المواعظ
 المطران بشار متي وردة

المطران بشار متي وردة

الجمعة العظيمة

"هذا يسوع ملكُ اليهود" (متّى 27: 37)

العظِة الأولى

جمعنا إلهنا وربّنا اليوم لنقفَ أمامَ الصليب لنقولَ له مَن نحن أمام يسوع المصلوب: قائد المئة الوثني أعلن حقيقة يسوع: "كان هذا الرجل إبنُ الله حقاً" (مر 15: 39)، وكتبَ بيلاطُس "بالعبرية واللاتينية واليونانية: "يسوع الناصري ملكُ اليهود" (يو 19: 19).

إلهنا ينتظر منّا جواباً شخصياً فالمسيحية ليست فلسفةً أو برنامج أو حزب ننتمي إليه، بل علاقةٌ ولقاءٌ شخصي مع ربّنا يسوع المسيح، الذي يفتح ذراعيه على الصليب ليُصالحنا مع الله الآب، فلأجل هذا "تجسّد، صارَ إنساناً، ليُصالحنا إلى قلبِ الله. وهذه كانت إرادةُ الله ليتمَّ ما جاءَ في الكُتب، فرفِعَ على الصليبِ ملكاً لأن الله أرادَ أن يُعلنهُ ملكَ الملوك: يسوع المسيح.

ولأننا عُمذنا بإسمهِ، فنحن: "جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ." (1 بط 2: 9). هذا ما علّمهُ بطرس في رسالتهِ: نحن شعبٌ أختاره الله: مسحهُ (ماشيحا) لنكون كهنةً وأنبياء وملوك على مثالِ ربّنا يسوع الكاهن والنبي والملك. فرفعهُ على الصليب هو إتمامٌ لإرادةِ الله التي جاء ليعيشها ويُعلنها، وبدءُ ملكوتُ الله الذي أوكلَ إلينا أن نواصِل إعلانهُ.

المسيحية ليست "علاقة شخصية بينك وبين الله" مثلما نسمَع هذه الأيام، المسيحية لقاءٌ بيسوع المسيح الذي دعاني من الظُلمةِ إلى نورهِ العجيب، لا لأسكتُ بل لأُخبِرَ العالمَ بفضائلهِ، ولكن وفقَ الطريق الذي اختارهُ هو لي، طريق المحبة والغفران والخدنة، طريق الصليب الذي سارَ فيه هو أولاً، وتقدمني فيه: هو بكرُنا. طريقُ جمعَ خوانةً ومُشككين وناكرين ومُستهزئينَ ومُعذبين ومُضطهدينَ وتائبين ومؤمنينَ. والله الآب صادقَ بإقامتهِ ربّنا يسوع من بين الأموات على هذا الطريق، وعلينا جميعاً نحن المؤمنون بها أن نسيرهُ بأمانةٍ ونعيش نعمة الكهنوت والنبؤة والملوكية التي أتمّها ربنا يسوع في حياتهِ ودعانا لأن نُشاركهُ هذه المسحة: مَسحة الكهنوت ومسحة النبؤة ومسحة الملوكية، والصليبُ عرشنُا.

         مسحة الكهنوت تُلزِمنا بأن نعمَل على مُصالحةِ الإنسان إلى قلبِ الله، لأن الكاهن هو مَن يُحضِر الله إلى الإنسان، هذا كان واجبُه في الكتاب المُقدس. مهمةُ الكاهن كانت أن يعمل على أن يجمع ويوحّد "الله والإنسان معاً"، الله الباحِث عن الإنسان، والإنسان الذي يرغب في العيش بعيداً عن الله. الإنسان الذي يُريد أن يكون إلهاً من دون الله، فيتعلّق بالمخلوقات ويتناسى عبادةُ الله.

فالله طلبَ من موسى أن يذهبَ إلى فرعونَ ليسمحَ للشعب المُعذَب والمُهان بأن يخرج إلى البرية ليعبدهُ: (خر 3: 18). لم يدنهُ لأنه أهانَ الشعب وإستعبده بل طلب منه أن يسمح للشعب بأن يتحرر من سطوته وينال فرصة التحرر هو من "شهوة التسلّط"، ورفضَ فرعون وتحدّى الله، فنال عاقبةَ عصيانهِ.

عبادة الله تمنحَ للإنسان الكرامةَ وتهبُ له السلامَ الداخلي بخلاف العبادات الأخرى التي تتركهُ متعباً لا يعرِف كيف يُرضي آلهتها، والخطيئة التي تتركهُ مُضطرباً مشوشاً، لنسمعَ إلى مار بولس يحكي قصتهُ مع الخطيئة:

"ولكِنِّي بَشَرٌ بِيعَ لِيَكونَ لِلخَطيئَة. وحقًّا لا أَدْري ما أَفعَل: فالَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، وأَمَّا الَّذي أَكرَهُه فإِيَّاه أَفعَل. ... ما أَشْقاني مِن إِنسان ! فَمن يُنقِذُني مِن هَذا الجَسَدِ الَّذي مَصيرُه المَوت؟ الشُّكرُ لله بِيَسوعَ المسيحِ ربنَّا ! فهاءَنَذَا عَبْدٌ بِالعَقْلِ لِشَريعةِ الله وعَبْدٌ بِالجَسَدِ لِشَريعةِ الخَطيئَة". (روم 7: 14- 25).

ولأن الله أبٌ مُحبٌ، لن يترُك الإنسان في عذابهِ هذا، لذا، أختارَ إبراهيم (وشعبه) ليُؤسس معه علاقة شخصية يكون فيها هو المعبود حصراً دون سواه، فإذا نجحَ إبراهيم (وشعبه) تبارَكت به جميعُ شعوب الأرض (تك 12: 3). فعلى الشعب أن يحرص أن لا يعبُد إلا الله، لأنه مسؤول عن رسالةٍ إذا أتمّها صارَ بركةً للعالم أجمع، فمن خلالهم سيجمع الله العالم كلّه له شعباً يعبدهُ بالروح والحق (يو 4: 23).

والحال أن الشعب أخطأ في العبادة، وكان عليه العودة وكل عودّة تكون مؤلمة وقاسية إذ تتطلّب ترك الطريق الذي يسيره الإنسان ليعود مرّة أخرى إلى الطريق الصحيح، لذا، قُدِمت ذبائح التكفير لا لأن الله يُريد هذه الذبائح، بل لأن الإنسان يقول فيها لله: "يا إلهي، كان من العدالة أن يكون مصيري مصير هذه الذبيحة"، لأني لم أحافِظ على العهد، ولكني اقدمها عوضَ عنّي وأعدُك بالتوبة والندامة.

إعتاد اليهود الاحتفال بيوم "كيبور" يوم التكفير والذي فيه كان يدخل فيه رئيس الأحبار قُدس الأقداس حاملاً "ذبيحة التكفير" والتي يُحمّلونها رمزيا كل خطايا الشعب، ويأخذ دمُ هذه الذبيحة ويرشهُ على جدران الهيكل، ثم يخرج إلى الشعب حاملاً "صفحةً" فيها من نفس الدم، ولكنه، أي رئيس الأحبار، يتكلّم هذه المرّة بإسم الله ليقول: "هذا هو دمي". إلهنا يُشِرك الشعب في حياتهِ، أصبحوا دماً واحداً، حياةٌ واحدة. نَفسٌ واحدٌ. هنا نفَهم معنى قول يسوع: "هذا هو دمي"، فما صنعهُ يسوع البارحة في العشاء كان طقساً كهنوتياً والذي كان يُمارَس في الهيكل، الذي الذي صارَ محط انتقاد الأنبياء للفساد الذي طالهُ فالطقوس أصبحت إلهاً يُعبَد، ناهيكَ عن الفساد المالي الذي كان فيه.

جاء ربّنا يسوع، والذي أرادَ أن يُصالِح الإنسان إلى الله، وهذه مهمّة الكاهن، من خلال ذبيحة الطاعة التي قدّمها لله الآب: "يا أبتِ، إنّك على كلَّ شيء قديرٌ، فآصرف عنّي هذه الكأس. ولكن لا مثلما أنا أشاءَ، بل ما أنتَ تشاء" (مر 14: 36). ليس فحسب، بل المكان الذي فيه تتمُ المُصالحة: الهكيل الجديد، ليكون هو نفسه الكاهن والذبيحة والهيكل معاً: "أُنقضوا هذا الهيكل أُقمهُ في ثلاثة أيامٍ!" (يو 2: 19).      فعندما نسمعَ عبارة: "يسوع المسيح عظيمٌ أحبارنا"، فهذا يعني أنه أكملَ كل إنتظارات العهد القديم الكهنوتية، لأن وجودهُ كان وجوداً كهنوتياً: "طعامي أن أعمل مشيئة مَن أرسلني". كان في تناغمٌ تام مع إرادة الله. 

يوحنا المعمذان، وهو من عائلة كهنوتية، ونشأ وتربى في الهيكل ويعرِف كل طقوسهِ، رفضَ البقاء في هيكل أورشليم وراح إلى البرية ليُمارِس خدمتهُ الكهنوتية، والتي تطلّبت غسل الماء، وهو طقسٌ كان على مَن يدخل إلى الهيكل أن يغتسل قبل أن يُقدِم الذبيحة. يوحنا نفسهُ أعلنَ عند مجيء يسوع: "هذا هو حملُ الله الحامِل خطايا العالم"، وسامعوه كانوا يعرفون معنى هذه العبارة: "هذا هو المزمع أن يحمل كل خطايا العالم، وحملها اليوم من جراء خيانة يهوذا، وعداوة رؤساء الكهنة، وتخاذل الشعب ونكران بطرس، وعلى الرُغم من هذه كلّها لم يتراجع عن تقديم العبادة لله فصرخَ اليوم: "يا أبتاه بين يديكَ أستودع روحي". من على الصليب حقق المُصالحة ما بين الإنسان والله: "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون"، لقد غفر لهم وطلبَ من أبيه أن لا يُمسِك عليهم خطيئة لأنهم جهلة علّهم يتوبون، وهذا ما حصلَ بالفعل، فلقد تابَ أحدهم، قائد المئة، وأعلنَ: ""كان هذا الرجل إبنُ الله حقاً" (مر 15: 39).

