المواعظ
 المطران بشار متي وردة

المطران بشار متي وردة

%AM, %24 %011 %2015 %02:%كانون1

عظة عيد الميلاد 2015

المطران بشار متي وردة 

 

عظة عيد الميلاد

السلام هبة الميلاد

لما ميلاد المسيح يسوع؟ وما هي عطية الميلاد؟ وما الذي دفعَ بالكنيسة لأن تحتفل سنويا بميلاد يسوع؟ وهل يستجيبُ الميلاد لحاجة البشرية؟ وما الذي تحتاجهُ البشرية دوما؟

 

السلام؛ هذا ما نحتاجهُ جداً، وما تأنُّ إليه كل البشرية المجروحة بالصرعات والعنف والحروب. سلامٌ مع أنفسنا. سلامٌ مع القريب. سلامٌ مع الله. والبداية تكون دوماً في: السلام مع الله، فهذا السلام يهبّ لنا قلباً نقياً فيه نُعاين وجه الله في وجه القريب، وحضوره في حياتنا، لا قوة غاشمة، بل مرافقة ترعانا بمحبةٍ. لذا، كان السلام الوعد الذي أعلنتهُ الملائكة للرعاة الخائفين: المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام، وبين الناس المسّرة. السلام الذي لا تعرفهُ الأرض منذ مولدِ الإنسان، فجاء وعدُ الله في الأنبياء لنا: أنه سيُعطينا من ينقصنا: السلام، وأنه سيُصالحنا إليه، فيكون السلامُ معه نعمةً لا إستحقاقاً لأننا أتممنا ما تُريده الشريعةٌ منّا، مثلما ظنَّ كثيرون ومنهم كنيسة غلاطية. فالسلام نعمةُ السماء لنا في ميلاد المسيح يسوع.

 

الإنسان، ولأنه كسر علاقة المحبة التي كانت له مع الله، ولحُبهِ لنفسه دخلَ في صراعٍ مع ذاتهِ، ومع القريب، بل مع الله خالقهِ. فراح ينظر إلى الآخر وإلى الكون وإلى الله، كعدو منافس عليه أن يمتلكه ويجعله تحت سيطرته، وهذا لن يُعطيه السلام، فظنّ متوهما ًأنه قادرٌ على الحصول على السلام بقواه، فعجزَ عن ذلك. فلن يحصل الإنسان على السلام إلا بمعونةِ الله، الذي لم يترُك الإنسان يواجهُ الصراعات مع نفسه، والحروب مع القريب، والخطيئة تجاه الله، فجاءَ هو متجسداً ليهِبَ لنا السلام، ويتركَ سلامهُ معنا: السلامَ أستودعَكُم، سلامي أعطيكم. وهو يعرف أن هذا السلام سيُكلفهُ الكثير، وسيحمل الصليب، مُقدما حياتهُ ليحصل الإنسان على السلام. هذا السلام لن يأتي بقوة السلاح والجيوش، وهو الدرس الأول الذي على البشرية كلّها أن تتعلمه، فهذه تولّه العنف والكراهية، لذا، يقول لنا الإنجيلي لوقا، أن جبروت أوغسطس قيصر، لم ينفع الإنسانية بشيءٍ، فهو يطلب العزة والكرامة لنفسه لا للآخرين. ربنا يسوع، المولود طفلاً هو الذي سيبذل حياتهُ لأجل الإنسان، حُباً بالإنسان، لنؤمن أن المحبة هي القوة التي تخلّص الإنسان، وتمنح له الكرامة. فلا نبخل على الآخرين بالمحبة، وللا نندم على محبة قدّمناها، مثلما أن الله الآب لم يندم على محبته لنا.

 

السلام الذي يهبهُ لنا ربنا يسوع المسيح ليس كسلام العالم، فسلام العالم يعني الإنتصار على الآخرين وسحقهم. سلامُ يسوع يكون أولاً بالإنتصار على الذات، الانتصار على الغضب ورغبة الانتقام لعدم عدالة الناس معه. هو الذي مدّ يد الرحمة، فجازه الإنسان بالعذاب والصليب، ومن على الصليب نادى أباه قائلاً: يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يردون ما يفعلون.

 

إلهنا قرر أن يبدأ الطريق من حيث ينتهي الإنسان. فالإنسان، ولأنه يعرِف أنه بخطاياه إبتعد عن الله، كان يلجأ إلى تقديم الذبائح، طالباً المغفرة والمُصالحة، ليعود الإنسان إلى خطاياهُ. هذه الخطايا هي جروح في علاقة الإنسان مع الله، وهي تُصيب الإنسان بأمراض عديدة منها الكبرياء والحسد والبغض والكرهية، وليس بمقدور الإنسان أن يُشفى منها. لكن الله، وبسبب محبتهِ، صالحَ الإنسان بالمسيح، فأزلَ العداوةَ، وقدم إبنه على الصيبِ ذبيحةً، فلا يخافُ الإنسان الله بعدُ، بل يسير معهُ حاملاً في قلبهِ صورة عن الله الآب المُحِب، لا الإله الذي يترقبُ الإنسان متّى يخطأ حتى يُعاقبهُ، أو المُشرع الذي يُجبرُ الإنسان على إتمام ما يأمرُ به حتى يُجازيهِ. هكذا يُبشرنا الله بأن المسيح يسوع هو المُخلّص، هو الشافي لأمراضنا، فلا نقع في يأس الخطيئة، لأن الله نفسه قرر أن يفتح ذراعيه ليحتضِن الإنسان، فلا يخاف الإنسان من خطاياه، بل يؤمن أن محبّة الله أعظم.

 

محبة ورحمته لا تُمنَح لنا لكي يُخفف الله من قصاصه لنا، لأن عدالتهُ تتطلب معاقبتنا. رحمته ومحبتهُ تُحفزنا على أن نُقدِم الغفران لمَن أخطأ إلينا. السلام مع الله يُؤسس للسلام مع القريب، وبالتالي السلام مع الذات. لذا، فالله إذ يأتينا اليوم، يُقدم لنا الخلاص سلاماً. هذه هي البُشرى السارة التي علينا أن نتأمل فيها دوما، مثلما كانت أمنا مريم. فلا يكفي أن نمدّ يد المُصالحة مع القريب، إن كانت قلوبنا لا تعرف السلام مع الله. سنُهنأ القريب، لنعدو ونغضب منه، لأننا سلام الله لم يملء قلوبنا.

