُ يمّر عبر الأبواب المغلقة التي حبَس التلاميذ انفسهم خلفها خوفاً من اليهود. جاء ربّنا يسوع، وهو "بابُ الخراف" (يو 10: 9)، ودعاهم ليدخلوا ويخرجوا فيه ومن خلاله ليجدوا المرعى (الحياة). فالأبواب البشرية تحبُس الإنسان الخائفِ، أما باب يسوع فيُحرر الإنسان للحياة لأنه بابُ المحبة التي تقبل الإنسان مثلما هو وتحضر إلى جانبهِ حيثما يكون. وعادَ ربّنا يسوع وتراءَى للتلاميذ وتوما معهم، ومرّ عبر الأبواب المغلقة بسبب شكوك توما، ليفتح بابَ الإيمان للجميع: "طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا". فالقيامة لا تُحررنا من مخاوفنا وشكوكنا، بل تجعلنا رُسلاً نشهدُ لمحبتهِ ونُبشِّر بالغفران الذي صار لنا نعمةً: "خُذوا الرُّوحَ القُدُس. مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهم الغُفْران يُمسَكُ علَيهم".
لم تكن ترائيات ربّنا يسوع لإثبات قيامتهِ فحسب، بل هي إعلان بدءِ رسالة الكنيسة، بدءُ الإرسال لمواصلة عمل ربّنا يسوع: الغفران. فمن خلالنا يُريد ربّنا يسوع أن يمّر عبر القلوب المُغلَقَة بسبب الخوف والشكوك، ويُظهِر لهم أيضاً عظيمَ محبّة الله الآب لهم. فروحهُ هو فينا ويخلقنا من جديد مثلما نفخَ الله في آدم وصارَ نفساً حيةً: "ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَّيَة" (تك 2: 7). والشهادة للخلق الجديد تكون عندما نمنح الآخرين الغفران، فالغفران علامة على حضور القائم من بين الأموات فينا، وانتصار محبّة الله بيسوع المسيح، وعدم الغفران إشارة إلى أننا ما زلنا تحت سُلطان الخطيئة، سجناء الحزن والألم والغضب تجاه الآخرين. هذه هي رسالة الكنيسة: إعلانُ محبّة الله بيسوع المسيح في لقاءٍ شخصي معه من خلال التأمل في إنجيليهِ وفي شهادة الذين آمنوا به: "وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه". فما كُتبَ ليس ليكون تاريخاً، بل ليتسامى بالتاريخ ويسمهُ بوسمٍ إلهي فيكون للإنسان ملءُ الحياة بربّنا يسوع المسيح.
قيامة ربّنا يسوع دعوة لنا جميعاً لأن نفتح أبواب قلوبنا المُغلقَة لأسباب كثيرة (خوفُ وإرتيابٌ وتكاسلٌ وفتور حماس الإيمان ويبوسةٌ روحية، شعورٌ بغياب الله ...)، وتنكشِف أمام نورِ المسيح يسوع ويُنير ظلمتها ويزرع فينا كلمة الإيمان به، فيتحقق اللقاء معهُ في ومن خلال الكنيسة (جماعة التلاميذ) مثلما حصلَ مع توما. لقاء يتعزز بأمانتنا له، هو الربُّ والإله: "ربي وإلهي"، فهذا ليس إعلان إيمان فحسب، بل مُجاهرة ستُكلّف توما حياتهُ، إذ عليه بدء مسيرة التبشير بالمسيح الذي أحبّهُ ولم يتركهُ ضائعاً في شكوكه، بل حضرَ إلى جانبه وقت الشّك (الظلمة) وثبّتهُ في الإيمان. هذه المجاهرة الإيمانية تهبُ لنا سلام القائم من بين الأموات الذي لا يقوى عليه خوفٌ أو حزنٌ أو شكُّ.
الجمعة العظيمة
" ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" (متّى 26: 36)
رأى ربنا يسوع في الإنسان ما يراه الله: الابنَ: "فَصَلُّوا أَنتُم هذِه الصَّلاة: أَبانا الَّذي في السَّمَوات" (متّى 6: 9)، وأحباء: "لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يو 15: 15). فبشّر بأبوّة الله وصداقته للإنسان، وبمحبته المجّانية التي تحتضنُ الجميع لاسيما الخطأة والمُهَمَشين الذين ابتعدوا عن صداقة الله بسبب طياشتهِم أو بسبب مُتطلّبات الشريعة. بشارة عارضها الكتبة والفريسيون ورؤساء الكهنة، الذين طالبوا الجميع: بالإلتزام بالشريعة طريقاً للخلاص. جادلوه وعارضوه وضايقوه، لكنّه لم يتراجع عن بشارتهِ. ذهبَ إلى أورشليم ليدافِع عن بشارتهِ، مدافعاً بذلِك عن الله الذي تعود على أن يدعوه: "أبّا"، وعلى الصليب ثَبّتَ ربنا هذه البُشرى، فلم يتنازل عنها ولم يتراجع عن مواقفه وعن ما بشّرَ به من الجليل حتى أورشليم، بل إلى العالِم أجمع: ومضمون البُشرى السارّة: الله معنا؛ عمانوئيل، وهو ينتظرُ عودتنا لأنه يُحبنا مجاناً، ويُريد أن نشاركه هذه المحبّة المجانية من خلال مقاسمتها مع القريب: "أَخَذتُم مَجَّاناً فَمَجَّاناً أَعطوا" (متّى 10: 16).
علّم الكتبة والفريسيون ورؤساء الكهنة أن "المُصالحة مع الله ممكنة" من خلال توبةٍ صادقة وموقف ندامة نزيه وتقديم ذبائح حيوانية فيها يحمّلونَ الضحيّة وزرَ الخطيئةَ وشرّها. ويُمكن للإنسان أن يعود إلى بيتِ أبيهِ خادماً: "يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ" (15: 18- 19). ففي احسنِ الأحوال يبقى الإنسان فريسة الشعور بالذنب وهو يخاف مخالفة الشريعة وتجاوز الناموس. لكنّ بشارة ربّنا يسوع تجاوزت ذلِك، لأنه بشّرّ أن الله، أبٌ محُب، وهو مُستعدٌ ليقبلَ عودة الخاطئ فيهِبَ له نعمةّ البنوّة التي خسرها الابن الأصغر بطياشته وللأبنِ الأكبر بتكبرهِ. هذه هي مشيئةُ الآب التي أتمّها ربنا يسوع بطاعتهِ: "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" (متّى 26: 36). لم يخف الألم ولم يتمكّن من زعزعةِ إيمانهِ بأبيه، فواصل الصلاة إليه بعبارة: "أباّ"، "إلهي إلهي ... سأُبَشِّرُ أُخوَتي باْسمِكَ وفي وَسْطِ الجَماعةِ أُسَبِّحُكَ" (مز 22).