من على الصليب خرجَ دمٌ وماء، هو دمٌ المُصالحة الذي كان رئيس الأحبار يرشهُ على الشعب، وماء يغسل نجاسة الشعب الخاطئ. ماء يخرجٌ من الهيكل الجديد الذي عزمَ الله على بنائهِ مثلما تنبأ حزقيال النبي (حز 47)، فيُعطي حياة طيبّة لكل مَن يشربُ منه.

إخوتي وأخواتي،

الصليبُ هو المذبح الذي عليه قدّم ربّنا يسوع حياتهُ ذبيحة الطاعة التامّة لله. فكل الذبائح التي قدِمَت في الهيكل الفاسِد لم تكن كاملة والله كان يبحث دوماً عن ذبيحة تامّة، وهي جاءت من إنسانٍ كامل ليجعل من حياتهِ كلّها ذبيحةً لله، ويجعل المُصالحة ممكن ما بين الله والإنسان لأنه أزالَ عن الطريق كل ما يمنع الإنسان من تقديم العبادة الصحيحة له. مثل إبراهيمَ الذي لم يتردد من تقديم إبنه إسحق وحيدهُ والذي يُحبهُ لله: "هو بركة منَك وها أني اٌقدمهُ لك" (تك 22) لأنه تعلّم أن أمرَ الله يُطاع إذا ما أرادَ أن يكونَ شريكاً أمينا في العهد. طاعة إبراهيم جعلتهُ يترك ماضيه وحاضره إلى رعاية الله، ليتغرّبَ في أرضٍ لم يعرفها من قبلُ، وتركَ مُستقبله أيضاً بيد الله. طاعة إبراهيم أعطته عينان ليرى ما يُريده الله منه، على الرغم من أن الله لم يذكر له إسم المكان تحديداً، ولكنه سارَ حياته بما يُرضي الله: "رفعَ إبراهيمَ عينه فأبصرَ المكان من بعيدٍ". 

طلَبَ إبراهيم من خدمه البقاء أسفل الجبل، لينفردَ هو مع إسحق "الصبي" للسجود لله، ولن يُعيقوه إذا ما أرادَ تقديم إسحقَ ذبيحةً. يُسميّه "الصبي أو الغُلام" وكأنه يتخلّى عنه منذ الآن لله واهبهُ، ليكون منذ الآن خادمُ المحرقةِ، خادم وصيّة الله.

وقفَ إبراهيم أمام اختيار صعب: الولاء لله أم الولاء لإبنه إسحق، فأختارَ الثقة بالله على الرغم من أنه لا يستوعبها تماماً. وصلَ الجبلَ وأعدَّ الذبيحة: إسحق الذي أطاعَ صامتاً: ""ظُلِمَ وهو خاضعٌ وما فتحَ فمهُ. كانَ كنعجةٍ تُساقُ إلى الذبحِ، وكخروفٍ صامتٍ أمام الذين يُجزّونهُ لم يفتح فمهُ". (إش 53: 7). ورفعَ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح إبنه، فناده ملاك الربَّ بإسمه مرّة أخرى: "إبراهيم، إبراهيم! قال: "نعم، ها أنا". (22: 11). إبراهيم لم يبخَل بإبنه على الله، لقد قدّمه له، ونالَ إسحق حياته من الله، وليس لإبراهيمَ فضل في ذلكَ.

ومخافة الله تظهر من خلال "طاعة الإنسان" لمشيئة الله، فهي ليست مشاعر وعواطف رخيصة، بل إلتزاماتٍ مُكلفة وإبراهيم يعرف كم كلّفته هذه الطاعة من تخلّياتٍ.

اليوم نسأل أنفسنا، نحن الذين اختارهم الله بنعمتهِ لنكون شعبهُ ووهبَ لنا كهنوتاً ملوكياً. اليوم يتحدانا ربنا يسوع المسيح نحن الذي دعاهم للإشتراك في ذبيحة الأفخارستيا:

هل أقوالي وأعمالي تدعو إلى المُصالحة ما بين الله والإنسان؟

هل أقومُ بما يلزَم لأجعل هذه المُصالحة ممكنة؟

كيف لي أن اُقرِّبَ أكثر ما بين الله والإنسان؟

كيف لي أن أكون الهيكل الذي فيه يقتربُ الله من كل إنسان ألتقيهِ في حياتي؟

هل أسعى لأٌقدمَ حياتي لأكون ذبيحة شُكرٍ وحمدٍ لله؟

الكاهنَ يُصلي من أجل غفران الخطايا، وربّنا يسوع يغفِر لصالبيهِ ويطلب من الله ويتشفّع لهم، فهل أعيش إيماني المسيحي غافراً للناس زلاّتهم؟ أم تراني أٌمسِك عليهم خطاياهم؟

الجواب على هذه الأسئلة لربنا يجعلنا محط إستهزاء الناس ورفضهم لنا. ولكن، ربّنا يسوع تقدمنا وحملَ الصليب، فلا نخافُ الرفض والإهانة، هناك مَن تقدمنا على الطريق، ولسنا أفضلَ منه. 

خميس الأسرار

دعوةٌ للمُشاركة في عشاء المحبّة

"قبل عيد الفصح، كان يسوع يعلم بأن ساعة إنتقالهِ من هذا العالم إلى أبيهِ قد حانت، وكان قد أحبَّ خاصتهُ في هذا العالم، فبلغَ به الحُب لهم إلى أقصى حدودهِ" (يو 13: 1)، فقام ليخدمهُم. كشفَ لنا ربّنا يسوع اليوم أن ساعة الإنتقال إلى أبيه هي "ساعة المحبة" حيث يخرُج من ذاتهِ ليكون إلى جانبِ الآخر في حاجاتهِ. هي ساعةٌ يترُك فيها الراعي خرافهُ التسعة والتسعين ويمضي في طلبِ الضال ولن يعود إلى الرعية إلا حاملاً إياهُ وفي عودتهما فرحةٌ للجميع. "ساعة الإنتقال، هي "ساعة المحبّة" ساعةٌ ينحني فيها أمام الآخر ليغسِل له قدميه اللتان سارتا طُرقَ هذا العالم وإتسختا به. فالمحبة هي التي دفعتَ الله الآب ليكونَ مع الإنسان، وهي التي سمعَت ورأت عذاب شعبه مصرَ العبودية وعذاب الإنسان المُستعبَد للخطيئة، فلبِسَ اليومَ حُلّة العبدِ ليغسِل تعَبَ الإنسان فيكونَ أهلاً للمُشاركة في وليمة المحبة التي أعدّها له، مأدبةٌ تستقبِل الجميع من دون إستثناء حتّى يهوذا الخائِن الرافض للمحبة. هكذا يكشِف الله عن قداستهِ فهو ليس إلهاً نخافهُ، بل إلهاً نُحبُه، تماماً مثلما جاءنا في الميلاد طفلاً يُحبَ ويُحتَضَن، هكذا يركعُ اليوم ليخدُمَ مُحباً.

المحبة التي يُبشِر بها ربّنا يسوع هي محبة خدومة تحتضنُ الآخر وتغفِر له زلاّتهِ. هي "إنحناءٌ رحومٌ نحو الآخر حتّى قبلَ أن يسأل الرحمة". هي "إستعدادٌ لقبولهِ مثلما هو والعمل على تغييره من حيثُ ما هو لا من حيث مٌا نُريد". محبةُ الله، حنانٌ ورحمة تجاه الإنسان من أجل المُشاركة في حياتهِ الإلهية، حياة المحبّة. ربّنا يسوع تجسّد لا ليتركنا حيثما نحن بل لينقُلنا معه إلى أبيهِ، فهو لا يعود إلى أبيهِ السماوي وحيداً، بل يجذب إليه جميع البشر (يو 12: 32)، فكل مَن هو مُستعدٌ لأن يُغسَل سيشترِك في إرسالية المحبّة هذه. محبّة الله لا تعرِف الحدود، الإنسان هو الذي يضعَ حداً لهذه المحبّة على حدَّ تعبير البابا بندكتُس السادس عشر.

محبةُ يسوع جعلتهُ يلتصِق بمَن يُحبهُم وعمِل على إزالةِ كل الحواجز التي تمنعهم من لقائه على نحو مُحب، على نحو أخوي. محبتهُ شافية ومُطهِرة ومُقدِسة. محبتهُ وخدمتهُ طهرّتهُم من مشاعر الكبرياء والمُفاخرة والبحث عن الأمكنة المتميزة أو المواقف البطولية: "مَن الأعظم بيننا؟ من الأول بيننا؟ مَن سيختاره المُعلّم ليكون على جنبِ اليمين واليسار؟ تطلّعات الرُسل هذه هي تطلّعتنا أيضاً، وهي سببُ خلافات وصراعاتٍ البشر في كل العصور. هذه كلّها تُبعدُ الناس عن بعضهم وتُشتتهم في صراعاتٍ، وحدها محبة يسوع تجمعهم (وتجمعنا)، فالتعلّق به يُوحدنا لأنه محبّة. لذلك اختار يسوع أن يكون في المكان الذي لا يتصارَع عليه أنسان ليواصِل العلاقة ويُديمها: الخادِم، لا بالتظاهِر بل من خلال خدمةً حقيقةً لا تقبل إعتراضات بطرس ولن تقفَ أمام خيانة يهوذا.

ربّنا كشفَ للكنيسة، لنا جميعاً، الطريق الحق للوصول إلى الله الآب: "مَن أرادَ فيكم أن يكون كبيراً، فليكن لكم خادماً". كشفَ لنا عن سرّه: هو الربّ، وربوبيتهِ هي من خلال الخدمة. فالطريق إلى الله يمر عبر خدمة القريب، فجعل ربّنا يسوع من نفسه القدوة والمثال، ليكونَ فينا نحن فكرٌ المسيح، فنسلُك في حياتنا مثلما هو يريد لا مثلما نُريدُ نحن. وأي أسلوب حياة غير ذلك يُعد خيانة للصداقة التي يعرضها ربّنا يسوع. فلا نستغرِب من أن حدثّ اليوم، تضمنَ خبر خيانةِ يهوذا حتّى بعد تناوله اللقمة من يد ربّنا يسوع. ومع أنها خيانةٌ إلا أنها لم تستطيع أن تمحو عمل النعمة الذي صارَ فيه، فندِم بعد تسليم ربّنا يسوع، فراح يعمل المستحيل ليُنقِذَ ربنا يسوع ولم يفلَح، فبقيَّ أسيرَ الظلمة التي دخلَ فيها منذ أن تناول اللقمة من يدِ ربنا يسوع وخرج عن جلسة العشاء (يو 13: 30)، شنقَ نفسهُ لأنه لم يؤمن بالغفران، فتحولّت ندامتهُ إلى يأسٍ، لأنها كانت ندامةٌ من دون إيمان، من دون رجاء.