 

نشيد السماء اليوم بُشرى سارة، ونعمة ومسؤولية علينا الإلتزام بها، أن نكون صانعي سلامٍ حقيقيين. هذا السلام لن يُبنى بالإنتصار على الآخرين، بل، وعلى مثال ربّنا يسوع، بمحبة الآخرين، أن نجعلهم إخوة لنا وأصدقاء لنا، وإنهاء حالة العداوة التي تُدمّر حياة الإنسان والبشرية كلّها. وهذا هو السلام الأصعب. نشعر جميعاً بأنني أستطيع أن أخدم وأُسالِم مَن يعيش في قارات العالم، ولكن أجد صعوبة في أن أمد يد المُصالحة لأخي الذي أهانني.

 

ولكن كيف لي أن أمد يد المُصالحة إلى القريب، وأن أقبل سلامَ الله؟

أن أقوم وأذهب وأرى هذا الطفل الذي لا يُخيف وليُشكل تهديداً لحياتي. إلهنا قرر أن يأتينا طفلاً لكي لا يُخيفنا، بل نقبله ونحضنهُ ونُقبله. فيكون قريباً من قلوبنا، وهكذا يمُسّ قلوبنا بمحبته ويُغيّرها لتكون على مثال قلبهِ. إلهنا اليوم ينتظرنا في ميلاد إبنهِ أن نأتيهِ حاملين في قلوبنا يسوع المسيح. إلهنا لا ينتظر منّا ذبائح أو قرابين حتّى نُصالحهُ. هو يُريدنا أمامهُ تماماً مثل الرعُاة الذين آمنوا بما أعلنته السماء لهم اليوم. هو يُريدنا مثل مريم أمنا أن نُقدم للقريب السلام والهدايا إن كان ممكناً، ولكن الأهم أن نقدم لهم يسوع. أن نكون على مثالها نتأمل في كل من يُقدمه الله لنا، ونسعى جاهدين لنفهم حضوره الغريب في حياتنا. يجب أن لا أن يكون الميلاد موضوع إحتفال فحسب، بل موضوع تأمل للحياة. فلا يُمكن الاحتفال بالميلاد إلا إن كان لنا الشجاعة للذهاب لرؤية يسوع المولود، والشجاعة لأن نُقدم ما نملكهُ له. فالميلاد سيكون احتفال الحياة إذ كان مددنا أيدنا للسلام والمصالحة، وقبلنا سلامَ في قلوبنا. 

المطران بشار متي وردة

الندوة الكتابية (كنيسة مار يوسف – عنكاوا- أربيل)

 

تأملات في الرسالة إلى الرومانيين

 

اللقاء الرابع

 

  وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ (الفصل الثالث)

 

بعد أن بيّن بولس في الفصل الأول أن خطيئة الوثنيين تكمنُ في عدم إعطاء المجد الواجِب لله الذي عرفوه من خلال الطبيعة، وعدم الإلتزام بما تأمرهم به الشريعة الطبيعية التي جعلها الله فيهم. وفضح خطيئة اليهود التي تحوّلت إلى معصية وعثار للآخرين، صارَ من الواضح أن الجميع أخطأؤوا. شمولية الخطيئة تفتح الباب له لا ليُجعل الناس تييأس وتموت في خطاياها، لأنه كشفَ لنا منذ الأسطر الأولى أن رسول البُشرى السارة، لذا، فشمولية الخطيئة هي الطريق للحديث عن شمولية الخلاص.

وبعد أن فنّد بولس إدعاء اليهود حول الناموس والختان وبيّن أنهم نقضوه بإرتكابهم الخطايا، مُبيناً أن ختان القلب كان علامة الخلاص المسيحياني المنتظر في كرازة الأنبياء، والذي تحقق في يسوع المسيح، يأتي إلى الحجة الأخيرة التي يعتمِد عليه اليهود في إدعائهم بأنهم مخلّصون لا محالةَ وهي العهد، ففيها ومن خلالها يؤمن كل يهودي أن خلاصهُ يعتمد كلياً على رحمة الله. الله بقي أميناً للعهد التي قطعه مع آبائهم حتّى مع خيانة الإنسان، ولكنه يُشدد على أن الاختيار (إختيار الله لشعبٍ) يخلق مسؤولية، فمن أخذ كثيراً يُحاسَب كثيراً. الله اختار الشعب الصغير (الكنيسة) ليُصالح العالم مع نفسهِ، وليس ليفتخرَ هذا الشعب.

لذا، يُؤكد بولس على أن اليهود ليسوا أفضل ... جميع الشعوب أخطاؤوا، كاشفاً ومن خلال آيات من المزامير وإشعيا أنهم خاطئونَ: الكتاب المُقدس، كشفُ الله يُبيّن هذه الحقيقة، والناموس نفسه يكشف خطيئة الإنسان، واليهودي المتدين يعرف أن الخطيئة خيانة موجهة ضد الله المُحِب الرحوم. لذا، صارت الشريعة سبيلاً لا إلى البرارة بل إلى معرفة الخطيئة، ولفضح ذنوبِ الإنسان، لذا، فالجميع بحاجة إلى خلاص المسيح، فأضحوا موضوعَ حُبِ الله، فتدخل الله على نحو حاسمٍ في تاريخ الإنسان بيسوع المسيح، لينتصرِ على الخطيئة ويحسمَ النصر للإنسان الخاطيء.

لكن الناموس الذي يكشِف للإنسان خطاياه يكشفِ أيضا أن برّ الله والذي ظهر في يسوع المسيح، هو ضمانة الخلاص، لأن الجميع أخطأؤوا. هذا الخلاص صار الآن: أما الآن"، فمع ربنا يسوع بدأ الزمن الآواخري، فصار الناموس، والذي وقفَ شاهداً على خطيئة الإنسان، شاهداً على برّ الله وقُدرته، أي فعلهُ في حياة الإنسان. وسيكون الإيمان قبول الإنسان لفعل الله الخلاصي في يسوع المسيح، في طاعة تامّة، وهنا يُمكن للأمم الغير اليهودي أن تنعم بخلاص الله إن آمنت. الله يقبل الإنسان (اليهودي والأممي)، ويفديه، أي يدفع عنه الجزية المفروضة ليعود إلى البيت الأبوي من جديد.

ليس هذا فحسب، إيماننا بالمسيح يهبُ لنا مجداً يفوق المجد الذي صار لموسى، لأنه يُنير في قلوبنا نور معرفة مجد الله، وهي خدمة أوكِلتَ إلينا لنحمل البٌشرى السارة التي وهبها الله مجاناً لا إستحقاقاً. الفداء الذي هو شخص يسوع المسيح نفسه. ففي يسوع صالحَ الله العالمَ إلى نفسهِ، فرفع عن الإنسان كل ما يُعيقُ الإنسان من إقامة علاقة صحيحة معه. الله هو الفاعِل دوماً، لأنه كشفَ عن برّه المُخلِص إزاء خطايا الإنسان (اليهودي والأممي). كشف الله عن محبته وأمانتهِ بأنه قبِلَ الإنسان الغير الأمين، وغفرَ له خطاياه (أزال ما يُعيقُ اللقاء). فقبول يسوع مسيحياً ورباً هو قبول لتبرير الله. فالخلاص هو للجميع مثلما أن الله هو للجميع، فالله لا يُقدِم إلا ذاته: المحبة. فلا إله إلا الله.