إيمان ربّنا يسوع بأبيهِ وبتدبيره المُحِب جعلهُ يقفُ أمام الجميع محتفظاً بسلامهِ الداخلي، إذ ترك كل شيء لعناية الله الآب. واجه يهوذا الصديق الذي سلّمهُ بقبلة الخيانة، وشهدَ حماس رجل رفع السيف ليُدافع عنه ثم هربَ مع التلاميذ، ونظر إلى بطرس الذي نكرهُ ثلاث مراّت. شاهد غضبَ رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وإضطراب بيلاطس وأورشليمَ وقلقَ هيرودس. طالبهُ الجميع بأن يتخلّى عن هوية: "ابنُ الله"، وهو يعرف أن إعلان هويته هو توقيع مرسوم إعدامه، ومع ذلك، وإيماناً منهُ بأبوّة الله أعلنَ أنه المسيح، إبنُ الله (لو 22: 66- 71)، وسيُعلِن عن محبّة الله للإنسان الخاطئ على الصليب بالغفران المُقدَم له نعمةً: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لو 23: 34). فاليوم اختار يسوع أن يُواصل الطريق دون تراجع، وأكثر من ذلك يموت بدل إنسان يستحق الموت. فبرأبا القاتل كان مُستحقاً الموت. حضور يسوع أنقذَ برأبا ليحيا ويشهد للخلاص الذي ناله، فبرأبا، هو كل إنسان أُطلق حُراً بسبب يسوع. فلم يعد الله ينتظر من الإنسان أن يُقدِم له الذبائح، بل قدّم إبنهُ ذبيحةً ليجذُب الإنسان إليه.
"لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!"، ومشيئة الآب هي أن يعودَ الإنسان إليه إبناً مُطيعاً حاملاً حياتهُ كلّها لتكون ذبيحةً مُقدسة مرضيّة عند الله، والذي يُقدسها هو الله نفسه. فما نفعُ أن يحمل الإنسان الذبائح إلى الله تكفيراً عن عصيانهِ وخطاياهُ ويعودَ ويذبحَ القريب خفيةً أو علناً؟ ما نفعُ ذبائحنا إذا لم يكن في قلوبنا رحمةٌ ومحبةّ للقريب؟ ما نفعُ صلواتنا ولساننا لا يكفُّ عن ذمِ القريب والإساءة إليه؟ إلهنا يبحث عن إنسانٍ يُحبّهُ من كل القلب والفكر والذهن والقوّة ويحب القريب حُبهُ لنفسهِ، وهذه المحبّة كفيلةٌ بأن تُطهِر الإنسان وتجعلهُ يعبدُ الله بالروح والحق.
ولأن الإنسان لم يكن قادراً على قبولِ محبّة الله الأبوية مجاناً، خرجَ الله بنفسهِ ليدعو الإنسان ليِشاركهُ الفرحة، فرحة عودة الخاطئ إلى بيت الأب: ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد" (لو 15: 32). فما يطلبهُ الآب ليس طاعة عمياء مؤسسة على الخوف منه أو على الحصول على عطايا وهبات، بل يُريد طاعة أساسها المحبّة التي تتألمُ لخطيئة الإنسان، تحزن لإبتعاد الأخ عن بيتِ أبيهِ. طاعة يتنازل فيها الإنسان عن رغباتهِ وطموحاتهِ حُباً بالله، فتقديم ذبيحة حيوانية أسهلُ بكثير من التخلّي عما يُريحني من أجل إبقاء حياة الشِركة في بيتِ الآب.
"لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" تتطلّب إذاً طاعة كاملة كطاعةِ أمنّا مرّيم التي قالت "نعم" كلياً لله واستقبلته في حياتها متأملةً فيه في قلبها: "وكانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها" (لو 2: 19)، فأعطت لنا ربّنا يسوع المسيح، بخلافِ بيلاطس الذي رأى حقيقةَ ربّنا يسوع، الإنسان البريء الذي يطلبون معاقبتهُ: "لا أَجِدُ في هذا الرَّجُلِ سَبَبَاً لاتِّهامِه" (لو 23: 4)، "فأَيَّ شَرٍّ فَعَلَ هذا الرَّجُل؟ لم أَجِدْ سَبَباً لديه يَستَوجِبُ الموت" (لو 23: 22)، لكنّه، خوفاً على كُرسيهِ وحفاظاً على منجزاتهِ اختارَ صداقة قيصر ورفض صداقة الله: "إِن أَخلَيتَ سَبيلَه، فَلَستَ صَديقاً لِقَيصَر، لِأَنَّ كُلَّ مَن يَجعَلُ نَفْسَه مَلِكاً يخرُجُ على قَيصَر" (يو 19: 12). الطاعة لمشيئة الله تعني بالضرورة اختيار إرادتهُ أسلوبَ حياة: "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لو 1: 38). خطيئتنا هي أننا كلما صلينا: "لتكن مشئيتك"، ينتابُنا خوفٌ وتساؤلٌ: ما الذي يُريده الله مني؟ يمكن لله أن يطلب كل ما يُريد شرط أن لا يُكلفني راحتي؟ أنا مستعد أن أُساعد وأحب القريب ولكن وفق ما يسمح به الوقتُ والمزاج! هناك دوما شروطٌ مُسبقة من أجل إتمامِ مشيئة الله، وطاعتنا دوما ضعيفةٌ والإرادة الشخصية تسعى بإستمرارٍ إلى فرض ذاتها على حدِّ تعبير البابا بندكتٌس السادس عشر.
إلهنا وملكنا يُريد رحمةً لا ذبيحة، والرحمة تأتي من قلبٍ مُحب، مُحبٌ حتّى بذل الذات. قلب صادق في محبتهِ وأمين في وعدهِ، وهذا ما حصل على الصليب. فذبائح الهيكل لم تُقدم هذه المحبّة، بل كانت تُشير دوماً إلى خطيئة الإنسان الذي يقرّ بها ليعوّض عن خطاياه. "ذَبيحةً وتَقدِمَةً لم تَشأ لَكِنَّكَ فَتَحتَ أُذُنَيَّ ولم تَطلبْ مُحرَقةً وذَبيحَةَ خَطيئة. حينَئِذٍ قُلتُ: هاءَنَذا آتٍ فقَد كُتِبَ علَيَّ في طَيِّ الكِتاب. هَوايَ أَن أعمَلَ بِمَشيئَتِكَ يا الله شَريعَتُكَ في صَميمِ أحْشائي. قد بَشَّرتُ بِالبِرِّ في الجَماعةِ العَظيمة ولم أحبِسْ شَفَتَيَّ يا رَبِّ وأَنتَ العَليم." (مز 40: 8-9). فالله هو الذي سيُعطينا ما يطلبهُ منّا، لأننا لم نتمكّن من أن نُعطيهِ ما ينتظره منّا، فأعطانا يسوع المسيح وأعدَّ له جسداً وأخذ على عاتقه خطايانا (عبر 10: 5-6)، وقدمها لله وسمّرها على الصليب في ولاء تام له، كلّفه حمل الصليب والموت عليه. "ذلك بِأَنَّ اللهَ كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَم وغَيرَ مُحاسِبٍ لَهم على زَلاَّتِهم، ومُستَودِعًا إِيَّانا كَلِمَةَ المُصالَحَة. فنَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المسيح وكأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِأَلسِنَتِنا. فنَسأَلُكُم بِاسمِ المسيح أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم. ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله.". (2 كور 5: 19- 21).