اليوم، يدعونا ربّنا يسوع إلى أن نكون "مُشاركينَ معهُ في "فصحِه" عبور الله نحونا وعبونا إليه: "إصنعوا هذا لذكري"، ويُعيننا لتكون مُشاركتُنا تامّة. لم يقل "إحتفلوا متذكرين"، بل قال: "إصنعوا"، أي: "كونوا أنتم تواصلاً لهذا الفصحِ"، أن نصنع ما صنعهُ ربنا يسوع نفسه. فالإيمان به يعني تباعتهُ، وهذه ليست مُشاهدة بل مُشاركة. نحن مدعوون لأن نصنعَ ما صنعهُ هو: أخذ خبزاً من أرضنا وباركهُ وكسره وأعطاهُ لنا مُباركاً. أخذ ربّنا الخُبزَ لا ليُبقيهُ مُلكاً له، بل ليُباركهُ مثلما يقبل منّا في بدءِ كل قُداس عطايا الخُبزَ والخمرَ، ليُباركها ويُقدسها ويُعيدها الينا وقد تحولّت إلى ذاته. فهو يُبارِك كل ما يأخذه، وهكذا أخذ اليومَ الخُبزَ وبارك، باركَ الله مٌعترفاً بصلاحِ الله الذي باركنا بمحبتهِ، على الرغم من الضعف والشك والخيانة والخطيئة التي إتسمَ بها أصدقائهُ الرُسل. وهكذا نتعلّم أن نُبارِك كلَّ ما تُمسكهُ أيدينا، فلا نتعامل معه بأنانيةٍ وجشعٍ بل بمحبةٍ فنعترِف بتواضع أنه عطيةُ الله، وأن الآخرين ليسوا أعداءَنا يُنافسوننا على عطايا الله، بل همُ مُبارَكون معنا من أجلنا، ونحن مُباركونَ من أجلهم.

كم نحن بحاجةٍ اليوم إلى هذه الأياي التي تُقدس العالم. فكلما إستغل الإنسان العالم لمصالحهِ إشتعلت حروبٌ ونزاعاتٌ بين البشر. لذا، أخذ الخُبزَ وباركهُ وكسرهُ وأعطاهُ ليكونَ مأكلاً. فما نفعُ الخُبزِ إن لم يكن خُبزأً مكسوراً مأكولاً؟ أكلُه هو الذي يجعلهُ نافعاً وإن كان من أن هذا الأكل سيُفقده جمالَ منظره ورائحتهُ الطيبّة. الخبُز صُنعَ ليكون مأكلاً، ليكونَ خُبزَ الحياة.

         فإليك يا ربُّ نُصلي: حولّ إنساننا وقلبنا  ليكون الإنسان الذي تُريدهُ. باركهُ وقدسهُ مثلما تُبارِك وتُقدس الخبز والخمر ليكوناَ جسدَك ودمكَ، جسدُ الخدمة ودمُ الخلاص. طهّر حياتنا برحمتِك، لكي نمدد أيدينا فنقبل عطية جسدكَ ودمِك المُقدسين فيحولان أجسادنا لتكون جسدُك الذي فيه ومن خلالهِ تجذبهُ إلى أبيك. أقبل صلاتنا خاصّة من أجل كل الكهنة الذين يحتفلون كل قداس بعطية الخلاص التي أنعمتَ بها علينا، ليكونوا مثلما أنت: جسدَ المحبة السخي. 

عيد السعانين

هوشعنا لأبنِ داود (متّى 20: 29- 21: 22)

تعلو هتافات الكنيسة اليوم كلّها مُرنمة: "أوشعنا لأبنِ داود، مُباركٌ الآتي بإسم الربّ"، لتحتفِل بذكرى دخول ربّنا يسوع المسيح إلى أورشليم، مُعلنةٍ إيمانها به أنه الملكُ الذي يستحقُ منّا كل الإكرام. الجموع التي جاءت إلى أورشليم لتحتفِل "بالفصح"، حيثُ عبرَ الله نحو الإنسان وخلّصهُ من عبودية مصرَ، ليكون بمقدورِ الإنسان أن "يتعبّد" له ويجعل عبوره إليه ممكناً، هذه الجموع هي نفسها التي إنضمّت إلى الرُسل الذين تبعوا ربّنا يسوع من الجليل في الساعة التي حددها الآب له، فملوكية ربّنا يسوع لم تكن أمنية أو رغبة تلاميذه، بل هو الذي هيأ وأعد لدخولهِ مُسبقاً وكان على الرُسل تنفيذ أوامرهِ. 

ولكن لما هتفت الجموع: "هوشعنا لإبنِ داود: خلّصنا يا إبنَ داود"؟ ولما اختارت الجموع أن تهتِف لداود الملك دونَ سواهُ؟

إحتفالية اليوم مليئة بالصور والرموز الكتابية ليس فحسب، بل حققت تطلّعات الناس الذين صلّوا ليأتيهم الملك المُخلَص، ابن داود ليُعيدَ لهم المجد والعهود والوعود. ربّنا يسوع حقق رجاء الشعب فكان "أعظمَ من داود". داود الذي وُلِد ونشأ في بيت لحمَ وأختاره الربّ من هناك ومسحهُ على يد صموئيل النبي ليكون ملكاَ عوضَ شاؤول الذي نبذه الربُّ لخطاياهُ. بيّن داود ولائه لله فعمل على توحيد الشعب وصلّى مُرنماً عظائم الربّ وتعبّد له حتّى في أوقات ضعفهِ، فلم يُبرر خطاياه ولم يتنكّر لها بل وقفَ طالباً الغفران مترجيا رحمة الله. داود الملك الذي أحضرَ "تابوت العهد" إلى أورشليم في إحتفالٍ مهيبٍ رقصَ هو أمامهُ فرحاً وجعل من حضور التابوتِ بركة وفرحة للفقراء: "بارَ الشعب بإسم ربَّ القوّات، ووزعَ على كل الشعبِ، على كل جمهور إسرائيل رجالاً ونساءً لكل واحدٍ رغيفَ خُبزٍ وكعكة بلحٍ وقُرص زبيبٍ" (2 صمو 6: 19).

وها لنا اليوم أعظمُ من داود، فالجميع يرنُم ويهتفُ أمام ملكِ الملوك ربنا يسوع المسيح المتواضِع في قدومهِ، فطلبَ جحشاً لم يركبهُ أحد، مثلما جعلَ داود "تابوتَ العهد" على عجلة لم يستخدمها أحدٌ، وفرشَ الناس ثيابهم أمامهُ في إعترافٍ صريح منهم بملوكية ربّنا يسوع، وراحوا يصيحونَ: "هوشعنا: خلّصنا". لذا، دخل الهيكل وطردَ كل ما لا يليقُ بالعبادة الحقّة، ومدّ يد السلام والشفاء لكل العميان والعُرجِ الذين كانوا في الهيكل، ليجعل من دخوله هذا إنتصاراً للإنسان فغلبَ الخطيئة ليكون القلبُ كلّه مُلكاً لله، وليملُك هو إلهاً على حياتنا.

ملوكية ربّنا يسوع ليست مثل ملوكية الإنسان اللاهِث خلف السُطلة والإنجازات والمناصِب والأمكنة المتميزة. فالناس هي التي هتفت له ونصبتهُ ملكاً، وحينَ أرادوهُ ملكاً دنيوياً رفضَ ذلِك بشكل حاسِم، وطالبَ المُلكَ لله. فالملكُ الدنيوي، مثلُ كل إنسانٍ، ومثلنا، يعشقُ السلطةُ ويدفعَ لأجلها كل غالٍ، وهو مُستعدٌ لأن يساوِمَ على كلِّ شيءٍ ليبقَ ملكاً. ملكٌ طاغيةٌ عنيفٌ يُريد أن يُخدَم وينشِد له الجميع أناشيد التبجيل. أما ملوكية ربّنا يسوع فهي ملوكية الخدِمة والشفاء والغفران ليُصالِح الإنسان إلى الله ويعود السلام إلى القلب، فعالمنا مُضطرِبٌ وإضطرابُه وفوضويتهِ علامةٌ على "غيابِ المحبة والسلامِ". لأن قلبَ الإنسان تعلّق بالأشياء والأحداث عوضَ أن يتعلّق قلبهُ بإنسان. فلا مجال اليوم لفرحِ الطفولة البريء بين أناسٍ أضحوا أعداء لا أصدقاء، والسبب هو: إننا نتوهَم كلَّ مرّة أن فرحنا وسعادتنا مُؤسس في تعلّقنا وتملكنا لشيءٍ أو لمنصبٍ أو مكانةً أو إنجازٍ أو ثروة، والحقيقة التي يُريد أن يكشِفها لنا ربّنا هي: أن فرحنا آتٍ من خلال إرتباطنا بشخصٍ نُحبهُ ونُكرمهُ، ونحن مُستعدون من أجل أن نبذُل كل شيءٍ من أجل محبتهِ، والله هو أول مَن يعيش هذه الصداقة.

فكيف يُمكن أن تتحقق هذه الملوكية في حياتنا؟ وهل أن الاحتفال بالسعانين يقتصِر على حمل أغصان الزيتون والهُتاف لربّنا: "هوشعنا لأبنِ داود"؟

بالطبعِ لا. فمن أجل أن يكون السعانين سعانين القلب، علينا أولاً أن نطلُبَ نعمة البصر، لأن لنا عيونٌ ولكنها لا تبصِر حضورَ الله، فالقلب مُنشغلٌ ومشغولٌ بالكثير، ويتطلّب تطهيره "نورا ولمسة إلهية" تشفيه من عماه حتّى نتخلّص من كل ما هو ثانوي، وعل كل ما يشغلنا من أن نُقدِم الإكرامَ الواجِب لملِك الملوك. فالفساد يُعمي قلوبنا وصارَ لزماً ليتطهّر القلب منه، وصارت حياتنا مليئة بالفائِض وحان الوقت لننزعَ عنّا هذه الأثقال وما نعتقده "مهما" للحياة ونفرشها أمام ربّنا يسوع، في فعلِ طاعة تامّة له. إلهنا يُريدُ بحضور ربّنا يسوع المتواضِع أن يمُسَ قلوبنا ويشفيها من عماها، لا بثورة عنيفةً، بل بلمسة تشفي قلوبنا من الكذبُ والنفاق والغش والسرقة والرياء والغضب والعداوة والإحتيال.