 

برُّ الله

"وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ" (روم 3: 21)، بهذه العبارة غيّر الرسول بولس حديثهُ إلى كنيسة روما والذي فيّه بيّن إن الإنسان ميّت لا محالة بسبب خطاياهُ، والذي يحكم عليه هو الناموس الذي يتنكّره (الأمميين)، أو الذي يتناساهُ (اليهود)، ليظهر برُّ الله ويُنير ظُلمة حياة الإنسان المُصابة بالخطيئة. فالإنسان لم يتغيّر ولم يُعدّل مسارَ حياتهِ ليكونَ صالحاً، الأمر الجديد الذي حصلَّ هو أن الله كسرَ صمتهُ ومدَّ يده إلى الإنسان الخاطئِ فملءَ الأرض والسماء فرحاً، وكشفَ للانسانِ أنه بارٌ لأنه يُحب.

فعلُ الله كان:

"بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ. مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ" (3: 22- 26).

برِّ الله ظهرَ من خلال رحمتهِ لأنه محبّة، فكانَ باراً مع الإنسانِ، إذ أظهرَ محبتهُ بالرحمةِ التي فيه فقَبِلَ الإنسان من جديد. برّه يجعلُ الإنسان باراً، فعندما يعي الإنسان حالتهُ الخاطئة، ويعي أنه مغفورٌ له ومُنحَ حياةً جديدةً وفُتحَت له أبوابُ الفردوس من جديد، عندها سيبدأ العيش إنساناً جديداً. "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيل" (مر 1: 15) من هنا كانت البداية، برُّ الله، فعلهُ الخلاصي الذي علينا أن نطلبهُ أولاً: "اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (متّى 6: 33). فالتوبة وطلبُ ملكوت الله وبرّه لا تعني العودة إلى تطبيق ما تأمر به الشريعة، بل الدخول في العلاقة الجديدة التي صارت لنا بيسوع المسيح.

أن نؤمنَ، يعني أن نتوبَ من خلال الإيمان، فتكون التوبة لا سببَ الخلاص بل نتيجة للخلاص الذي صارَ لنا بيسوع المسيح. هذا لا يعني أن طريق الإنسان سيكون: الخطيئة- التوبة – الخلاص (تُب فتخلص)، بل، طريق الله: الخطيئة – الخلاص- التوبة (تُبُ لأنّك مُخلَص يا إنسان). الخلاص صارَ للإنسان هبةً مجانية ينتظر القبول (الإستجابة)، ومكّن َالإنسان من التوبة، فلولا معرفةُ الأبن بأفكارِ الآب وبرحمتهُ التي ستقبلهُ لما عادَ بعد أن رفض البقاء إلى جانب أبيه، وترك البيت وبعثرَ كل أموالهِ (لو 15: 11- 32). كرازةُ ربّنا يسوع كانت: الله بادرَ ثم إستجابَ الإنسان، وهو ما عارضهُ الكتبة والفريسيون: "لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ اللهِ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ اللهِ" (10: 3). الله بادرَ وعلى الإنسان أن يقبل هذه المُبادرة، أن يُؤمِن، وعليه أن يسلَك وفقها. مثلهُ مثلُ ملكِ فتح باب قصره ليدعو المارّة: "تعالوا فقد أُعدَّ كل شيءٍ".

"تُب وآمن" تعني أن تمر من العهد القديم المؤسس على الشريعة إلى العهد الجديد المؤسس على الإيمان، ليكونَ الإيمان أولى خطوات التوبة. فلم تعد البراءة والفضائل وحفظ الوصايا مدخلاً للملكوت، فالإنسان غير قادرٍ من ذاتهِ ليدخل مثل هذا الباب لأنه ليس باراً ولا يمتلك الفضائل اللازمة. لذا، أعلنَ الله أن باب الملكوت هو الإيمان، وهو ليس مُستحيلاً عليك: "لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ "اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ" (أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا). لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ" (10: 8- 10). فالملكوت صارَ لنا هبة مجانية، نعمة من الله، رافعاً من البشرية "السرطان" الذي أنهكَ البشرية وقتلها، وهو "إفتخارُ الإنسان وكبريائهُ": "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس 2: 8-9)، "فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى! بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَلاَّ! بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ. إِذاً نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ" (روم 3: 27- 28). ملكوت الله يُقبَل هدية لا مُجازاةً، تماماً مثل الأطفال: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللَّهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ" (مر10: 15). فالأطفال يطلبونَ ما يشاؤون من والديهم ليس لأنهم عملوا وإستحقوا الأجرة، بل لأنهم يؤمنون أنهم محبوبونَن فلهم أن يسألوا ما يشاؤوا. هذا لا يُلغي مبدأ المُجازاة، بل يضع الأمور في مسارها الصحيح، فالخلاص نابعٌ من الإيمان. فالوالدين يُعطون بسخاء لأبنائهم لكي يتمكنوا من شراء هدية لهم في عيد الأم أو عيد الآب، وهي هدية تُفرحُ قلب الوالدينِ.

لقد تعلّم الرسول بولس من خبرتهِ الإيمانية، من إهتدائهِ، معنّى أنه مقبول بمحبة الله ومُبررٌ له بلإيمان بهذه المحبّة، فعبّرَ من مفهوم المجازة إلى النعمة: "لَكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ" (فيلبي 3: 7-9).

 

عَرِفَ أن ما يؤمن به عن التبرير هو اشبهُ برجلٍ يحمل شمعةً تُنير له ظلمةُ الحياة حتّى إنكشفَ أمامهُ النهار وإذا بشمسِ الله تُنير حياتهُ حتّى لم يبقَ أثرٌ وتأثيرٌ لهذه الشمعة التي كانت يخافُ أن تنطفأ في أية لحظةٍ. فالله جعلهُ يختبِر معنى ما سيقوم بالتبشير به في الكنيسة. "برُّ الله" بيسوع المسيح الذي انعمَ به على كل مَن يؤمِن به.