بمعنى آخر: لقد كُشِفَ ظُلمَ العالم وخطاياه في صلبِ ربّنا يسوع المسيح، ولكن ربّنا أخذها ليُطهرها بمحبتهِ من خلال الغفران الذي يطلبهُ من الله: "يا ابتِ أغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون" (لو 23: 34)، من دون أن يسمح لهذا الظلم والعنف بأن يُنتِجَ عنفاً وشراً، فانتصرَ الخير، الله، على هذا الشر. هذا الشر الذي لا يُريده الله، لأنه شرٌّ يُسيءُ إلى الإنسان ويدمر صورة الله، ولكنه واقعٌ موجودٌ في العالم بسبب خطايا الإنسان وطياشتهِ، ولا يُمكن أن يتجاهلهُ الله بل أخذه على نفسه، وحوّلهُ بطاعةِ ربّنا يسوع المسيح ليكون سببَ حياةِ الإنسان. فالطاعة حلّت محل الذبيحة، والعيش بمُقتضى مشيئة الله هو ما يُطلبه الله من مؤمنيهِ، وهو ما لم نتمكّن من تحقيقه لأن إرادتنا تُعارض مشيئة الله. لذا، يُناشدنا القديس بولس قائلاً: "إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة " (روم 12: 1). فالعبادة الحقيقية هي أن نجعل حياتنا كلّها لله على مثالِ ربّنا يسوع.
لقد أتمَّ ربّنا يسوع فصحهُ من أجلنا، وهو ينتظر أن نقوم نحن بفصحنا جواباً على المحبّة التي أظهرها لنا على الصليب. الجمعة العظيمة ستكون عظيمة حقاً إذا قبلنا أن نُحب الله والقريب مثلما أحبنا هو. ومحبتهُ تتطلّب أن ننزعَ عنّا ثوبَ الإنسان العتيق، ثوبَ الخطيئة. ثوب الكذب والرياء والافتراء. ثوب الكبرياء والحسد والجشع والطمع، ثوب التمرد واللامبالاة. هذه الأمور التي تجعلنا مُشاهدين لما يحصل على الصليب لا مُشاركينَ المصلوب ألمهُ وعذابهُ.
الجمعة العظيمة ستكون عظيمة إذا قبلنا أن نلبس الإنسان الجديد، يسوع المسيح، هذا الثوب الذي يُعطى لنا كلّما قررنا العودة إلى بيت الله الآب، الذي أعدَّ لنا وليمة فرح عظيمة. فلنتُب ولنرجع تاركين عالم الأكاذيب الذي حبسنا أنفسنا فيه. لقد عبرَ الله إلينا بيسوع المسيح، فلنتواضع ونقبل يديه الممدودة ولنعبر إليه، فهو قادرٌ على أن يمحو خطايانا ويملاْ أنفسنا بالمحبة واللطف والمُسالمةِ، بالوداعة والحكمة.
فهل سنخرجُ من هذه الكنيسة مثلما دخلناها؟ أم نتيح للماء والدم الذي خرجَ من جنب المصلوب بأن يغسلَ حياتنا كلّها ويُطهرها من شرورها؟
هل سنبقى نُفكر في ضرورة أن يُغيّر هذا وذاك حياتهُ، ويُخرج القذى من عينهِ قبل أن نتصالح معه، أم سنسمح لإلهنا بأن يمد يده ويُخرج الخشبة من عيوننا، ونبدأ بتغيير حياتنا؟
ينظُر إلينا ربّنا يسوع من على صليبه وينتظر أن يُفكِر كل واحد منّا في خطاياهُ من دون تبريرات نحاول فيها الهربَ من مسؤوليتنا في صلبِ ربّنا يسوع: "فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ كَيْفَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً. (لو 22: 15- 16). لنسمحَ لنورهِ بأن يشعَّ في قلوبنا ويفضح كبرياءَنا، ويكشِف عن حقيقةِ حياتنا الملطخة بالحسد والأنانية والغضب والحقد والمرارة والبحث عن المجد الباطل والتراكض لإرضاء شهواتِ الجسد بعيداً عن الله.
البُكاء الذي ينتظره ربّنا اليوم هو بكاء على خطايانا وليس بُكاء عليهِ: "يا بَناتِ أُورَشَليمَ، لا تَبكِينَ عَليَّ، بلِ ابكِينَ على أَنفُسِكُنَّ وعلى أَولادِكُنَّ" (لو 23: 28). فنحن نسعى دوماً إلى تغيير حياة الآخرين وإصلاح أفكارهم ومواقفهم، فنوجه أصابعَ الاتهام إلى هذا وذاك، ونغسل أيدينا لنبرّئ مسؤوليتنا في التفكير في تغيير أنفسنا وحياتنا ونزع الكبرياء الذي يُسمّرنا في الأرض بتشامخ، ويدفعنا إلى التنافس الذي يقتل روح الأخوة فينا ويجعلنا أعداء واحدنا للآخر.
فالسؤال هو: أين أنا من محبّة الله هذه؟
إذا أردنا أن نُنزِل ربنا يسوع من على الصليب فعلينا أن نرفع عنه المسامير، وإذا لم يكن بالمُستطاع أن نرفعَ مسامير الآخرين، فلنبدأ برفع خطايانا، المسامير التي تُبقي ربّنا مصلوباً. فإن لم نشعرَ بأن ما حصلَ على الصليب يخصّنا فلن يكون بإمكاننا أن نستوعِب عمقَ محبة الله من أجلنا. هذا الشكل من الفصل بين آلام المسيح وبين حياة الإنسان، وهو وسيلة أخرى للهرب من تبعات ألمِ المسيح يسوع، وخدعة أخرى تجعل الإنسان يتكيّف مع الشر دون أن يُقحِم نفسه في إلتزامِ بمسؤولية محاربة الشر بدءاً من الذات. فكثيراً ما ننشغل بخلاص غير المؤمنين، والحال أن علينا أن نهتمّ بخلاص الذين يؤمنون ولا يعيشونَ متطلبات هذا الإيمان، فيعرفون الله ولكنهم يعيشون وكأنهم لا يعرفونه.
"أَمَّا الآن فأَلْقُوا عَنكم أَنتُم أَيضًا كُلَّ ما فيه غَضَبٌ وسُخْطٌ وخُبْثٌ وشَتيمة. لا تَنطِقوا بِقَبيح الكَلامولا يَكذِبْ بَعضُكم بَعضًا، فَقَد خَلَعتُمُ الإِنسانَ القَديم وخَلَعتُم معَه أَعمالَه. ولَبِستُمُ الإِنسانَ الجَديد، ذاك الَّذي يُجَدَّدُ على صُورةِ خالِقِه لِيَصِلَ إِلى المَعرِفَة. فلَم يبْقَ هُناكَ يونانِيٌّ أَو يَهودِيّ، ولا خِتانٌ أو قَلَف، ولا أَعجَمِيٌّ أَو إِسْكوتيّ، ولا عَبْدٌ أَو حُرّ، بلِ المسيحُ الَّذي هو كُلُّ شيَءٍ وفي كُلِّ شيَء. وأَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر. اِحتَمِلوا بَعضُكم بَعضًا، واصفَحوا بَعضُكم عن بَعضٍ إِذا كانَت لأَحَدٍ شَكْوى مِنَ الآخَر. فكما صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا. والبَسوا فَوقَ ذلِك كُلِّه ثَوبَ المَحبَّة فإنَّها رِباطُ الكَمال. ولْيَسُدْ قُلوبَكم سَلامُ المسيح، ذاكَ السَّلامُ الَّذي إِلَيه دُعيتُم لِتَصيروا جَسَدًا واحِدًا. وكُونوا شاكِرين" (قولسي 3: 8- 15).