يُقدِم ربّنا يسوع نفسه اليوم لنا "هيكلاً" ندخلهُ لنتصالحَ مع الله الذي ابتعدنا عنه بخطايانا ونصبّنا لحياتنا آلهةً أخرى إلى جابنهِ نعبدها ونُقدِم لها الإكرام والذبائح، ونبياً يفضحَ زيفَ تديننا الذي يجعلنا نتعامل مع متطلبّات إيماننا تعامل الصيارفة مع حُجاج هيكل الله، وكاهناَ وذبيحةَ مُصالحةٍ: "إهدموا هذا الهيكل وأنا أبنيهِ في ثلاثةِ أيام، وكان يعني بذلك هكيل جسدهِ". 

سعانينٌ ربّنا يسوع تدعونا لأن نتحرر من عبودية الملوك الذين نصبّناهم على حياتنا ونترُك أمكنتنا التي تعوّدنا عليها ونتبعهُ هو في الطريق الذي يتقدمُنا فيه. ربّنا ليس مُرشداً أخلاقياً يُعلِّم كيف نكون سُعداء، بل ربٌّ يسير أمامنا ليكشِف لنا كيف يُمكن أن "نكون الإنسان الذي خلقهُ الله على صورتهِ ومثالهِ". إنسان صديقٌ لله، لأن الله "يحتاجُنا": "الربُ بحاجةٍ إليه"؟ فإذا كان الله بحاجة إلى الجحش ليجعل دخولهُ إلى أورشليم إحتفالياً، فكم هو بحاجةٍ إلينا ليكون "ملكاً" على الكون؟

علينا أن لا ننتظر أن يقوم ربّنا يسوع بثورة لتغيير الآخرين، بل نسألهُ بتواضع أن يُغيّرنا نحن، ويشفينا من أمراضنا ويسند ضعفنا، وهذا يتطلّب وجود إنسانٍ حُر، قادرٌ على أن يتخلّى عن كل شيءٍ ليكون مثلما هو من دون ٍ خوفٍ أو خجلٍ أمام ربّنا يسوع ليُشفى وليتبعاه. في إنجيل مرقس والذي سجّل هو أولاً هذه الحادثة، يكتُب أن الأعمى تركَ كلَّ شيءٍ، حتّى الرداء الذي كان يملكهُ ويحمي جسمهُ، وإلتحقَ بموكبِ يسوع الملك.

فليُعيننا ربّنا ليكون دخولنا معهُ صادقاً حتّى نُكمِل المسيرة معه حتّى الجلجلة لننعمَ بفرِح القيامة. 

 

عيد السعانين

افتتح سيادة المطران مار بشار متي وردة رئيس أساقفة ايبارشية أربيل الكلدانية والدكتور محمد عتيق الفلاحي الأمين العام لهيئة الهلال الأحمر الإماراتي والقنصل الإماراتي السيد راشد المنصوري وبحضور السيد جلال حبيب مدير ناحية عنكاوا والاستاذ فهمي صليوا مدير تربية أطراف اربيل والسيد سولاف هرمز مدير بلدية عنكاوا، سوق الرجاء الشعبي وذلك ظهيرة يوم الأربعاء ٥ نيسان ٢٠١٧ في بلدة عنكاوا - أربيل. يضم السوق ٩٠ محل تسوقي شيدت الايبارشية ٦٠ محلا ومنظمة الهلال الأحمر ٣٠ محلا وستخصص للشباب النازح من الموصل وسهل نينوى لتوفير فرص عمل لهم

الأحد السادس من الصوم

أعمال الرحمّة:  تعزية الحزانى (يو  9: 39- 10: 21)

يعلو صوتُ ربّنا يسوع في الهيكل قائلاً: أنا بابُ الخراف ... أنا الراعي الصالح ... ربّنا يسوع المسيح يُقدّمنا راعٍ يعرفنا، كلٌّ بإسمهِ لأنه يُحبنا وقلبهُ متعلّقٌ بنا. يتقدمنا على الطريق ويدعونا لنتبعهُ. لم يقل: "آمضوا وسأكون معكم، بل قال: أنا الراعي الذي يتقدّم المسيرة. ومسيرتهُ هذه المرّة نحو أورشليم حيث هيكل الله وحيث الخيانة والعذاب والصلبُ والموت طاعةً لله الآب ومحبةًّ بنا.

ربّنا يسوع الراعي الصالح، راعٍ يُريد حياةً طيّبة لخرافهِ وهو مُستعد لأن يتركَ التسعة والتسعين ويذهب يبحث عن الضال حتّى يجدهُ. راعٍ مُستعدٌ للدفاع عنها عند الخطر حتى لو كلّفه ذلك حياته، لأنه يُحبُ خرافه ويُريد لهم الحياة فيعتني ساهراً ويحرسها لتبقى آمنةً فلا يقترِب منها حيوانٌ مُفترسٌ بل يرافقها ويقودها إلى المراعي الخضراء، وتطيعهُ الخراف حُباً به لا خوفاً منه، وهي تعرفهُ وتُميّز صوتهِ من بين جمع الأصوات، وتتبعهُ حيثما يذهب لأنها تعرِف انه سيأخذها إلى حيث الحياة الوافرة لأنه يحملهُم بمحبةٍ في قلبهِ ويحنو عليهم، ولا يدينهم إذا حادوا عن الطريق، بل يُعيدهم إلى الحظيرة آمنين.

يروي لنا إنجيل يوحّنا، أنَّ ربّنا يسوع قبل أن يُقيمَ بطرس راعياً للكنيسة، سأله ثلاثَ مرّاتٍ: يا سمعان بن يونا أتُحبني؟ تأكيداً على أن الرعاية تتطلّب محبة الراعي لرعيّتهِ، ومحبتهُ يجب أن تكون محبة سخيّة حتّى بذل الذات. فلا يُمكن أن نكون أعضاء في كنيسة ربّنا يسوع من دون أن نُحبهُ ونحبَ بعضنا بعضاً. فالمحبّة هي التي توحّد قلبَ الراعي بالرعيّة وتربط قلوبَ أبناء الرعيّة ببعضهم البعض. في رباط الوحدّة هذا تشعر الرعية بحضور الروح "المُعزي" فيها فتواصِل مسيرة الإيمان واثقة من أن رجاءها لن يخيبَ. محبة مُعزية وقت الضيق والشّدة والإضطهاد، ومن دون هذا العزاء يكون التواصل صعباً.

قلبُ الراعي الصالح يعرِف أننا نعيش في عالمٍ تتعارض فيه الحُريات وتتضاربُ فيه المصالح، وكثيراً ما يتركنا مجروحين أو حزانى أو منعزلين نبكي أحوالنا ولا مُعزٍ لنا. نلتقي في حياتنا مراراً بأشخاص حزانى أو مُضطهدين أو مرضى بحاجة إلى مَن يُشجعهم في محنتهم. أُناس مجروحون في قلوبهم ويشعرون بأنهم مُستغلوَن ومُستهلَكونَ من قبل الآخرين. بعضهم حزينٌ بسبب خطاياه وأخطاء الماضي الذي حبَسَ نفسهُ فيه. والمحبّة التي نحملها في قلوبنا تُلزمنا أن نقترِب منهم لا لدينونتهم أو مُعاتبتهم بل للتخفيف من ألمِ جروحاتهم حتّى لو "أصغينا" فقط إلى معاناتهم، ففي ذلك عمل رحمةٍ روحي مُتميّز: تعزية الحزانئ.

مهمّة الراعي الصالح هي  أن يكونَ إلى جانبِ رعيتِه حيثما هم، ويُعاملهُم بالمحبة والعدالة والرحمة، فيكون أكثر قُرباً لمَن هم في حاجةٍ إلى تشجيع وتعزية. إلهنا ملكنا دعا موسى وقال له: "إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه" (خر 3: 7)، وهكذا قادهم، ومن خلال موسى إلى أرضٍ تدرُّ لبناً وعسلاً، إلى مراعٍ خضراء، وعادَ وقادهم خارج أسرِ بابل، ثم قادنا إلى الكنيسة بيسوع المسيح، الراعي الصالح. لقد نادّى بلسان إشعيا بعد أسرِ بابل: "عزو عزو شعبي ..." (إش 40: 1)، فهو عازمُ على أن يحمل على ذراعية مُطمئناً إياهم: "لا تخافوا" (إش 41: 31)، لأنه قرر أن يكون مع شعبه: عمانوئيل، بل يقودهم كراعٍ صالحٍ، مؤكداً لهم محبتهُ، وقيمةً كل واحدٍ منهم: "أنت عزيزٌ على قلبِ الله، هو يعرفُك بالأسم، وحفرَ إسمك على راحة يديهِ". فالراعي حاضرٌ مع رعيتّه ليقودها إلى حياة أفضل، ويهبَ لها الدعم لمواصلة المسيرة فلا تُحبَط القلوب وقت الضيقِ والاضطهادات. ولأن "العزاء" حاجةٌ إنسانية كبيرة دُعيَّ حضور الله بالروح القدس بيننا: فارقليط، "الروح المُعزي"، ليرافقنا في مسيرة حياتنا الإيمانية والإنسانية لاسيما في أوقات الشّدة مُقدمين "حُزننا وآلامنا" لربنا يسوع الذي أُهينَ وعُذّب وسلّم حياتهُ كلّها بين يدي الله الآب، مؤكداً لنا أن كل هذه العذابات والألم ستؤولُ لخيرنا ولخلاصنا إن عرفنا أن نُسلَّم لله الآب حياتنا كلّها.

"تعزية الحزانى" عملٌ رحمة روحي وخدمةُ محبّة اجتهدت الكنيسة منذ بدءِ مسيرتها أن تعززها وتثبُتها في الجماعة. فقد كانت الجماعة مرفوضة ومُضطهَدة فكانوا يُعزون واحدهم الآخر بمواقفَ مُحِبّة، مؤمنين أن زمن الضيق سينتهي وسيكون للرعيّة فرحٌ بقدوم الراعي الذي جاء يطلبُهم ويهبُ لهم الآمان. لقد عزوا بعضهم البعض من خلال الإنتباه بالمسكين والضعيف والخاطئ والإهتمام بهم بمحبةٍ وحزمٍ. واصلوا الصلاة حتّى في أوقات شعروا أنهم يتحملون الصليب وحدهم، حتّى إكتشفوا أنهم "تغلبوا على اليأس وإنتصروا على الشرّ" لأن الله كان يحمل الصليب معهم.