 

        شكلُ هذا الإيمان ليس إيماناً عقلانياً، بل له هيئةٌ أخُرى، هو "إستيلاءُ تامٌ" على حياة الإنسان بعد أن يقول الإنسان الــ"نعم" لله. هذه الـ"نعم"، تكفي ليستولي الله على حياة الإنسان كلّها. الله خلقَ الإنسان حُراً ليقبلَ هذه العطية بحريةٍ، ويقبل أن يعيش في ظلِّ محبته ونعمتهِ. فبعد زمان طويل إنتظرَ الله هذه الــ"نعم" الأمينة من الإنسان، ولم يسمع إلا الرفض، لكنه، ولأنه محبة بينَ نفسه باراً، عادَ ليُجدد مُبادرتهُ فسمِعَ من أمنا مريم الــ "نعم" التامّة، فأستولى عليها، ليجعل نفسه تحت تصرّف الإتسان، فخلقَ الإنسان جديداً بيسوع المسيح، بعد أن حاربَ فيه كل أشكالَ الرفضِ وخرجَ منتصراً، ولو مجروحاً (مصلوباً).

الإيمان هو قبول هذا الصراعِ ليكونَ صراعنا الشخصي، والإفتخار بهذا النصر وكأنه إنتصارنا نحن، مثلما يحصل عندما يُشجع أحدهم فريقاً أو رياضياً. فالإيمان يستولي على الإنسان كليا ًويأخذه من مرحلة ٍإلى أخرى، فيُعمّق فيه المسيرة: "إلقوا شباككم في العمُق"، فيبدأ من إيمان بشواهدِ نحو إيمانٍ من دون شواهِد، وهي تعني بالضرورة أن على الإنسان أن يتجاوزَ الكثير من المعوقات ليتغلّب عليها حتّى يأتي الإيمان نقياً.

 

        هذا القبول لا يتحمل التأجيل، فعلى مَن يسمعَ البشارة أن يقبل اليوم، "هنا والآن وليس غداً. فالإيمانُ حبةٌ صغيرة فيها قُدراتٌ عظيمةٌ تتطلعُ إلى أرضٍ تقبلها لتموتَ فيها، بل لتحيا وتُثمِر. وكُل ما يحتاجهُ الإنسان هو أن يقول بتواضعٍ: إقبلني يا الله وأرحمني بعظيمِ رحمتِك، مثلما قالَ العشار مع أنه لم يقصد أن يُعوَض أن خطاياهُ، بل تركَ كل شيء ٍفي يد الله، فبررهُ (لو 18: 14). فإن كان للإنسان فرصةٌ في الإفتخار فستكون بالربِّ (1 كور 1: 31).

 

المسيح يسوع مات من أجل خطايانا

        "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ. مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ" (روم 3: 23- 25). كلُّ مَن يؤمن بالمسيح ربّاً، أي أن يقبلَ هذه عطية الله الآب؛ ربنا يسوع المسيح، سينالُ الخلاص، الذي صارَ لنا بموتِ المسيح، أي في محبته التي قادتهُ إلى الصليب: "لقد ماتَ المسيحُ وعادَ إلى الحياةِ ليكون ربَّ الأمواتِ والأحياءِ" (روم 14: 9). فـ "اذا شهدتَ بفمك أن يسوع ربٌّ، وآمنتَ بقلبكَ ان الله أقامهُ من بين الأمواتِ، نلتَ الخلاص" (روم 10: 9).

ولكن ما الذي يحصل عندما نُعلِن هذا الإيمان؟ ما التغيير الذي ينشأ فينا بسبب هذا الإعلان؟

يقول الرسول بولس: "لا يستطيع أحد ان يقول: "يسوع ربّ!" الا بإِلهامٍ من الروحِ القدس" (1 كور 12: 3). فمَن يُعلِن أنَّ المسيح هو الربّ الآتي لخلاصنا وتبريرنا، إنمّا يقبلُ أولاً الروح القدس ويقبل عملهُ فيهِ ليُعرّفهُ حقيقة هذا الإيمان، وهو في ذات الوقت إعلانٌ لسيادة الله على الحياة والخضوع َله بمحبّة في طاعة الإيمان.

هذا الإيمان لا يُطفأُ نورَ العقلِ، بل يتضمّن بالضرورة أن نسمحَ لنورِ الله، لمحبتهِ، لضعفهِ؛ للصليب أن يُوصِلنا إلى معرفة الحقّ. وهذه حقيقة إيمانية تُغيّر وجه الحياة وتوجهها كلّياً: "لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ" (روم 14: 7-8). فمع ربّنا يسوع المسيح لم يعد هناك إنفصالٌ ما بين الحياة والموت، بل على الإنسان أن يختار إمّا الحياة لله أو الحياة للذات. الأولى هي الحياة الأبدية، أما الثانية فهي الموتُ لا محالةَ.

 

        هذه السيادة التي صارت لنا بيسوع المسيح، أي محبةُ الله المتجسّدة على الأرض. مع ربنا يسوع لم يبقَ الله الذي يُكلمنا عن بُعدٍ من خلال وُسطاء، بل صارَ قريبا منّا ويُحدثنا من وسط تاريخنا الإنساني. وكشفَّ عن عظيمِ محبتهِ على الصليب، إذ ليس حُباً أعظمٌ من هذا من أن يبذلُ الإنسان نفسه عن أحبائهِ. فالآلام والصليب كانتا لأن الله يُحبنا، فهو لا يُناقِض جوهرهُ لأنه محبّة. ومحبة الله محبةٌ مجانيةٌ لا غشَّ فيها، ولا تطلب لنفسها شيئاً: "ما تقوم عليه المحبة هو أنه لسنا نحن أحببنا (الله) بل هو أحبنا... انه أحبنا قبل ان نحبه!" (1 يو 4: 10، 19). ربّنا يسوع تألمَ وماتَ بحريةٍ وبمحبةٍ لأنه أعلنَ أن الله يُحبنا مجاناً، لا ليُعلِنَ هذه الحقيقة فحسب، بل يعيشها ويكون هو الله "محبة" بيننا، وأحبنا "محبةً أبديةً" (إرميا 31: 3)، بخلاف إله الفلاسفة الذي يجب محبتهُ ليُحبَّ الإنسان ويمنَّ عليه بالخيرات أو يمنعَ عنهُ المصائب.