هذا هو الطريق الذي من خلالهِ نشهَد لمحبة الله فينا، محبةٌ تُحارِب العداوة لا العدو، محبة تغفرُ، محبة تُصالِح وتجمع شتات أبناء الله. محبةٌ أمينةٌ تقفُ إلى جانب المصلوب مثلما وقفت النساءُ اللواتي لم يتركنَ ربنا يسوع يواجه الموت وحده، بل رافقنهُ بدموعٍ (لو 23: 55)، لأنهنَّ أحببنَ كثيراً (لو 7: 47)، ومَن يُحب عليه أن يخدُم، فالخدمة هي الترجمة الحقيقية للمحبة، لأن المحبة ضيافة، والضيافة تتطلّب الخدمة، والخدمة طاعة لمحبّة الله: "أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مر 10: 45).
في هذا اليوم المُبارك نتقدّم إلى يسوع المصلوب مُقدمين له ذواتنا طالبين منه أن يغسلها بدمه ويُطهرها بماء الحياة الذي خرج من جنبهِ. لأننا نؤمِن بأنه صُلِبَ من أجل خطايانا، وعليه يسألنا اليوم لا لنحزَن عليه بل لنحزنَ على خيانتنا ونُكراننا له.
نتقدم إليه ونقبل بفرح المُصالحة التي صارت لنا بالصليب، فنعيشها غفراناً للقريب، فلا نطلب الانتقام، بل نعفو ونغفر ونضع كل الإهانات التي وُجهِت إلينا تحت أقدام الصليب، فنسير إلى مجد القيامة.
نتقدم إليه ونطلب منه أن يصلبَ معه إنساننا العتيق، ونلتزم بمسؤوليتنا عن خير القريب عندما نسعى لخيره وفرحه، بكلامنا الطيّب، وبعملنا الصالح، بنوايانا النزيهة، فيراها الآخرون فيُمجدوا الآب السماوي (متى 5: 16).
نتقدّم إلى صليب ربنا طالبين منه أن يقبل خطايانا: تكبرنا وتعالينا وغضبنا وأنانيتنا وتفكيرنا الضيق. وأحكامنا وتصوراتنا. شرّنا وطمعنا وفسادنا. أقنعتنا المُزيفة ومقاصدنا الشريرة ... هذه التي تُصيب جسد الكنيسة بجروحٍ عميقة وتُبقي ربّنا يسوع مصلوباً.
نريد اليوم أن نسمع ونقبل عطية الله بيسوع المسيح. يا أبتاه اغفر لهم، إنهم لا يدرون ما يفعلون ... وهذا حق، فنحن لا نعرف كيف تجاهلنا نعمة الله وعطيته لما رفضناه وتبعنا إغراءات الحياة. اليوم مات يسوع، وأمات معه جسدنا الذيبلي بالخطيئة، ليُصيرنا لله وحده. لقد اشترانا ودفع الثمن عنّا، فصارت لنا الحياة الأبدية.
نريد اليوم أن نتقدم واحدنا إلى الآخر بسلامٍ صادق، وقُبلة مُقدسة تعبيراً عن إمتناننا العظيم لمحبة الله التي ظهرت لنا بيسوع المسيح
خميس الفصح
أن نكون الفصح الذي نحتفل به: (مـّى 26: 1- 5، 14- 30)
"إصنعوا هذا لذكري" هذا هو طلب ربنا يسوع المسيح اليوم، وهو لم يطلبُ منّا أن نتذكّر أو نعلّم، بل قال: "اصنعوا"، أي أن نكون مُشاركين فاعلين وليس مُشاهدين، أن نصنع ما صنعهُ ربنا يسوع نفسه. فالمسيحي ليس مسيحياً بالكلام بل بالفعل: "لَيسَ مَن يَقولُ لي "يا ربّ، يا ربّ" يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات"، هو نفسه جاءَ ليصنعَ إرادة الله الآب الذي أرسلهُ: "طعامي أن أعمل مشيئة مَن أرسلني". المسيحيون الحقيقيون هم الصانعون والفاعلون، وليسوا المُشاهدين المُتذكرينَ. لذا، فنحن اليومَ مدعوون ليس للمُشاهدة بل للمُشاركة الحقيقية.
ولكن ما الذي صنعهُ ربّنا يسوع اليوم؟ وهل يُمكننا أن نصنعَ ما صنعهُ هو؟
أربعة أفعال تختصر ما صنعهُ ربّنا يسوع: "أخذ، بارَك، كسرَ، أعطى"، وهي تُساعدنا أيضاً لنعرِف كيف لنا أن نصنعَ ما صنعهُ ربّنا يسوع أيضاً.
فلقد أخذ ربّنا يسوع اليوم خبزاً من أرضنا وباركهُ وكسره وأعطاهُ. لم يكن أولَ شيءٍ يأخذه من أرضنا، فلقدَ أخذ منها جسدهُ: "والكلمة صارَ جسداً"، فما يأخذه من خبزٍ اليوم هو تواصلٌ لما بدأه قبل 33 سنة من حادثة العشاء الأخير، عندما أخذ من جسد مريم أمنا جسدهُ وولدَ في بيتَ لحمَ، بيت الخُبز. إلهنا أخذ منّا جسدنا ليُعلّمنا كيف تُعاش الإنسانية لتصل بنا إلى الشِركة مع الله. ففعل اليوم هو تحقيق لما بدأه في التجسّد.
وإذ يأخذ الربّ جسدنا، فذلك ليس ليُبقيهُ له مُلكاً بل يأخذه لنكون نحن جسدهُ. فيأخذ الخبز اليوم بيديه، ويأخذنا ويحملنا إلى الله الآب مُبارَكينَ، مثلما يقبل منّا في بدءِ كل قُداس عطايا الخُبزَ والخمرَ، ليُباركها ويُقدسها ويُعيدها الينا وقد تحولّت إلى ذاته. فهو يُبارِك كل ما يأخذه، وهكذا أخذ اليومَ الخُبزَ وبارك، باركَ الله مٌعترفاً بصلاحِ الله الذي باركنا بمحبتهِ، على الرغم من الشك والخيانة والخطيئة التي فينا. هذه البركة هي التي تجعلنا أبناء الله في شِركةٍ معه، فلن تكون أعمالنا شفيعةً لنا في الخلاص، بل محبة الله التي اخذتنا وباركتنا، لنكون في العالم بركةً. وهكذا نتعلّم أن نُبارِك كلَّ ما تُمسكهُ أيدينا، فلا نتعامل معه بأنانيةٍ بل بمحبةٍ فنعترِف بتواضع أنه عطيةُ الله، وأن الآخرين ليسوا أعداءَنا يُنافسوننا على عطايا الله، بل همُ مُبارَكون معنا من أجلنا، ونحن مُباركونَ من أجلهم. كم نحن بحاجةٍ اليوم إلى هذه الأياي التي تُقدس العالم. فكلما إستغل الإنسان العالم لمصالحهِ إشتعلت حروبٌ ونزاعاتٌ بين البشر.