"تعزية الحزانى" تبدأ بالصلاة لأجلهم لكي لا يفقدوا الإيمان، وبالحضور معهم لئلا يغلبُهم الغضبُ الداخلي  فيفقدوا الرجاء، وبمرافقتهم لئلا يسقطوا من جراء الخوف والتعب. ففي قلبِ كلَّ منّا "حُزنٌ وغضبٌ" إزاء الكثير من الخبرات الإنسانية، ولكن العزاء الذي يُريدنا ربنا يسوع أن نُقدمه هو "لكل مَن هو حزين من الله"، فهذا الحُزن هو الذي يجعلنا نبتعد عنه. حُزن من الله لأنه لم يستجبِ لصلاةٍ قدّمناه له، أو لم يمنح لنا ما رغبناه، أو لأنه فرّقنا عن إنسانٍ نعزّه، أو لأننا خسرنا صديقاً أو حاجةً أو علاقةً ... رغبات تمنيناها منذ سنوات ونعتقد أنها كانت لخيرنا ولكنها لم تتحقق، فخلّفت حُزناً وتركت في قلوبنا غضباً مكبوتاً من الله.

لذا، تدعونا أمنا الكنيسة اليوم، ونحن نستعد للدخول إلى أورشليم خلفَ راعينا الصالح، أن نترَك هذا الغضب جانباً ونحرر من حُزننا هذا ونلتفت إليه، هو الذي يتقدمنا على الطريق حاملاً الصليب محبّة بنا وطاعة لله الآب، مع أنه صلّى: "إن كان ممكناً أن تعبر عنّي هذه الكأس". النظر إلى الوراء سيجعلنا أشبه بعمود ملحٍ على مثال زوجةٍ لوط، ويحولّنا غضبنا وحُزننا الداخلي إلى "أشخاص" قساة تجاه الحياة وتجاه والآخرين. لذا، تأتينا كلمة الربّ اليوم لنتقوّى للتحرر من هذا الغضب وتُعزينا في حُزننا ونتشجّع ونقول: لتكن إرادتُك ومشيئتُك، فأنت أبي المُحِب وتعرف ما هو الخير لي، علّمني أن أثقَ بك يا ربّ". 

 

 

الأحد الخامس من الصوم

أعمال الرحمّة: غفران الإساءات والإهانات (يو 7: 37- 53)

شهدِت علاقة ربّنا يسوع برؤساء الكهنة والفريسيون جدالات كثيرة، وخالفوهُ الرأي والرؤية في مناسباتٍ عديدة، وعارضوه فيما كان يقول ويعمل، وكانوا ينتظرون الفرصة للإيقاع به، لأنه بشّر بحبِ الله المجاني والذي يدعو الخطأة للتوبة والتقرّب إليه. وقفَ في آخر أيام عيد المظال يدعو الناس إلى المجيء إليه وقبول محّبة الله الغافِرة لأنه يعرِف أن فيهم عطشاً إلى المحبّة الغافرة، دعاهم ليشربوهُ وينسلَ فيهم فيحيوا به.

أعترض رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والكتبة والفريسيون على هذه البُشرى، لأنهم كانوا يؤمنونَ، وعلّموا الناس، أن عليهم أن يجتهدوا ليرضّى الله عنهم، وأن عليهم أن يجتهدوا ليستحقوا هذه المحبة. ويجب أن يُطبقوا كل ما أمرت به الشريعة وأوصى به الآباء، أمّا ربّنا يسوع فكان يُعلمّ أن محبّة الله هي التي تجعلنا صالحين، وهي محبّة غافِرة حتّى لمَن عارضهُ، فحين أرادَ رؤساء الكهنة والفريسيون إنهاء علاقتهم بربّنا يسوع بالحكم عليه بالموت مُهاناً على الصليب، باركها هو بفعل الغفران التام: "أيها الآب إغفر لهم لأنهم لا يعرفون ما يفعلون" (لو 23: 34). فغفران الإساءة والخطايا كان في صُلبِ رسالة يسوع فهي أولى ثمار المحبّة وهي التي تجعل التوبة ممكنة: "عُد فالآب المُحِب ينتظرُك".

جميعنا يشعر بحالةٍ من الضيق إذا أساءَ إلى شخصٍ أو أهانهُ، ونرغبُ التأسفُ له وطلبَ غفرانهِ، وحتّى لو غفرَ لنا، نشعر بالإنزعاج من "شخصنا" الذي اقترفَ مثل هذه الإساءة، مثلما نشعرُ بالإرتياح عندما يغفر لنا أحدهم إساءتنا له. هو شعور بالتحرر والإنعتاق، لذا، يُعد غفران الإساءة عمل مًميّز من أعمال المحبّة الروحية، لأننا نكون على مثال إلهنا وخالقنا غافرين للقريب إساءتهِ، ومانحينَ له فرصة البدءِ من جديد، من دون أن يُؤدي حساباً عن إهانتهِ لنا. لذا، يصرخُ المُزمّر قائلاً: "طوبى لِمَن مَعصِيَته غُفِرَت وخَطيئَته سُتِرَت. طوبى لِمَن لا يَحسُبُ علَيه الرَّبّ" (32: 1-2)، هو يعرِف جيدّا عظمةَ هذا الشعور المُفرِح في نفس ِالإنسان. فالربُّ بمحبتهِ يغفِر للإنسان معاصيهِ وخطاياهُ فيتجلّى "قدوساً"، وهو يُريد من الإنسان أن يكون مثلهُ "قدوس ورحيمٌ، فلولا هذه المحبة الرحومة والغافرة ما كان للإنسان أن يحيا، هكذا، لن يكون بإمكان الإنسان من مواصلة العيش من دون الغفران.

ربّنا يسوع واجهَ عداوةً من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين، ولكنه لم يسمح لهذه العداوة أن تُفسَد نقاوةً قلبهِ مع قسوتها وجدّيتها. لذلك علّم الرُسل والكنيسة الرأفة الغفران، فلن تصحَ صلاةٌ إلى الله إذا لم تكن تعبيراً عن حقيقةَ علاقاتنا بالقريب: "أغفر لنا خطايانا كما نحن أيضاً نغفرُ لمَن أخطأ إلينا" (متّى 6: 12). فالغفران ليس هو "عطيّة" نأسرُ به القريب مُذكرينَ إياهُ ببشاعة ما صنعهُ لنا، بل جوابُ شُكرٍ لله الذي يغفِر لنا سوءَ نوايانا ويرغبُ دوما ًفي إنارة "ظُلمةِ قلوبنا" وقسوةَ مشاعرنا التي نتعَب في كبتها لئلا تتشوّه صورتنا أمام الآخرين، والله عالمٌ بهذا كلّه، ويُؤكِد لنا الغفران يومياً، وينتظِر منّا "أن نغفِر للآخرين" الإهانات والإساءات.

فمَن هو "العطشان" الذي يُناديهِ اليومُ ربّنا يسوع ليأتي ويشَرب لتكونَ له الحياة؟

هو الإنسان الذي جفَّ قلبهُ ويختبِر يبوسةً روحيةً تمنعهُ من الإنفتاح لكلمة الله التي يمنحها الآب نعمةً بيسوع المسيح. هو الإنسان الذي "حبسَ" نفسهُ في أزماتٍ ومشاكلَ وخطايا نسيها الله ولكنه، أي الإنسان العطشان" يسعى لأن تكون حاضرةً أمامهُ كلَّ حينَ لأنه لم يتقبل غفران الله له. هو إنسان لم يتمكّن بعدُ من أن يغفِر لنفسهِ "هفوات" الماضي وأخطائهِ. هو إنسان "توقفتّ" فيه الحياة لم يعد مُبدعاً مثلما يجب أن يكون لأن مشاعرهُ أضحتَ سلبيةً ومُدمرّة مثل "السرطان" الذي يبدأ بالإنتشار في جسمِ الإنسان من خلال إفساد الخلايا الحيوية. العطشان هو إنسان جفّت فيه المشاعَر ولم يعد يتحسس لحضور الله ولن يُميّز علامات الملكوت.

ينادي ربنا يسوع اليوم: "مَن كان عطشان فليأتِ إليَّ. ربنا يطلبُ منّا أن نقدّم له عطشنا ليرويهِ. يُريدنا أن نؤمنَ بهِ، فلا نُقسيَّ قلوبنا ولا نتركها تتآكل بمشاعر الغضب والرغبة في الإنتقام من الآخرين الذي أساءَ إلينا(عبر 3: 15)، بل نُقبلُ إليه تاركينَ همومنا وقلقنا مؤمنينَ أنه قادرٌ على تغيير حياتنا. هذه هي رغبةُ الله، إنه يُريد شِركتنا، فالله عطشانٌ إلى مَن هو عطشان إليه حسب تعبير القديس غريغوريوس النزينزي. ففي الله شوقٌ نحو الإنسان، وفي قلبِ الإنسان عطشٌ لن يرويهُ إلا الله.

سألواَ السيد باري والسيدة ماركريت عن الدافع الذي جعلهم يغفرون لقاتل إبنهم جيمي سنة 2008، فأجابت الأم: "الغفران يعني إنني لن أنتظرُ الإنتقام ولن أغضبَ، فلقد تحطّمَ هذا البيت بسبب مقتل جيمي ولن أسمح بأن يتواصل التدمير، يجب إيقاف ذلك".

الكنيسة تدعونا ونحن تجاوزنا منتصف الصوم لأن نترُك، والى الإبد، كل الإساءات التي تألمنا بسببها حتّى نتأهل للسير خلّف ربّنا يسوع في صعودهِ إلى أورشليم. نحن مدعوون من خلال الصوم لأن "نتخلّى عن ما يأسُرنا"، وغضبُنا "خطيئةٌ تُجفف منابع الحياة فينا، وتجعل اللقاء بالمسيح يسوع صعباً والالتصاقَ به مُستحيلاً فنحن لسنا قادرينَ على الوصول إليه مع هذه الإرتباطات. حياتنا جفّت من جراء "خطايانا" المتنوعةَ في أشكالها، خطايا تجاه الله وتجاه القريب وتجاه أنفسنا. فصرنا كآبين وحزانى ومهمومينَ بأمورٍ شتّى.