 

        في رواية "كوفاديس"، سأل وثني القديس بطرس الذي وصل تواً الى رومة: "أثينا، اعطتنا الحكمة، ورومة القدرة، فماذا تقدّم لنا ديانتك؟ "فاجاب بطرس: "المحبة!" محبةٌ الله ليست صُدفةً وليست نزهةً على الأرضِ، بل هي قضية جدّية، إذ أخلى ذاتهُ، هو المحبة العادِلة، يستسلِم لظُلمٍ الإنسان وخطيئتهِ. هو البريءُ يحسِب نفسهُ خطيئةً. قدّم الله للإنسان كل ما يجب أن يُقدَم وأحبهُ غاية المحبة. وخطيئةُ الإنسان هي أنه لا يعرِف ولا يعترِف بهذه المحبة فلا يُؤمِن بها، وإن عرفها فهو لا يُقدرها حقَّ قدرها. هي محبة الله وضعفه. وضعفٌ الله سببهُ حُبهُ للإنسان الذي يراه الله يهدِمُ ذاتهُ باختياراتهِ المُهلِكة، ويعجز الله عن فعلِ شيءٍ إزاء ذلك، لأن تدخله في حياة الإنسان يعني إبطالَ حُرية الإنسان. لذا، يُناديه ويناشدهُ ويُنبههُ من خلال الأنبياء. فمراراً ما نسأل : لماذا لا يُوقِفُ الله هذا الشّر؟ والحال أن الله أعطى الحُرية للإنسان ولا يُمكنهُ أن يسحبها منه إذا رأى أن الإنسان يُسيءُ استخدام حُريتهِ ولا يلتزِم تمام مسؤوليتهِ فيظلمُ ويهينُ إنسانيتهُ وإنسانية الآخرين.

 

        لو آمن الإنسان حقاً بمحبة الله، والإيمان هنا، ليس قبولَ العقيدة كفكرة فحسب، بل الإيمان الذي يسمح لهذه الحقيقة أن تنسلَ إلى الإنسان فتخلقهُ من جديد، في عالمٍ لا يُؤمِن بالمحبةِ المجانية، بل يرزح تحت وطأةِ الحقد والعنف والقتل والخيانة وخيبات الأمل في العلاقات بين البشر، مما يجعل الإيمان بمحبة الله أمرًا صعباً. سبقَ وأن أشرنا إلى أن الخطيئة الأعظم هي خطيئةُ الذين يعلنون هذا الإيمان، ولكنهم لا يعيشونهُ في حياتهِم، ليكونوا ضمنَ موكبِ الذين "يصلبون المسيح يسوع مرّة ثانية"؟ هي خطيئة الذين يعني لهم موت المسيح حضور مراسيم الجمعة العظيمة فقط! أو تخصيص ساعة واحدة في الأسبوع لله فقط! بُكاءٌ للحظةٍ وتجاهل للحياة كلّها. وهذه هي الخطيئة الأعظم: المراءة.

 

قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله     

يدعونا إلهنا وملكنا، بصليب ربّنا يسوع أن نسمحَ له بان يُمزِق الستار الذي يحجب قلبنا عنه، ويكسر قلوبنا الصخرية، وينزع منها إنسان المراءة والخبث والكذب والحقد واللامبالاة، ليولَد منها الإنسان الجديد العارِف المؤمِن بمحبة الله التي تدعوه ليخرَجَ من قبرهِ ويُولدَ إنساناً حُراً بالمسيح يسوع، ويتطلّبُ الأمر استجابةَ قلبٍ متواضعٍ منسحقٍ بمحبةِ الله: "فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ كَيْفَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً. (لو 22: 15- 16). حقاً يصعُب على الله أن يحصِل على قلب نادم ومتواضع، قلب منسحق يُقرُّ بأنه خاطئ، فيسير أمام الله متواضعاً: "لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ" (مز 51: 16- 17). إلهنا يتطلّع إلى قلبٍ يستقبلهُ بحريةٍ تامّة. فالإنسان يميلُ إلى تبرير خطاياهُ، أو أنه لا يرى خطاياهُ، وهذا ما جعلَ ربنا يسوع يُعلَّق على الصيلب، لأنه قال للفريسيين والكتبة ورؤساء الكهنة: إنكم مراؤون وتبررون خطاياكم، بل إنكم لا ترونَ خطاياكم مُطلقاً، فرفعوه على الصليب، وما زلنا نرفعه حتّى يومنا هذا.

ذو القلب المنسحق يرى حياتهُ في ضوء نعمة الله المُحررة، لينكشِف أمام هذا النور ويجد أن عليه أن ينزعَ عن حياتهِ الكبرياء والحسد والأنانية والغضب والحقد والمراءة والبحث عن المجد الباطل والتراكض لإرضاء شهواتِ الجسد بعيداً عن الله، لا لأن الجسد شرٌ، بل لأنه يُريد أن ينزعَ من هذه الجسد المُبارَك بكلمة الله: ورأى أنه حسن، ينزعَ منه النَفَسَ الذي نفخهُ الله فيه. ذو القلب المنسحق هو مَن آمن بمحبة الله التي جاءت لتخدُم وتغسل أقدامَ الإنسان فيقومَ طاهراً، لينحني هو الآخر ويغسل أقدام أخيه الإنسان. فإن لم يقبل الإنسان أن يُغسَل فلن يكون بإمكانه أن ينحني ليغسِل أقدام إخوتهِ البشر.      ذو القلب المنسحِق هو الإنسان الذي اكتشَف خطيئتهُ التي تعلّق قلبهُ بها، فقرر أن يسمح لله أن يهدِم جدار الكذب والتبريرات، ويُمزق الحجاب، فيتوقف عن الخطيئةِ مرّة واحدة وإلى الأبد، فلن يفعلها مهما تطلّب الأمر من تضحيات وإماتاتٍ.

الإيمان بمحبة الله يتطلّب أن "نقبلَ هذه المحبة" ونستسلِم لتبعاتها من دون تجزئة أو تفضيلات شخصية لهذا أو تلِك من التبعات، إما الكل وإمّا فلا. لذا، يسأل الرسول بولس أبناء كنيسة كورنثس: "إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً. وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2 كور 5: 17- 20).

هذه المُصالحة بدأت من على الصليب: "يا أبتاه أغفر لهم"، الله نفسهُ يتوسل خلاص الإنسان، وتوبتهُ ليعود عن الطريق المؤدي به إلى الموت والهلاك. الله ينتظر عودة الإنسان إلى ذاتهِ ليكتشِف إنه إبتعد عن محبّة الله ورعايتهِ: "فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ" (لو 15: 17- 19). على الصليب أسلمَ ربّنا يسوع الروحُ (يو 19: 30)، أي أنه لفظَ النَفَسَ الأخير، ولكنه كان هو النَفسَ الأول للكنيسة، فالفداء لا يعني غفران الخطايا فحسب، بل هبةُ الحياة الجديدة، الحياة بالروح القُدس، والروح القُدس الذي حلَّ على الرُسل هو أعطاهم القُدرة على مغفرة الخطايا.