ففي إفخارستيا ربّنا يسوع نحن مُباركونَ وهذه البركة تُغيّر حياتنا كلّها، فتجعلنا ليس خُبزَ الله المُبارَك فحسب، بل المُكسور والمُتقاسم: "أخذ وباركَ وكسر وأعطى"، فما نفعُ الخُبزِ إن لم يكن خُبزأً مكسوراً مأكولاً؟ الخبُز جميل المنظر وشهيٌّ للعيون، ولكنه لن يفيد شيئاً ما لم يُؤكل. فهو يبيس من دون فائدةٍ. أكلهُ هو الذي يجعلهُ نافعاً وإن كان من أن هذا الأكل سيُفقده جمالَ منظره ورائحتهُ الطيبّة. الخبُز صُنعَ ليكون مأكلاً، ليكونَ خُبزَ الحياة.
فنحن اليوم إذ نُعلِن إيماننا بهذا الخُبز والخمر قائلين: آمين، نؤمنُ ونعترِف، فإننا نقبلُ لا الخبزَ الذي على المذبح فحسب، بل نقبل أن نصيرَ الخُبزَ الذي يُعطي الحياة، فنجعلَ حضورَ المسيح حقيقياً في العالِم، فنُمجد الله في أجسادِنا، ونقبل في طاعة الإيمان أن نجعل من أجسادنا ذبيحة حيّة مقدسة مرضية عند الله. ربنا يعرِف أنه سيُعطي جسده لأناسٍ قد لا يكونونَ أُمناءٍ دوماً، ويعرف أن المُجرّب زرع الشك والخيانة في الكنيسة وفي كل منّا. ولكنه على الرغم من ذلك، أعطى جسدهُ لنتقاسمهُ ويجعل منّا جماعة تعرِف كيف تُبارك الآخرين، وتكسر جسدها من أجلهم جميعاً من دون ِتمييز.
يروي احد الكهنة أنه دُعي يوماً ليحتفل بالذبيحة الإلهية التي كانت تحضرها الأم تريزا، ففرِح جداً بهذه الدعوةِ، وإستعدّ لها ورتّب كل لحظاتها وبدء القُداس بكل فرحٍ وحماسٍ لأنه صارَ بقُربِ هذه الإنسانة العظيمة، الشاهدة الغيورة لمحبّة ربنا يسوع.
ولكن ما أدهشهُ كثيراً هو الفرح الذي كان على وجه الأم تريزا وهي تقبلُ القُربان من يدهِ، فضمّت يسوع إلى قلبها وأعلنت آمين عندما قال لها: جسد المسيح، وانسحبت من بين المُصلين تشكرُ هذه النعمة، ثم خرجت من المُصلّى واحتضنت راس مريض كان يحتضر، وكأنه راس يسوع حتّى مات بين أحضانها. لقد عاشت الـ"آمين" التي قالتها عندما تناولت القُربان، وصارتَ هي الافخارستيا التي احتفلت بها، لأنها سمحت لجسدِ ربّنا يسوع أن يحوّل جسدها إلى جسدهِ هو، إلى الحياة المُباركة في الخدمة المتواضعة.
فان "آمين" التي نُعلنها كلّما تناولنا جسد المسيح بحاجةٍ إلى شهادةِ حياة تجعلها "آمين" حقّا في واقع الحياة اليومية، مثلما فعل قديسو الكنيسة ان سلّموا حياتهم كليا الى المسيح فحوّلها إلى جسدهِ. لنسألهُ اليوم أن يأخذ منّا أجسادنا ويُقدسها لتكون القُربان الذي يُقدمه لله الآب وللعالم.
الأحد السابع من الصوم (أحد السعانين)
"مُباركٌ الآتي بإسم الرب" (متّى 20: 29- 21: 22)
خطط ربّنا يسوع لهذا اليوم الذي فيه يتمجّد الربُّ الإله لأنه أتمَّ وعدهُ بأن "يُخلّصنا من خطايانا"، فهذا هو معنّى إسمهُ ومضمون رسالتهِ التي كشفها الملاكُ ليوسُف في الحلم (متّى 1: 22). فأعدّ ربّنا يسوع ترتيبَ الأحداث، في إشارة واضحة إلى أنه سيّد حياتهِ وهو الذي يُسلّمها إلى الله الآب طاعة لمشيئتِه. واختار أن يدخل المدينة راكباً على جحش، حيوان يمتلكهُ بُسطاء الناس والفقراء منهم. فلم يدخلها راكباً جواداً مثلما يفعل ملوك الأرض، محاطين بعساكر ومركبات تمجيداً لاسمهم تاركين خلفهم ضحايا أبرياء. فالملوك كانوا يركبون الخيل ويبدون استعدادهم للحرب، فيما كانوا يركبون البغالِ وقت السِلم والطمأنيةَ، ولنا مثالُ في سفر الملوك حينما أركبَ صادوق الكاهن وناثان النبي الملِك سُليمان بغلةَ الملِك داود أبيهِ (1 مل 1: 38)، سعياً منه للمُصالحةِ مع الناس ولم شملهم.
رافق دخولهُ جموع المؤمنين تُمجّد الله وأطفال تُنشد له: "هُوشَعْنا لابنِ داود! تَباركَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ! هُوشَعْنا في العُلى!" فالهدف هو: دخول أورشليم ودخول الهيكل، مكان لقاء الله بالإنسان، ليكون بيت صلاة حيث يلتقي الله جميع الأمم بيسوع المسيح. أرادَ ربّنا أن يكون دخوله بدءَ حياة سلام، فلا خيول ولا عساكر ولا مركبات حربية بعد الآن. لا قتال ولا عنفٌ في المدينة (العالم)، بل سلامٌ (زكريا 9: 10)، وسلامُ الله هو الذي يملُك على قلوبنا. إلهنا يدعونا إلى السلام، إلى التخلي عن العنف ومدِّ يد المُصالحة وقد صارَ لنا سلاماً على خشبة الصليب.