ربّنا يدعونا لأن نشربهُ، ليملئ شقوق حياتنا ماءَ الحياة لتكون مُستعدة لقبوله فتُثمرُ محبة وطيبةَ وسلاماً. ربّنا هو الماءُ الحي الذي ينساب في حياتنا ليُحيّ كلَّ ما هو ميّتُ وجافٌ فينا. لم يـأتِ ليدينَ بل ليبعثَ الحياة من جديد في أرضِ حياتنا الجافّة، فنكونَ على مثال القديسين، واحاتِ إستراحةٍ لكل مَن يبحث عن الحياة ولا يجدها، وتاريخُ الكنيسة يشهد لحياة قديسين قبلوا دعوةَ ربّنا يسوع فالتصقوا بهِ، فكان كلُّ مَن يلتقيهم يكتشِف فيهم فرحَ حضورَ المسيح يسوع شخصياً.

 

الخامس من الصوم

الأحد الرابع من الصوم

أعمال الرحمة: تحمّل الأخطاء بصبرٍ (متى 21: 23- 32)

سأل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب ربّنا يسوع عن السُلطان الذي به يُعلَّم ويتحدّى سُلطانهم الذي نالوه بوضعِ اليد، فسألهم عن إرسالية يوحنّا ومصدرها، ولم يُجيبوه صراحةً، لا عن جهلٍ بالأمرِ بل عن خوفٍ وقسوة قلبٍ. عند ذاك، واجههم بالحقيقة وهي: أنكم خطأة وقُساة القلب، لأنّكم، ومع معرفتِكم بالحقيقة، إلا أنكم تخشونَ قولَها والإعتراف بها لئّلا تُطالبُكم بالتوبة. حياة الإنسان تشهدُ لإيمانهِ، وإذا كان يوحنا المعمذان وغيره من الأنبياء يسعون لتمجيد الله الخالِق وتشهد لهم حياتهم، فليسوا بحاجةٍ إلى تعريف الناس بالسلطان الذي لهم: يكفي أنهم يطلبون المجد لله لا لأنفسهم، وهو ما يفعلهُ ربّنا يسوع. جدالهُ وحواره مع رؤساء الكهنة كشفَ عن نوايا قلوبهم وفضحّ أفكارهم: هم سألوه ليُحرجوه ويُمسكوا عليه مأخذاً ليُحاكموه أما هو فسألهم ليُواجهوا الحقيقة مثلما هي لا مثلما يُريدون أن تكون، حقيقةٌ يسعونَ إلى إخفائها، ومن ثمة يتوبوا وينعموا بغفران الله. في موقفهم هذا إنكشفوا على أنهم ليسوا جديرين بأن يكونوا معلمي وقادة للشعب، لأنهم مستعدون لأن يكذبوا على الله وعلى أنفسهم وعلى الآخرين حفاظاً على "مناصبهم" وخوفا من الحقيقة.

ثم روى لهم مثلاً وقدّم تعليماً عن الآب السماوي الذي يتحمّل بصبرٍ رفض الناس وخطاياهم. بعضهُم يستيقظ على حقيقة علاقتهِ وبُعدهِ عن الله (خطاياه) كما حصلَ مع الآبن الأول ومع العشارين والزواني، وغيرهم يواصِل العناد بل يقسوَ أكثر من ذي قبلِ على الرغم من تنبيهات الله له. محبّة الآب جعلتهُ يتحمّل عصيان إبنهِ فلم يُعاقبهُ لمخالفتهِ آوامره، ولم ينزَع عنه إمتيّاز البنّوة، بل تركهُ وأعطاه المُهلَةَ ليُفكّر ويعودَ إلى رُشده نادماً على ما قالهُ لأبيه: لا أُريد. تابَ مثلما تابَ العشارون والزواني الذين كانوا مٌحتقَرينَ من قبل الجميع، وعادوا إلى الله الآب الذي يُحبُهم. تعليمُ ربّنا يسوع كان يُشير بوضوح إلى موقفِ الله إزاء مواقف الإنسان. هو نفسهُ ربّنا يسوع نفسه، تحمّل بصبرٍ صفعةَ حرسِ رئيس الأحبار وتحدّاه ليُشيرَ إليه أين الخطأ في ما قالهُ في وجه رئيس الأحبار، ولم يُجيب على سؤالهِ. غضبهُ وحماسهُ لصالحِ رؤسائه جعلهُ يُخطأ التصرّف، لكن صبرَ ربّنا أدخلهُ إلى ظُلمتهِ الداخلية وكشفَ له: "أنّك على خطأ". صبرهُ لم يكن يعني التغاضي عن خطايانا، بل منحهُ فرصة ثانية وثالثة للعودة إليه، حتّى يومِ الحساب وفيه يُجازينا بحسب تجاوبنا مع محبتهِ.

كثيرة هي المرّات التي قُلنا فيها "نعم" لدعوتنا المسيحية، ولكننا لم نشهدَ لهذه الـ"نعم" واقعاً في حياتنا، فأخطأنا شاهدةٌ على أننا بعيدون عن الله فكراً وقلباً، بل ترانا نعيش حياتنا وكأننا لسنا بحاجةٍ إلى الله: "هذا هو الوارث تعالوا نقتلهُ ليكونَ لنا الميراث". ولكن الله، وبمحبتهِ التي تصبُر علينا وتتحمّل خطايانا يفتح أبواب التوبة من جديد أمامنا للعودة إليه، ويُعيننا في أن نُكمِل إلتزامات هذه الـ"نعم" بذات الحُب الذي أحبنا به. لذا، تدعونا أمنّا الكنيسة لأن نتشبّه بأبينا السماوي والذي تألمَ مراراً من رفض الإنسان له، ولكنه تحمّلهُ بصبرٍ مُحِب. لقد كشفَ ومن خلال أنبيائه في العهد القديم عن "آلمهِ" إزاء خطيئة الإنسان وعن قرارِ ترِكَ الإنسان، لأن محبتهُ وقداستهُ تجعلهُ أميناً على الوعدِ الذي قطعهُ على نفسه حتّى لو لم يكن الإنسان، شريكهُ في العهد، أميناً، والسبب هو كما يقول هوشع: "لأني أنا الله ولستُ الإنسان" (هو 11:9). إلهُ رحيمٌ ورؤوفٌ طويلٌ الآناة كثير المراحِم والرحمة، ويحفظُ الرحمة لألوفٍ ويغفرُ الذنبَ والمعصية والخطيئة". هذا الصبر ليس "رُخصة" لمواصلة الخطيئة، بل دعوةٌ للتوبة" (يوئيل 2: 12)، ويومَ يتوبُ الخاطئ يخلُص وتنالَ الخليقة مجدها كما حصلَ مع يونان في نينوى.

لذا، وتشبهاً بالله المحبة والرحمة والحنان والرأفة، تُعلّم الكنيسة أن تَحمُّل خطايا الناس وأخطائهم هو أحد أعمال المحبّة الروحية، إذ فيه، نوجّه أنظارنا إلى الخير والإحسان الذي في قلبِ الخاطئ ونتجاوز خطاياهُ وهفواتهِ، مؤمنين أن الله خلقهُ إنساناً صالحاً مع أنه يُخطأ المسيرة دوماً. تماماً مثلما نفعل نحن أيضاً. ففي تحمل خطايا الآخرين بصبرِ نعمل، وبمعية الروح القُدس الذي فينا، لنُسيطر على غضبنا ونتحّكم في مشاعرنا، ولن نسمحَ، وعلى مثال الله الآب، لخطايا الآخرين أن تُسيّر قراراتنا، بل نعمل على أن نُعطي لهم الفرصة الثانية والثالثة ليعودوا إلى رُشدهِم ويستيقظوا من غفلتهِم ويتوبَوا عن خطاياهُم.

ربّنا يسوع المسيح، وكما سمعنا من الإنجيل، أصغى إلى أسئلة رؤساء الكهنة، وإستمعَ إلى جدالات الفريسيين، وواجهُ كذبهم وزيفهم، وتحمّلهم لكي يفهموا ويتوبواً، وهذا لأنه أحبهُم وأرادَ أن يُصغوا إليه ويفتحوا أبواب قلوبهم له. علّم رُسلهُ، وعلمّنا، أن نكون على مثالهِ "صبورين" إذا لم نجد ثمار الخير في الآخر. العملُ مع الخاطئ ليتوبَ ويُثمر خيراً وصلاحاً صارَ شهادة على إيماننا، مثلما فعل الفلاح مع ربّ الكرمة (لو 13: 6- 9). علينا أن نصبرُ ونتحمّل رفض الناس فلا نُسرِع إلى الإنتقام غضباً مثلما طلبَ الرُسل منه (لوقا 9: 55). الغضبُ أو الإنسحاب من العلاقة أو الحوار ليس الحل الأمثل في مثل هذه المواقف، بل المحبة التي تتفهم خطيئة الآخر وأخطائه، وتسمح له بالعودة.

بُشرى الإنجيل اليوم هي: أن الله الآب لا يتأثر برفضنا التجاوبَ مع محبتهِ، وبتكاسُلنا من الإلتزام بكل ما تتطلّبهُ دعوتنا المسيحية. إلهنا لن يتخلّى عنّا حتّى لو ابتعدنا عنه في خطايانا. إلهنا، ولأنه الآب المُحب الرحوم والطويل الآناة ينتظرنا لنتوبَ إليه. هو لم يُوبخ الابنَ على جوابهِ: "لا"، ولم ينزع عنه صفة البنوة، بل يتوجّه بالدعوةِ نحو الآخر منتظراً جوابَ الشفاه والقلب معاً: "نعمٌ أمينةٌ" لأن الله كان أميناً معنا طوال المسيرة.

فالإيمان بالله لا يعني الإعترافَ به رباً وخالقاً فحسب، بل التمثلُ به، هو الرحيم والطويل الآناة والمُحبِ، فهذه هي دعوة الربّ لنا: "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم. اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم، لأَنَّ نِيري لَطيفٌ وحِملي خَفيف" (متّى 11: 28- 30). 