 

هذا الإيمان إذن، الله بررنا بيسوع المسيح، يعني أن نقبلَ حقيقةَ: أنه مغفورٌ لنا، وإننا مدعوون لحياةٍ جديدة، وهي خطوةٌ جريئةٌ تتمثل في تسليم الحياة كلّها لله، ليفعلَ بها ما يشاءَ، لأن ما يشاءُ الإنسان. فالمسيح الذي أعطاهُ الله لنا بكراً، هو الذي حملَ في جسدهِ خطايا العالم: "ان واحداً قد مات من اجل جميع الناس، فجميع الناس اذاً قد ماتوا" (2 كور 5: 14)، فكانَ انتصارهُ انتصارنا نحن إخوتهُ، لأن محبة الله هي التي أعطت الإنسان البدء َمن جديد، وكان ذلكَ مجاناً

الأحد الثالث من البشارة:

الطاعة لخدمة البشارة (أفسس 3: 1- 21)

كتبَ بولس رسائله إلى كنائس صغيرة العدد لم يتجاوز عددها أحيانا 50 شخصاً، ولكن هذه المجموعات الصغيرة كان لها القدرة على تغيير العالم لنكون ما نحن عليه اليوم. لم يكن لهذه المجموعات محطات تلفزيونية أو مواقع إلكترونية أو صحف أو مجلاّت، ولكنهم تمكنوا من إحداث ثورة غيّرت وجه الأرض كلّها، والسبب إيمانهم بـ: أنهم حاملوا بشارة ربّنا يسوع المسيح، وأن حضورهم هو جزءٌ من تدبير الله للعالم. لم يكن إيمانهم أن الله جمعهم ليكونوا معاً ككنيسة لذاتهم فحسب، بل كنيسة من أجل رسالة، ورسالتها كانت تغيير العالم ليكون عالماً يُنعشهُ حضور الله.

هذا الموقف الحياتي كانت أساسهُ إيمانهم بأنهم نالوا الخلاص الذي لم يستحقوه، فجاءت عطية الله نعمة. وتحملوا من أجل ذلك الكثير من الصعوبات والمحن والمُضايقات والإهانات، وتأتي رسالة بولس لهم لتعزيهم وتقويهم في هذه المسيرة، ويؤكد لهم أن فيه سروراً وفرحاً لا يُوصَف، لأنه أختير ليكون خادماً لسر الله، وهو "يجثو على ركبتيهِ"، في موقف إستسلامٍ تام لإرادة الله التي أفرزتهُ للخدمة، مع أنه كان معارضاً ومُضطهداً لبشارة ربنا يسوع. بالطبع، لم يكن هو الجاثي الأول، فقبله جثا ربّنا يسوع في بستان الزيتون مُصلياً، ثم إسطيفانوس الشهيد، في موقف طاعة تامّة، مُستعداً للمشاركة في بناء الملكوت، حتّى لو كلّفه ذلك حياته.

يُنشِد زكريا اليوم ممجداً الله للخلاص الذي أنعمَ به على شعبه، وأعلنَ أن لأبنهِ يوحنا ذات الرسالة: "أن يسير أمام الرب ليعدّ طُرقهُ، ويعلِّم الشعب الخلاص بغفران الخطايا". أن يجعل حضور الله منظوراً، وهذا مرتبط بإمكانية وجود إرتباط حقيقي وأصيل ما بينه وبين الله. فلا يمكن أن يكون له وجود حقيقي من دون الله. وهو ذات الإرتباط الذي يدعو إليه بولس ما بين المسيح والمؤمن، ما بين الكنيسة والمسيح. وحدة ما بين المؤمن والكنيسة. فالإنسان لا يُمكن أن يعيش من دون الله، هناك وحدة بينهما لا يُمكن أن تفصل، وهي رسالة أسابيع البشارة التي تُهيئنا لمجيء ربنا يسوع. وحدة عاشها قديسوا الكنيسة على مرّ التاريخ، ومن خلالها غيروا العالم، الذي أرادَ أن يكون عالماً من دون الله.

ولكن قبل التفكير في تغيير العالم، التغيير الأول كان إهتدائهم الشخصي، فيحل المسيح في إنسانهم الباطن بالإيمان ويتغير القلب بالمحبة، من دون هذا التغيير الداخلي لا يُمكن لنا تغيير الخارج. فقبل أن تُطالِب الآخرين بالتغيير، علينا العمل على تغيير حياتنا نحن، ليحلَّ المسيح فينا بالإيمان ونثبُتَ بالمحبة. وهكذا يعود بولس للقناعات الإيمانية الأساسية لكل مسيحي: على المسيحي ان يعرِف أنه محبوب الله، وهذه المعرفة كفيلة بأن تُغيّره. يروي آباؤنا الروحيون عن راهبٍ كان يُصلي صباح كل يوم: يا رب هب لي نهاراً أكون فيه كاملاً حتّى أرضيك وتُحبني! ولكنه يعود في المساء ليفحص ضميرة ويُقيم نهاره، فإذا به يعتذر عن كل الزلات التي ارتكبها في النهار. حتّى صلّى يوماً: يا رب ساعدني لأكون كاملاً حتّى تُحبني، فسمع صوتاً يقول له، محبتي لك ستجعلُك كاملاً.

رسالة بولس اليوم تعني: إن كان العالم بعيداً عن الله، فهذا ليس بسبب إلحاد العالم وعولمتهِ، بل بسبب فتور الإيمان عند مَن دعاهم وقدّسهم وأحبهم. فنحن لا نشعر بأننا قديسوا الله، بل متدينونَ علينا أن نُكمِل وصايا الله ووصايا الكنيسة، وجُل ما نبغيهِ في حياتنا أن يحفظ أجسادنا سالمين، لكن، تغيير العالم ليكون عالم الله، هذه مسؤولية الله وليست مسؤوليتنا. الكنيسة الأولى، وبولس ممثلاَ عنها، عاشوا إيمانهم المسيحي كدعوة لتغيير الذات أولاً، ثم دعوة لتغيير العالم. فآمنوا بحب الله القادر على تغييرهم ثم إنطلقوا ليُعلنوا أنهم خُداّم هذه البشارة، كلٌّ حسب ما وُهِبَ له من الله، ليكشفوا للجميع أن الإنسان لا يُمكن أن يكون إنساناً من دون الله، وهو مدعو ليكون إلهاً بنعمة الله.

اليوم، تحتفل الكنيسة بولادة يوحنا المعمذان حامل بشارة الله: مغفورة لك خطاياك يا إنسان، فلنقبل هذه البشارة، ولنسمح لروح الله أن يُوحدنا مع المسيح، ويُغيّر إنساننا العتيق الباحث عن السعادة والمجد الباطل، ليلبس َالإنسان الجديد، المنوّر بقيامة المسيح يسوع، ويُثبتنا فعلّة أمناء في كنيستهِ، له المجد دوماً. آمين.