أعلنت الجموع ملوكيتهُ: "هُوشَعْنا لابنِ داود! تَباركَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ! هُوشَعْنا في العُلى"، ولكنّ سلطتهُ ليست كسلطان ملوك هذا العالم، لأنه أرادَ أن يكون ملكاً على قلب الله، ملك الفقراء، فصارَ فقيراً مثلهم ولأجلهِم. فقيرٌ مؤمنٌ بأبوة الله وبتدبيرهِ فلم يبحث عن سُلطة أو مكانةٍ متميّزة، مثلما طلب إبنا زبدى منه، ولم يرغب في غنّى مادي يأسرهُ ويُبعده عن محبّة الله. لم يكن متعطشاً إلى التملّك، فقلبهُ هو كلياً لله. هو المحبّة والسلامٌ والغفران والمُصالحةٌ. ملكٌ لا يُخيفُ ولا يُثير في نفوس الآخرين مشاعر الحسد والعنف، لذا، إستقبلته الجموع بأغصان الأشجار مُعترفين أنه هو المسيح، المخلص، هو الملك، إبن داود، فقدّمت له حياتها: "ثُمَّ وضَعا على الجحش ثيابهم، فركِبه يسوع. وكانَ مِنَ النَّاسِ جَمعٌ كَثير، فبَسَطوا أَردِيَتَهم على الطَّريق"، تعبيراً عن الإستسلام والطاعة الكاملة له، وقبول الطريق الذي اختاره هو ليكون ملكاً، طريق الغفران، طريق المُصالحة طريقُ الصليب. في حياتنا اليوم مظاهر كثيرة تدعونا لأن نتبعه، وأصوات كثيرة تجذبنا إليها بعيداً عن محبّة إلهنا. سعانين ربّنا يسوع دعوة ليكون هو "الملكُ الأوحَد" في حياتنا. ولكي يكون السير في اثره صادقاً، علينا أن نبحث عن الله، لا أن نسيرَ مع الجموع حيثُما تسير. والله اختار الصليب طريقاً ليصلَ إلى قلوبنا.
دخول ربّنا يسوع إلى أورشليم لم يكن ليتمجّد إسمهُ هو، بل من أجل تمجيد اسم الله الآب: "مُباركٌ الآتي باسم الربِّ". وتطلّب تمجيد اسم الربِّ أن يُطهِر هكيل الله، حيث يلتقي الله الإنسان في الصلاة، فيُزيل كل ما يُعيق الصلاة، ويُنقي الأجواء ليكون التواصل مع الله صحيحاً، فتكون العبادة بالروح والحق. إلهنا يطلبَ منّا أن نحبهُ من كل القلب والفكر والذهن، انه يُريد محبتنا. إلهنا يتطلّع إلى صلاة صادقة لا رياءَ فيها. يُريدنا أن نُكمِل مسيرة التطواف لا إلى أورشليم فحسب، بل إلى جلجلة الصليب: جلجلة المحبّة، فدخول أورشليم ما هو إلا محطةٌ أولى على الطريق، طريق المحبة وبذل الذات. ولأننا لا نفهَم معنى هذه المحبة ومضمونها، نعرجٌ ذات اليمين واليسار في مسيرتنا الإيمانية. لذلك شدّد القديس متّى في إنجيل اليوم على أن ربّنا يسوع شفى عميانا وعُرجاً في الهيكل، ليكون دخوله مُطهراً وشافياً، حاسماً وطيّباً. نحن مثلهم لا نرى حضورَ الله في حياتنا لأننا خطأة، ولا نسير في الطريق الذي اختاره هو، طريق المحبّة، طريق الصليب، وهو يدعونا لأن نتبعهُ في تطواف السعانين الذي يتقدمنا فيه الصليب
اليوم، وقد خرجنا لإستقبالِ ربّنا يسوع في سعانينهِ، هل لنا أن نُفكر في كلِّ ما يُفسِد مسيحيتنا ويُشوهّ صورة الله المطبوعة في قلوبنا، وهي هياكل الروح القُدس؟ أو لسنا نحن أيضا ًبحاجةٍ إلى "سعانين ربّنا يسوع" ليُنقي حياتنا من الرياء والكذبُ والنفاق والغش والغضب والعداوة والإحتيال ويجعلها طاهرة نقيّة تستحق أن تكون هيكلاً له: "مَن ذا الَّذي يَصعَدُ جَبَلَ الرَّبِّ ومَنْ ذا الَّذي يُقيمُ في مَقَرِّ قُدْسِه؟ النَّقِيُّ الكَفَّين والطَّاهِرُ القَلْبِ الَّذي لم يَحمِلْ على الباطِلِ نَفسَه ولم يَحْلِفْ خادِعًا (مز 24: 3-4). نحن بحاجةٍ إلى قلبِ يقبلُ المسيح ملكاً أوحد. وقبول ملوكية ربّنا يسوع تعني بالضرورة التحرر من عبودية ما يُناقضهُ والإيمان به ملكاً مُستسلمينَ إلى مشيئتهِ ليقودنا حيثما يُريد هو. أن لا تكون راحتنا هي الهدف، ولا يكون الغنى والتملّك غاية، ولن نبحث عن منفعتنا الشخصية، فهذه كلّها تجعل القلب يقسو ويكذب ويُخادع، بل أن نرغب ونحب عيش محبّة يسوع المسيح الذي يُطهّر القلب ويمد جسور السلام والمُصالحةِ بين الله والآخرين. علينا أن لا ننتظر أن يقوم ربّنا يسوع بثورة لتغيير الآخرين، بل نسألهُ بتواضع أن يُغيّرنا نحن، ويشفينا من أمراضنا ويسند ضعفنا، وهذا يتطلّب وجود إنسانٍ حُر، قادرٌ على أن يتخلّى عن كل شيءٍ ليكون مثلما هو من دون خوفٍ أو خجلٍ أمام ربّنا يسوع ليُشفى فيتبعه، ولذِلك ابتدأ إنجيل السعانين بقصّة شفاء الأعميين، لأننا مثلهم لا نُبصِر، ويتطلّب الأمرُ أن يُباركنا ربّنا بلمستهِ الشافية. فوقَفَ يسوعُ ودعاهما وقال: "ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لَكُما؟"، قالا لَه: "يا رَبّ، أَن تُفتَحَ أَعيُنُنا". فأَشفَقَ يسوعُ عليهِما، ولَمَسَ أَعيُنَهما، فأَبصرا لِوَقتِهما وتَبِعاه.
الأحد السادس من الصوم
"أنا باب الخراف ... أنا الراعي الصالح" (يوحنّا 9: 39- 10: 16)
تدعونا أمنّا الكنيسة اليوم إلى مرافقة ربّنا يسوع المسيح في دخوله إلى مدينة أورشليم ومواجهةِ الرفض والعذاب والصليب والموت، فأعلنَ ربّنا يسوع للجموع (ولنا أيضاً): أنه باب الحظيرة وهو الراعي الصالح، في إشارة واضحة إلى أنه هو الطريق إلى الحياة (الباب)، ولن يكون هناك طرقُ أخرى، فعلى هذا الباب وضعَ إلهنا علامة الخلاص، فدمُ الحمل صارَ عليه: "ويأخُذُونَ مِن دَمِه ويَجعَلوَنه على قائِمَتَيِ البابِ وعارِضَتِه على البُيوتِ الَّتي يأكُلوَنه فيها" (خر 12: 7). هو الحياة لأنه بذلَ ذاتهُ من أجل خرافهِ، فكلُّ مَن يُريد أن يكون عضواً في جماعة ربّنا يسوع عليه أن يدخل من خلالهِ إلى الحظيرة، أي أن يتبعهُ عن قُربٍ ويتّحدِ به: "دخول الباب". أن يُحبهُ محبة الابن لأبيه السماوي. لذلِك، سأل ربّنا يسوع سمعان بطرس أن يرعى الخراف ولكنّ عليه أولاً أن يُبرِهِنَ له أنه يُحبهُ، ويتبعهُ (يو 21: 15- 19)، أي أن يكون مُستعداً لبذِل الذات على مثال الراعي، ربّنا يسوع المسيح، فاتباعه يعني بالضرورة السير في الطريق الذي اختاره هو ليُتمِمَ مشيئة الآب السماوي.