 

 

الرابع من الصوم

الأحد الثالث من الصوم

أعمال الرحمة الروحية: تعليم الجاهل  (متى 20: 17 – 34)

تقدّمت أم إبني زبدى من ربّنا يسوع لتطلبَ منه مكانةً متميزة لأبنيها اللذان رافقاه منذ بدءِ رسالته، وكانا، مع بُطرس، شهوداً لمواقف متميّزة في حياته. سمِعَ لها ربّنا وعرِف أنهما وراء طلبها، فلم يُجيبها بل واجههما بالحقيقة: "أنتما جاهلان"، وكان جهلهما فرصة للتعليم. علّمهم بمحبةٍ ولطف وصراحة على أنهم يجهلان أموراً كثيرة: "لا تعلما ما تطلبان"، وجهلهُم كان فرصة للتعليم، لتعليمهما أولاً وتعليم الرُسل أيضاً، لكي لا يجعلوا من "ميولهم وطموحاتهِم" آلهةً تُعبَد. علّمهم: كيف لهم أن يسيروا طريق التباعة خلفهُ؟ وما طبيعة الحياة التي عليهم أن يلتزموا بها؟ هو طريق حافلٌ بالألم والإضطهاد، وعليهم تحمّله وإنتظار الله دوماً. أرادَ ربّنا يسوع في تعليمهِ لهما، وللرسل وللكنيسة كلّها، أن يُحررهم من هذه الميول الطموحةِ وتلكَ الشهوات التي تزرعُ الفرقة بين الجماعة (الكنيسة)، وعليهم أن يتعلّموا كيف يسودُها لا لتسودهم، من أجل بناء كنيسة الخدمة، أي جماعة لا تُزاحم الآخرين ولا تتسابق على المناصب والأمكنة المتميزة مثلما يحصل في العالم. خدمةٌ من دونِ إمتيازات ولا ينتظر منها المؤمنُ مكافآت، بل كشفَ لهم من على صليبهِ لمَن سيكون مكانُ اليمين واليسار: لصانّ سرقَ أحدهما الملكوت في الساعة الأخيرة، فعلى الجميع أن يتبعاه في طاعة الإيمان، مثلما أطاعَ هو الله الآب.  

"علّمهم" وعلّم تلاميذه (ونحن أيضا) على مثالِ الله الآب الذي رافق شعبهُ أباً ومدبراً ومعلماً. إلهنا وخالقنا عبّر عن محبتهِ لشعبهِ عندما كتبَ بإصبعهِ الكلمات العشر (التوارة) وعلّمهم كيف لهم أن يعيشوا دعوتهمُ، فكان هو المعلم الأول لا لأجل تعليم مُجرّد بل لأنه عاشَ هذا التعليم أولاً. ربنا يسوع لم يكن مُعلماً مثل باقي المعلمين بل كان هو التعليم الحيّ، فهو لم يسرد للشعب "توارة الله"، بل كان هو نفسه "توارة حيّة". وعندما حانت ساعةُ رحليهِ وعدنا بأن يُرسِلَ لنا الروح القُدس ليكون لنا مُعلماً للحقيقة (يو 16: 3)، والروح الُقدس يهبُ لنا موهبة الحكمة والفهم والمعرفة. فالتعليم عملٌ من أعمال الرحمةِ الروحية، ففيهُ نقومُ ببناء الإنسان وتحريره من سطوّة ميوله وشهواته وطموحاتهِ، وتسليحهِ بكل ما يلزمهُ ليعيش إيمانهُ المسيحي ويُعطي جواباً يُميّزه عن غيره من الناس.

ففي حياة كل إنسان ميول وطموحات يُريد أن تُكمَل، رّبنا تعرّف سمِعَ طموحاتِ إثنين من تلاميذه، وهي طموحاتنا جميعاً أيضاً: أن نكون في المراتب والمكانات المتميزة، وإذا لم يحظى الإنسان بمعلّمٍ مسيحي صادِق سيضيّع في عالمٍ تتضاربُ فيه القيم، ولن يعرف إلى أين يكون التوجّه. طموحُ إبني زبدى في الحصول على مراكز متميزة أثارَ غضبَ التلاميذ وزرع بينهم بذور التفرقة والتي كانت ستقودهم إلى الفرقة والخصومة والعداوة، لولا وجود المُعلّم، ربّنا يسوع المسيح، بينهم، والذي علّمهم أن من حق كل مسيحي أن يكون طموحاً، ولكن الطريق لتحقيق هذه الطموحات سيكون من خلال الخدمة، وأن يجعل هذا الطموح في خدمة الجماعة التي يعيش معهم وبينهم.

لذا، فتعليم الجاهل، والتعليم المسيحي مسؤولية عظيمة إذ فيها ومن خلالها يتم تربية وتنشئة ميولنا وطموحاتنا البشرية لتكون متوافقة وإيماننا المسيحي. هذه التربية وهذه التنشئة لا تقصد إلغاءَ هذه الطموحات أو تحريمها، بل توجيهها لتكون في خدمة بشارة ربّنا يسوع. لذلك، تكون مسؤولية التعليم المسيحي مسؤولية جدّية فمن دونها يُمكن للإنسان أن يتبع هذه الطموحات الإنسانية فيسير في طُرق لا تقوده إلى الله. التعليم المسيحي ليس مهمّة كنسية فحسب، بل تعبيرٌ صادقٌ عن محبتنا للقريب الذي نُريد له كل الخير فنرغب في تعليمه ليتجنّب الطُرق المُتعبة والشاقة، ويتعلّم السير في طرق تفتح له أبواب الحياة مُشرّعة من خلال عيش الفضائل المسيحية فيشّع الخير الذي فيه مُستفيداً من خبرة الكنيسة، لأن الكنيسة تبقى مثلما تُحِب أن تُقدم نفسها: أم ومعلمة.

هنا، نؤكد على عظمة رسالة الأب والأم في أن يكونوا "مُعلمين" صادقين لأبنائهم. فهم المعلمون الأوائل، وتعليم لن يكون بتقديم النصائح والإرشادات، بل بالنموذج والمثال الصالِح. هذا التعليم يتطلّب محبّة مُضاعفة لها إستعداد أن تجتهِد وتتعلّم وتتألمَ من أجل مَن تُحبُهم. تُصلي وتقرأ وتبحث في الكتُب من أجل أن تتعلّم قبل أن تُعلِم، وتُبَشَر قبل أن تشرع بتوجيه الإرشادات والتعليمات. محبةٌ لها القُدرة لأن تُثبّت "المُعلّم" في مسعاه الخيّر هذا، لأنه إنسان وأُعطي له أن يكون ذا سُلطان، وهو بذلك يواجه تحدياً آخر، أن يُعلَّم مثلما علّم يسوع، فلا يستغَل مَن يُعلمهم، بل يخدُمهم. لذا، جعلت الكنيسة من "التعليم" عملاً من أعمال الرحمة الروحية، إذ فيه يتحّدى المُعلم "شياطينَ عديدة"، ويفتح الباب رحباً ليكون رحوماً مرتين: مرّة تجاه ذاتهِ فُيعلمّها لتضبُطَ أفكارها فتكون أفكارُ المسيح، ومرة تجاه القريب الجاهِل إذ تُعلّمه كيف له أن يضبُط أفكاره لتكون مع أفكارِ المسيح يسوع. 

 

الثالث من الصوم

الأحد الثاني من الصوم

أعمال الرحمة الروحية: "نُصح الخاطئ" (متى 7: 15- 27)

الكنيسة، شعبُ الله بحاجةٍ إلى أنبياء صادقينَ، أي كلُّ مَن يعيش إيمانهُ في شهادة حياةٍ صادقةٍ، فيكون شجرة مُخضّرة ومُثمرة في نفسِ الوقت، ويُصبح بنعمةِ الله قديساً، بنى بيتهُ على صخرِة الإيمان، عاملاً كلَّ شيءٍ لمجد الله. ففي زمن الصوم المُبارِك هذا، تدعونا أمنّا الكنيسة لنفحصَ ضمائرنا بنزاهةٍ وصدقٍ أمام الله، لئّلا نكون أولئكِ الأنبياء الكذبة، الذين لم يعملوا لبُنيان الكنيسة لتكونَ شعبَ الله، بل كانوا يطمحون إلى بُنيان اسمهم ومكانتهم وإمتيازاتهم.

ما تميّز به الأنبياء الكذابون في العهد القديم هو عدم قول الحقيقةِ، ومجاملاتهم أمام الملوك خوفاً أو طمعاً بمكسبٍ أو بإمتيازٍ. هم عاينوا الخطيئة ولم يفضحوها. سكتوا على الظلم وعلى قول الحق. فلنتأمل اليوم في أحد أعمال الرحمة الروحية وهي: "نُصحُ الخاطئ" وإرشاده إلى الحقيقة ليستيقظ من غفوته ويتوب إلى الله، فنكون أنبياء صادقينَ.

ربّنا منعنا من أن ندينَ الآخرين، أي من تجربة الجلوس على كرسي الحُكم وإرسال الناس إلى الهلاك الأبدي، ففي ذلك نُزيحُ الله ونُنصبَ أنفسنا آلهةً تقضي بين الناس. لكنّه قال: "إن أخطأ إليكَ أخوكَ فأذهب وعاتبهُ بينك وبينهُ" (متّى 18: 15). وعادَ بولس وأكّد على ضرورة هذا السلوك عندما خاطبَ كنيسة غلاطية قائلاً:  "أيُّها الإِخوَة، إِن وَقعَ أَحَدٌ في فَخِّ الخَطيئَة، فأَصلِحوه أَنتُمُ الرُّوحِيِّينَ بِروحِ الوَداعة" (غلا 6: 1).

إلهنا أولَ مَن مارسَ عمل الرحمة الروحي هذا، فهو لم يقبل بما عمله داود الملك، فأرسلَ إليه النبي ناثان ليُعرفّه بخطيئتهِ. لم يهب النبي قوّة الملك وبطشه بل عرّفهُ بجسامة الخطيئة التي اقترفها. ولم يحلو لله الآب أن يرى خطيئة أهل نينوى الوثنية فأرسل لهم يونان ليُوقظهم على الرغم من إعتراضات النبي. وتحدّى ربّنا يسوع الجميع عندما أحضروا له المرأة الزانية، فخزيوا من سؤالهِ، ولكنه وجّه المرأة لتنظر بصدقٍ إلى حياتها، ووهبَ له حياة جديدة عندما غفرَ لها خطاياها، وبعثها من جديد. نظر إليها بإحترام ومحبةٍ صادقة وصبرٍ مثلما يراها الله. إلهنا خلقنا على صورتهِ ونفخَ فينا نسمةَ الحياة، فلا يُمكن للخطيئة أن تُدمّر توجه الخير الذي فينا، لذا، يبعث أنبيائهُ وهم بشرٌ مثلنا، ليواجهوا الخطيئة مثلما هي من دون مجاملاتٍ.