 

11 Battesimo di Gesù sintetico

 

المطران بشار متي وردة

الندوة الكتابية (كنيسة مار يوسف – عنكاوا- أربيل)

 

تأملات في الرسالة إلى الرومانيين

 

اللقاء الثالث

 

 

لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ (روم الفصل الثاني)

بعد أن وصف حالة الوثنيين الدينية والأخلاقية (رفض لله وفساد أخلاقي)، يأتي بولس ليصفَ حالة اليهود، فيقول له: يا تُحاكِم غيرَك! فيقول عنه: يا إنسان: بمعنى أنك كيهودي لستً مميزاً عن باقي الناس في أزمة الخطيئة. أنت إنسانٌ مثلهم، فلا تدين الآخرين (الوثنيين)، لأنك تفعل تماماً مثلما هم يفعلون. لأنك بحُكمِك على الآخرين تجلس على كرسي الله الديان وتُزيح الله عن مكانهِ، وهذه خطيئة أبشع من عبادة الأصنام، بل هل أصل كل الشرور.

يعترِض اليهودي على بولس قائلاً: أنا لستُ مثل هؤلاء الوثنيين الذين يُحرفون الحق ويجعلونه باطل، والباطل حقاً، وبولس يقبَل الإعتراض، ويواصل القول: بالحقيقة أنت (يا يهودي) تحاول الإختباء خلف قناع دينونة الآخرين لتتجنّب حكم الله عليك. فالله سيدين وفقاً للحقيقة، والحقية هي: أن إنسان مُتكَبِر جعلتَك من نفسك حاكماً على الآخرين، وتُعطي المج لنفسك لا لله. كلاهما: الوثني واليهودي، لم يُعطيا المجد لله.

اليهودي الذي يقوم بدينونة الآخرين إذن يتجاوز على حقوق الله، لأنه يقوم بإستبعاد الإنسان القريب لغرض الإذلال (المرأة الزانية (يوحنا 8: 1- 11)، وهو ما يُعارضوهُ الله إذ لا يُريد إبعاد الإنسان عن حضورهِ، هو الذي أرسلَ إبنه لا ليدينَ العالم، بل ليُخلّص العالم (يوحنا 12: 45). بالطبع هذا يختلِف عن عملية تقويم الأخطاء والتي نقوم بها بدافع محبتنا للشخص. الدينونة هي: أن نقول للآخر: أنت لا تستحق الحياة، والله سيديننا على دينونتنا للآخرين.

على المؤمن، وهو يرى عاقبة الإنسان الخاطئ، أن لا يستخفّ بمحبة الله وأمانته التي تجعله يترحّم على الإنسان، فعلى اليهودي، وكونه نالَ كشفَ الله أن يعرِف أنه ُملزمٌ أكثر من غيره (اليوناني)، لأنه أُعطيَّ كثيراً، ومن نالَ كثيراً يُحاسَب كثيراً. فالتوارة اُعطيت له لم تُعطى لكي يُضغي إليها، ويفتخر بها أمام العالم: لنا التوارة! بل أُعطيت ليُطبقها ويعيشها، لذلك، سيُدينُه الله وفقاً للتوارة.

بنو إسرائيل كانوا واعين لنقائصهم، ولكنهم كانوا يتكلون على محبة الله وأمانتهِ والتي كشفها الله لهم من خلال: العهد والختان (علامة العهد) والناموس (مسؤوليات الإنسان أمام عهد الله)، ولكن بولس يعتمد على عهد الله وأمانتهِ، أكثر من الختان الجسدي، (الأهم هو ختان القلب) والناموس (الذي يفضح خطيئة الإنسان). فاليهودي، وبسبب الناموس صارَ يتكبّر على الآخرين، فجعل نفسه مساوياً لله، مع أنه لم يتمكّن من حفظ متطلبات الناموس كلّه (القاعدة اليهودية: مَن حفِظَ الناموس كله وأخلَّ بنقطة واحدة منه أخطأ به جميعاً"). بالطبع يعرِف بولس أن الأهم هو حفظ الناموس وليس سماعُ الناموس شريطة أن لا يكون هذا الحفظ مداعة للإعجاب بالذات، أو محاججة الله: إني أستحقُ الخلاص. حفظك للناموس هو جواب لنعمة الله التي بدأت لك طريق َالخلاص.

على المؤمن أن يعترِف بُقدرة الله التي تعمل حتّى في الوثنيين: سأجعل ناموسي في ضمائرهم وأكتبهُ في قلوبهم" (إر 31: 33)، فلا يُمكن للمؤمن أن يُحدد حرية الله، الله له اختياراتهُ وتدبيره للإنسان أيهوديا كان أم وثنياً. فلا يُمكن لليهودي ان يدعي أنه نالَ الخلاص أو أنه باقي على العهد بسبب عدم حفظه للناموس، الله قرر أن يُنعِم على الإنسان بعهد جديد (إر 31: 33).

بولس يُريد الدفاع عن حقوق الله وحريتهِ؛ الله هو أعظم من أن نُحدد نحن له طريقة تعامله مع البشر. والأسوء هو أن يُطالِب اليهودي الآخرين بما لا يلتزم به هو، حتّى على صعيد الآخلاق، ليكون هو بذلك: مُلحداً وفاسداً أخلاقياً أيضاً. لذا، فالأهم هو ختان القلب، وهذا الختان لا يُمكن أن يتحقق إلا بعطية الروح القُدس، وهي عطية من الله للين يؤمنون به وليست لمَن يدعي تطبيق متطلبات الناموس الخارجية. بل على العكس من ذلك، دُعي اليهودي ليكون نوراً في ظلمة العالم، ولكنه فشِلَ في أن يكون "شعبَ العهد".

 

وماذا عن خطيئتنا؟

حاول الرسول بولس فضح الإنحرافات التي عاشها معاصروه من غير المسيحيين في خطوة ليُوجه بعد ذلكَ تساؤلات حقيقية حول ما يعيشهُ المؤمن من إنحرافات في علاقته مع الله. وتعمّد بولس في شرح تفاصيل الخطايا التي يقوم بها الوثنيون ليُيرَ غضب مُستمعيه اليهود، ليصل إلى القول: "أنت هو هذا الإنسان"، تماما مثل فعل يوناثان النبي فضح خطيئة داود الملك (2 صم 12).

عندما تبدأ بمحاسبة الآخرين، إنطلاقا من الثوابت الإيمانية التي لك، وإعتماداً على المعايير الأخلاقية التي تؤمن بها، فإنك تدين نفسكَ من دون وعيٍّ. فالتمييز بين الخير والشر، والذي يدعي به المؤمن، سيكون سبباً للإتهام يُضاف إلى قائمة السلوكيات المخجلة التي تُثيرُ غضب الله. آن الآوان لترى خطاياك من خلال مواجهة خطايا الآخرين التي أن تدينها.