"أنا بابُ الخراف"، فالباب يوفّر الأمان للخراف ويحميها من هجمات السُراق والحيوانات المُفترِسة، فيسمح لنا بأن تكون "جماعة" ما دامت متحدّة به، فهو ضمانةُ حياتها وبقائها. فمَن له نوايا صالحة سيدخُل من الباب إلى حظيرة الخراف، أما الذي يسعى وراء مصالحهِ ومتعتهِ الشخصية فيتسلل من موضعٍ آخر ليخطُف الخرافِ ويعبثَ بها. ربّنا يسوع أعلنَ أنه الطريق إلى الآب يمر من خلالهِ، فلن يكون بالإمكان اقتراح طريق آخر، ولا يُمكن تجنّب الطريق الذي اختاره الله الآب حتّى لو تطلّبَ ذلكَ الألم والصليب، وعندما يسعى أحدهم إلى منع ربّنا يسوع من السير في هذا الطريق، سيُعلمّه ربّنا أين هي مكانتهُ: "وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث. فَانفَرَدَ بِه بُطرُس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول:"حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!. فالتَفتَ وقالَ لِبُطرس:"إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر" (متّى 16: 21- 23).
ربّنا يسوع المسيح إذاً هو بابُ الخراف، وهو راعيها الصالح. انه الراعي الذي له سُلطة على الخراف يأمرها فتطيعهُ وتسير وفقَ إرادتهِ، ولكنه يُمارِس سلطانهُ بمحبةٍ تظهر من خلال العناية بالخراف وتوفير الآمان والغذاء والماء لها: "أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يو 6: 35). فلا خوفَ إذاً مع هذا الراعي الصالح، حتّى لو سرنا في طريق الألم والصليب: "إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي. عَصاكَ وعُكَّازُكَ يُسَكِّنانِ رَوعي" (مز 23: 4). فمسيرة الإيمان متطلّبة ومُخيفةٌ أيضاً، لكننا مؤمنون أنه معنا، يتقدمّنا على الطريق، هو عيوننا التي ترى ما لا نراهُ بسبب مخاوفنا، وإن تعثرنا في المسيرة أو إبتعدنا عن القطيع، فنحن واثقون من أنه لن يتركنا، فصوتهُ وعصاه تُرشدنا إليه وسيبحث عنّا إن ضللنا في مسيرتنا، هو راعينا وحارسنا الأمين.
مسيرة الصوم تبقى صعبة لأنها تتطلّب منّا أن ننزعّ عنّا الإنسان القديم، إنسان الخوف الذي يبحث عن تأمينِ حياتهِ من خلال التسلّط أو التملّك أو البحث عن الاسم والمكانة والشهرة، فيكذب ويسرق ويخطُف ويُهلِك ويعبثَ، لأنه خائفٌ من أن يفقدَ حياتهُ. هوذا الراعي يُسمِع صوتهُ: "أنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف"، فاتبعني ولا تخف. وهذه هي غاية الصوم، أن يُهيئنا للسير قُدماً خلفَ ربّنا يسوع في الطريق الذي اختاره الله الآب له. أن نسمح لربّنا يسوع أن يرفع عنّا مخاوفنا، فنتبعهُ ونرافقه وهو يدخل أورشليم الرفض والألم والصليب. فالصليب، بذلُ الذات، اختيار أساسي في حياة الراعي، ربّنا يسوع المسيح الذي يهبُ حياتهُ بحرّية تامّة من أجل الخراف: "أَنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف (...) إِنَّ الآبَ يُحِبُّني لِأَنِّي أَبذِلُ نَفْسي لأَنالَها ثانِيَةً ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ. فَلي أَن أَبذِلَها ولي أَن أَنالَها ثانِيَةً وهذا الأَمرُ تَلَقَّيتُه مِن أَبي" (يو 10: 11- 18).
ربنا يسوع إذا هو الباب وهو الراعي والمرعى، وهو يعرفنا ويُنادينا اليوم بأسمائنا ويتقدمّنا على الطريق، وهذا الطريق هدفهُ واضح: أن يقودنا إلى الله الآب، فمن خلال ربّنا يسوع ندخل في علاقة الحُب بين الآب والابن: "أَنا الرَّاعي الصَّالح أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي وأَبذِلُ نَفْسي في سَبيلِ الخِراف". فجماعة ربّنا يسوع، كنيستهُ، هي تلك الجماعة التي وُلِدَت بمحبة الآب والابن، وأرتبطت بعلاقة مع الابن كإرتباط الابن بالآب، وهي تنال حياتها وهويّتها لا إستحقاقاً بل من خلال عطيّة حياة الابن. فليس أمام الكنيسة إلا أن تتبع ربّنا يسوع إلى أورشليم، إلى الصليب.
اليوم، ونحن نبدأ مسيرة الأسبوع السادس من الصوم، وفي خاتمتهِ سندخل مع ربّنا يسوع إلى أورشليم، تسألنا أمنّا الكنيسة إن كنّا مُستعدين لأن نتبعهُ محتفلينَ به في سعانينهِ وأصدقاء مُقربين منه في آلامهِ؟ هل ما زلنا نُفكّر في مسيحية مُريحة في متطلّباتها أم أن نتبع المسيح ونتخلى عن كل ما يمنعنا من ذلك بصدقٍ وإخلاصٍ؟ فالصوم لم يكن من أجل أن نكون "أناساً صالحين"، بل من أجل أن نُصبِح "تلاميذ حقيقيين"، فأورشليم ستكون تحدياً حتّى بالنسبة إلى المُقربين من ربّنا يسوع، فسينكره أحدهم، ويُسلمهُ آخر إلى أعدائه، ويهربُ البقية، لأنهم لم يكونوا مُستعدين لمثل هذه الساعة، وسيبقى إلى جانبهِ: مَن يُحبهُ فقط.
الأحد الخامس من الصوم
"أنا نور العالم" (يوحنّا 7: 37- 44/ 8: 12- 20)
"أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" (يو 8: 12). كشفَ ربّنا يسوع عن هويتهُ ورسالتهُ. هو الكلمة الأولى التي قالها الله كانت: "لِيَكُنْ نور"، فكانَ نور" (تك 1: 3). هو نورُ الله، نعمةٌ منه ليُنير حياة كل إنسان، فالذي يُؤمِن به ويقبلهُ سينال نعمة أن يكون إبن الله: "أمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يو 1: 12)، والحقيقة كانت أن البعض لم يقبلوا هذا النور لأن أعمالهم شريرةٌ أو لأنهم فقدوا الرجاء مثلما فعل يهوذا الأسخريوطي عندما سلّم ربنا يسوع إلى أعدائهِ؛ فكتبَ يوحنا الإنجيلي عنه: "فتَناوَلَ اللُّقمَةَ إِذاً وخرَجَ مِن وَقتِه، وكانَ قد أَظلَمَ اللَّيل" (13: 30).
تجاوزنا منتصف الصوم، ويُفتَرَض أن يكون قد قُمنا بمسيرة توبة صادقة ونزيهة في حياتنا، وتعرّفنا إلى الظلمة التي نعيش فيها وعلى واقعنا المؤسف والمُحبِط، وظهر لنا أننا محدودون فيما يُمكن أن نقوم به أمام عدد الخطايا الشخصية التي ارتكبناها. واكتشفنا أيضاً أننا لسنامستعدين أن نجابهها وأننا عاجزون عن تغيير العالم من حولنا. بل نحن عاجزون عن محاربة الشر والجشع والفساد والكذب والرياء الذي قد تغلغلَ في حياتنا. ولسنا نُنكِر أننا مسؤولون جميعاً عن هذا الواقع ولا يُمكن الإنسحاب منه، لأننا جميعاً "نُحبُ خطايانا" ولا نُريد الإقلاع عنها، فنبقى في الظلمة التي تأقلمنا معها. وهنا نسمع ربّنا يسوع يقول: "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة"، وفي قولهِ هذا دعوة: "إتبعني" (مَن يتبعني)، وتباعتهُ كفيلةٌ بتغيير هذا الواقِع المُظلِم الذي نعيشُ فيه، وسنُعيد إلى العالم الوجه الحسَن الذي تشوه بالخطيئة: "ورأَى اللهُ أَنَّ النورَ حَسَن" (تك 1: 4).
هذا الاختيار يُسمّى رجاء إذ فيه نعترِف بأننا لسنا قادرينَ على فعلِ شيءٍ تجاه هذا الواقع المرير والخاطئ الذي نعيشهُ ومجابهة التحدي الصعب، لكننا مدعوونَ للإصغاء إلى صوتِ الله المُحِب والإستسلام إلى إرادتهِ بحرية وإيمان واثقين أنه قادرٌ على تغيير هذا الواقع. فعلينا أن نقضي وقتاً في التعرّف إليه هو نورنا، وسيٌضيءُ حياتنا ليُعرّفنا حقيقة أنفسنا، ويدعونا للخروج من الظلمة التي نحن فيها ومُغادرة المنطقة التي نحن فيها ونعبُر إلى الضفة الأخرى حيث الله، وهذا الفعل يتطلّب شجاعة وصبراً وإلتزاما في مواصلة المسيرة مهما كانت صعبة، مؤمنين أنه لن يتخلّى عنّا ولن يخذُلنا، والصومُ نعمةٌ يمنُّ بها الله علينا، لا من أجل الإنقطاع عن الطعام، بل للإقلاع عن الخطايا، وقبول المسيح طعاماً وشراباً للحياة، فنحن نصومُ لأجل المسيح.
هكذا يكون هذا الاختيار بمثابة "جذب المُستقبَل الذي يُريده الله إلى واقع اليوم"، والبدء بتحقيقهِ معه وليس دونهِ، واثقين بأن الأمور ستكون أفضل، ليس لأننا أشخاص متفائلون، بل لأننا نؤمِن بالله ونسعى لتحقيق إرادتهُ في حياتنا، وإيماننا به يجعلنا متفائلين. هذا الاختيار مؤسسٌ على الله، صخرة إيماننا، وأساسهُ الذي يدعونا للبناء عليه بيسوع المسيح، نور العالم، الذي جاء لنجدتنا لا ليُخلّصنا من خطايانا فحسب، بل ليعضُدنا ويسند ضعفنا ويُقوينا في مسيرة حياتنا، مؤمنينَ ومُعترفينَ أن المُبادرة جاءت منه، لأنه محبّة، ولولا عونه لما كان في مقدورنا أن نكون ما نحنُ عليه. هي حقيقة إيمانية نُصليها شاكرين في كل قُداس عندما يرفعُ المُحتفل الدعاء بعد رواية العشاء الأخير في القداس قائلين: "وكما أوصيتنا، لقد إجتمعنا نحنُ عبيدَك الضعفاء، لأنّك أسديتَ إلينا نعمةً عُظمى لا توفَى، إذ تجسدّت لكي تُحيينا بلاهُوتِكَ، فرفعتَ ذُلّنا، وأقلتَ عثرتنا، وبعثتنا وغفرتَ خطايانا وبررتنا من إثمنا وأنرتَ عقلنا وخذلتَ أعداءنا ونصرتَ طبيعتنا الضعيفة بمراحِمِكَ الفائضة".
ففي وسط هذا الواقع المُؤلِم والمرير يصرخُ ربّنا يسوع منادياً: "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة"، ومَن يُقبِل على هذا النور ويقبلهُ، سيُشرِق هو بشهادة حياتهِ: "إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ" (يو 7: 37- 38). فكل مَن يشربُه يغدو نبع ماءٍ حيّ لمَن هم من حوله، لأن شربَ المسيح، سيتيح لنا أن ننقل المسيح إلى العالم. سيكون نوراً: "أَنتُم نورُ العالَم. لا تَخْفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل، ولا يُوقَدُ سِراجٌ وَيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال، بل عَلى المَنارَة، فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت. هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (مـتّى 5: 14- 16). فعندما يخفُت نور العالم ينتظرنا المسيح أن نكون نحن أنوارهُ مُستمدين منه النور: "لأنَّ يَنْبوعَ الحَياةِ عِندَكَ ونُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ" (مز 36: 10). هذا الاختيار: "أن نكون نورَ المسيح على الأرضِ"، ليس اختيارنا فحسب، بل هو دعوة من الله ونداءٌ منه لنجعل حلمهُ واقعاً.
"أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة". أمام بشاعة خطايانا وظلمةِ عالمنا يدعونا ربّنا يسوع إلى تباعتهِ، وتحمُل مسؤولية هذه التباعة، فنكون "مشاعل نورٍ" تحمل فرحَ الإنجيل إلى العالَم، ونبعث رسائل تُطمئنُ العالم من حولنا. فالمحبّة تنتصر والطيبة ستغلبُ والأمانة ستثبُت والحقيقة ستنكشِف والثقة ستعظُم والإيمان سيتقوّى بالمحبّة القادِرة على تغيير رؤيتنا للحياة، والإنطلاق مؤسسين المسيرة على "محبّة الله" التي تغلّبت على الخطيئة واليأس بيسوع المسيح. دعوة إلى الخروج من عُليةِ الخوف التي سجنت التلاميذ والإنطلاق إلى الجليل، حيثُ نلتقي القائم من بين الأموات، والذي غلبَ بموتهِ الخيانة والنكران والهرب، وبعث فيهم الروح القُدس ليكونوا شهودا له فيالأرض كلها، ونحن معهم.