يعتقد الديان أن إيمانه يجعله إلى جانبِ الله ليس فحسب، بل يُؤهلهُ لمعرفة أفكارِ الله وما الذي يتبع من خطوات، غير واعٍ أنه يحكم على نفسه بما يُصدره من أحكامٍ على الآخرين: "فَأَنْتَ إِذاً الَّذِي تُعَلِّمُ غَيْرَكَ أَلَسْتَ تُعَلِّمُ نَفْسَكَ؟ الَّذِي تَكْرِزُ أَنْ لاَ يُسْرَقَ أَتَسْرِقُ؟ الَّذِي تَقُولُ أَنْ لاَ يُزْنَى أَتَزْنِي؟ الَّذِي تَسْتَكْرِهُ الأَوْثَانَ أَتَسْرِقُ الْهَيَاكِلَ؟ الَّذِي تَفْتَخِرُ بِالنَّامُوسِ أَبِتَعَدِّي النَّامُوسِ تُهِينُ اللهَ؟ لأَنَّ اسْمَ اللهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ" (روم 2: 21- 24). معرفة الخير والشر لا تعفيك عن الدينونة، والإتكال على معرفة الشريعة لا يعني أنك وصلتَ، أو لكَ إمتيازات خاصّة، بل مسؤوليات، وستُحاسَب أكثر، لأنك أُعطيتَ أكثر.

هناك خطيئة حيثما يقوم الإنسان بإستبدال الخالقِ بما هو صنع يديه، سواء أكانت "الأنا" أم "أشياء أخرى". فالوثنية هي في عبادة الذات، تمجيد الذات، السلطة، الأنا، والتي يقوم الشخصية بتقديم الأضاحي (الوقت والجهد والعلاقات) لها. وتعظم جسامة الخطيئة عندما يقوم الشخصية بالتضحية بالله من أجل الحفاظ عليها.

 

خطيئتي ... خطيئة العالم

بعض الناس يحاولون تشويه صورة الله من خلال جعل مقارنة ما بين صورة الله في العهد القديم: الله العنيف والغضب والقاسي، وصورة الله في العهد الجديد إلهٌ رحيمٌ ولطيفُ ومُحِب، في محاولة للتكيّف مع خطاياهم، وتبرير الخطيئة من أجل الهرب من مسؤولية التوبة عنها. يسعون إلى "التخفيف" من جشامة الخطيئة من خلال سرد الظروف التي جعلَت الخاطئ يُخطي، للهرب من مسؤولية التوبة عنها. وبالتالي يرغبون في نعمةٍ رخيصة: غفران من دون توبة، حلةٌ من الخطايا من دون الندامة ِعليها. مسيحية من دون إلتزامٍ. تباعةٌ للمسيح من جون حمل الصليب، في حينَ ان ربّنا يسوع بيّن لنا أن التباعة غالية كونها تتطلب تركَ كل شيٍ والإلتصاق به.

يُريد بولس على يُوقضنا على حقيقة أننا بخطايانا نشترِك في خطيئة العالم، وخطايا البشر تحيا في خطاياي، فلا نستطيع أن نقول لله: "هذه ليست مسؤوليتي! الإعتراف بانني خاطئٌ يُمهدُ الطريق لقبول نعمة التوبة: أنت مُبرَر فعشِ حياتَك مغفوراً لكَ. وهكذا سنتعلّم أن نُبغِضَ الخطيئة.

ربنا يعرِف أن هذا من المهام الصعبة في حياتنا لأننا لا نتحمَل الشعور بالنقص والخطيئة، فنسعى من خلال شروحات وتفسيرات تفادياً لأي شكلٍ من "الخجَل والخزي" أمام الناس: هو خاطئٌ. الخوف من موقف الناس من دون التأكيد على "النقاوة الداخلية" يُشير إلى حاجة هذا الإنسان إلى النضوج، فهو مازال يبحث عن رضى الناس ومحبتهم، وبالتالي لم يصل بعد إلى النُضج الانساني.

"قلباً نقيا ًاخلق فيَّ يا الله"، هذا يعني إستعداد الخاطي للتعاون مع نعمة الله من أجل مُستقبل أفضل. فلا يكفي أن يكون فينا الإستعداد للإعتراف بخطايانا فحسب، بل الرغبة الصادقة للتعاون مع نعمة الله، الذي يعتبرنا مسؤولين عن العالم.  هذا التعاون يعني قبول التطهير الذي يُقدمهُ الله لنا من خلال الروح القدس: "فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ" (إش 6: 6-7). الله ينزَع عن الإنسان خطيئتهُ عندما يستجيبُ الإنسان لفعلهِ من خلال:

نشعر بتأنيب الضمير

نعترِف بخطايانا

نندم عليها

نقبل نعمة الحلّة

ونتغيّر بنعمة الله المُبررة

فتأنيبُ الضمير ينزَع عنّأ حالة السلام المُزيفة التي نحاول إظهارها: كل شيءٍ يسير حسبما يُرام، والحقيقة هي أنه سلامٌ مزيفٌ. صوتُ الله يُوقظنا على حقيقة هذا السلام المُزيّف، ويبدأ العمل في التعريف بالخطيئة وتسميتها مثلما هي من دون مُبررات. بعضنا يشعر بالخطيئة من خلال الشعور بأثارها، فيتعامل مع تأثيرات الخطيئة، ويترك الخطيئة. تماماً مثل مَن يعمل على تخفيف الحمى من خلال الكمادات الباردة، ويترك تشخصي المرض.

أبوّة الله ومحبتهِ تجعله يبعث لنا برسائل تُشعرنا بأننا على الطريق الخطأ، وعلينا إلتقاط هذه الرسائل وعدم تجاهلها، لأنها بدايات لخطواتٍ حاسمة في حياتنا، والتي هي الإعترف بالخطيئة للتنعم بفرح الغفران مثلما يُصلي المُزمّر:

 

طُوبَى لِرَجُلٍ لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ.

لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ

لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَاراً وَلَيْلاً. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ. سِلاَهْ.

أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: [أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي] وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي

 

هذا الإعتراف هو لقاءٌ شخصيٌ مع ربّنا يسوع المسيح القائم، والذي جاءَ إلينا ليُشعرنا بأننا بعيدون عنهُ، فهيأ لنا عودتنا من خلال التحرر من كل ما يُقيدنا ويُبقينا بعيدونَ عنه. هذه الخطوة تحمل ندامة مرفقة بإيمان من أن الله هو الذي حملنا على ذلك، من خلال شعورنا بأن كل خطيئة نقترفها هي مُشاركة في خطيئة العالم: أنا المسؤول عن خطيئة العالم وليس الله! فالله ليس مؤولاً مثلما أن الله لن يقوم بالتوبة عوضاً عني، هذه هي مسؤوليتُك يا إنسان.

الصفحة 17 من 17