لربما نتردد في ممارسة هذه الخدمة خوفاً أو خجلاً من أنفسنا لأننا عارفون بجسامةِ أخطائنا والتي تمنعنا من نُصحِ الآخرين؟ هذا الخجل هو البداية الصحيحة للكون نبياً صادقاً، فأنا لا أدين القريب، بل أُشعرهُ بفظاعة الخطيئة لأني أختبرها شخصياً مُصغياً لعمل الروح القدس في قلبي الذي يُشعرني بجسامتها.

إلهنا يُريدنا أن نكون حُراساً امناء على إخوتنا لاسيما إن إبتعدوا عنه وراحوا يبحثون عن السعادة في غير مكانها الصحيح. مساعدة الأخ في التحرر من الخطيئة والعودة إلى الطريق الصحيح، عملٌ من أعمال الرحمة الروحية، مع وعينا لصعوبة هذه المهمّة لأننا نعيش في وقتٍ لا نقبل فيه إنتقادات الآخرين، بل نخاف قولَ الحقيقة لئّلا نخسر علاقتنا بهذا أو ذاك، ونُجامِل مراراً على حساب الحقيقة. وهكذا، ترانا نقبلُ بواقع الشر والخطيئة ونتكيّف معه.

طلبَ ربّنا يسوع منّا أن نقومَ بنُصحِ الأخ الخاطيء وأن نقوم بعمل الرحمة هذا بمحبّة وتواضعٌ، وذلك من خلال الحديث إليه بسريّة فلا يشعر بحرجٍ، فنحافِظ على شرف إسمه وكرامته بين الناس، ونُحدّثهُ بلطفٍ وصبرٍ لأننا نُحبهُ هو، على الرغم من أننا نكره خطاياهُ. محبتنا له تدفعنا لأن نعاتبهُ ونوبخهُ إن تطلّبَ الأمرُ، وإن لم ينفع معه الأمر، نطلبُ مساعدة الكنيسة، وإن لم يسمع نُصلي من أجله. هذا الموقف، نابعٌ من محبتنا للقريب والتي تجعلنا نتمنّى له الخير دوما ونعمل ليتحقق هذا الخير. محبتي للآخر تعني أن أتمنّى له الخير، وأن أعمل على أن يسير في طريق الخير دوماً، فلا يخطو خطواتٍ تقودهُ إلى الخطيئة والهلاك، ولا يسير في طريق الخاطئين، ولا يُجالس الأثمةَ، بل، أحرص، وبروح متواضعةٍ من دونٍ تكبّرٍ أو تعالٍ أن أكون له الرفيق والصديق الحق. وهكذا نُؤسس كنيسة المسيح المبنية على محبة الأخوة المُتبادّلة، وسعيهم لبٌنيان واحدهم الآخر.

ممارسة هذه الخدمة تُجنبُنا الكثير من الخطايا أولها "السُخط والغضب". فعندما نلحظُ أن أحدُهم يُخطأ إلى الله أو إلى القريب، نستاءُ ونغضبُ من حالتهِ الخاطئةِ، ونشعر برغبةٍ شديدة في مواجهتهِ ومعاقبتهِ ولربما وإهانتهِ ليكونَ عبرةً لغيره، وفي ذلك نُهينُ كرامتهُ كإنسان. نحن مدعوون لأن نكون مثل الله أبينا، نُحبُ الخاطئ ونكره الخطيئة. ولكن، عندما لا نواجهُ بخطيئتهِ صراحة، يدفعنا المُجرّب إلى إهانتهِ عن طريق الحديثُ عنهُ في غيابهِ فنسقط في خطيئة أخرى وهي "خطيئة الثرثرة" وبث الإشاعات عنهُ، وهذه نميمةٌ وأغتيابٌ، واللسان على صُغرهِ نارٌ قاتلةٌ  (يع 3: 5- 12). والبابا فرنسيس يُسميها "إرهابُ الثرثرة". فعندما نمارس عمل الرحمة الروحي هذا فنحن نعيش مسؤولية "الأخوة" التي أنعمَ الله بها علينا عندما جمعنا بمحبتهِ إخوة وأخوات في كنيستهِ. 

الثاني من الصوم

الأحد الأول من الصوم الكبير 

"لا تُجّرب الربَّ إلهُك" (متى 3: 16 – 4: 11)

نبدأ اليوم زمناً طقسياً مُباركاً تدعونا فيه أمنا الكنيسة أن نستعد للسير خلف ربّنا يسوع المسيح وهو يدخلُ سر آلامهِ وموتهِ طاعةً لله الآب ومحبةً بنا نحنُ الخطأة. يتقدّمنا ربنا في هذا الطريق حاملاً صليبهُ ويدعونا لنتشجّع نحن أيضاً لنحمل صليبَ التخلّص من خطيئتنا التي تأسُرنا وتُبعدنا عن محبّة الآب، فنقاوم بمعونة روحهِ القُدوس إغراءات المُجرّب التي تُريد أن تُفسِد جمالَ الدعوة والحياة التي دعينا إليها. ففي زمن الصومِ المُبارَك، تدعونا أمنّا الكنيسة لنكون صادقينَ مع أنفسنا ونعرِض حياتنا لتكون تحت أنوارِ الروح القُدس فتنكشِف أمامهُ ونسمح له بأن يشفينا من أمراضنا التي نحن واعونَ لها، أو تلك التي تختبأ تحت مُسميّات أخرى، وهي الأخطر عادة، لنكون أحراراً لخدمتهِ هو، الإله الأوحد الذي يستحق العبادة والسجود له. 

إنجيل اليوم يُعلِن أن الروح القُدس هو الذي قادَ ربّنا يسوع إلى البرية ورافقهُ حتّى نجحَ في فضحِ أكاذيب المُجرّب الذي إستعانَ بنصوص الكتاب المُقدس ليُغريَّ ربّنا يسوع، فأنتصرَ حيثما فشِل أبوينا آدم وحواء والشعبُ الذي حررهُ الله من مصرَ العبودية. لقّد حوّل ربّنا البرية التي شهِدَت لعناية الله بشعبهِ وعصيان الشعب وتمردهِ إلى واحةِ المُصالحة والسلام. فإنجيل مرقس يُحدثنا أن ربّنا يسوع، وبعد أن قاومَ المُجرب كان مع الوحوش وكانت الملائكة تخدمهُ في إشارة واضحة إلى أنه أعادَ حياة الفردوس التي خسرها أبوينا آدم وحواء بعصيانها. تغلّب ربّنا يسوع على تجارب الشهوة: شهوة العين وشهوة الجسد وشهوة التسلّط لأنه إتكلَ على محبة الله، وعندما وضع َالله أولاً في حياتهِ، إنتظمَ كلُّ شيٍ، فإذا به حسنٌ جداً. 

ولأننا نحتفلُ بسنة الرحمة، تدعونا أمنا الكنيسة لأن نُنعِش صومَنا بالتأمل في كلمة الله وبالصلاة وأعمالِ الرحمةِ والتي تُعبّر عن المحبّةِ التي فينا. فنُصلي ونتأمل في كلمة الله لتكتمِل المُصالحة التي بدأها الله معنا بيسوع المسيح، ونُحسِن إلى القريب من خلال أعمال الرحمة، فنُصلِح العلاقة معه، والتي أفسدناها عندما فضّلنا المواهِبَ والعطايا على الواهِب (الله) وعلى القريب. في زمن الصوم نحن مدعوون إذن لنخدُم المحتاج إلى الرحمة إن كانت حاجتهُ جسدية أو روحية تمجيداً لله من دون أن نطلُب شُكراً أو مديحاً بحثاً عن الشُهرةِ. بل نُقدِم صومناً تمجيداً لله وتقديساً لأسمهِ القدوس، هكذا نُحقق حُريتنا الحقيقية. من الممكن أن تُصلي وتتصدّق على الآخرين وتُقدم لهم الإحسان والرحمة من دون أن تُحبهُم حقيقة، لأننا قد نكون أسرى "أنانيّتنا" فنستغلُ حاجة القريب لإشباعِ رغباتنا في البحث عن تمجيد إسمنا ومكانتنا، فالإنسان يُصبح ما يعبدهُ على حدِّ تعبير أحد أحد الآباء الروحيين. 

نُريد اليوم خاصة أن نسأل ربّنا أن يُعيننا لنقاوم تجربة البحث عن حياة "سهلة وممتعة" من دون جهدٍ أو تعبٍ، وهي التجربة التي قاومها ربّنا قائلاً: "لا تُجرّب الربَّ إلهَك". أساسُ هذه التجربة هو إعتقادنا الخاطئ من أن الله موجود ليُلبي حاجاتنا متّى ما شئنا، متناسين دعوتهُ لنا في أن نكون قديسين، والقداسة تتطلّب جهداً كبيراً للتخلص من كل الإرتباطات التي تشّدنا إليها وتستعبدنا: الاغتناء والسلطة والشُهرة ... آلهةُ هذا العصر. إلهنا ليس مستودع خدماتٍ، بل أبٌ يرافقنا ويُريد أن يكون إلى جانبنا في مسيرتنا نحو تحقيق حُريّتنا، وحُريتنا تكون عندما نضع كل الأمور في مكانها الصحيح، فالمخلوقات مخلوقاتٌ مهما عظُمَت وكبُرت. 

فلنضَع صومنا تحت أنظار الآب الرحيم في، طالبينَ منه أن يُعيينا لنفتح أبواب قلوبنا لروحهِ القُدس ليقودَ خُطانا، فمن دون عون الروح القُدس لا يُمكننا التغلّب على أكاذيب المُجرّب وأوهامهِ. الروح القُدس وحدهُ قادرٌ على أن يُساعدنا لنقِفَ أمام الله حاملين له إنسانيتّنا الضعيفةَ والمُضطرِبة بالكثير من الهموم والأزمات ليُبارِكها إلهنا بفيض محبتهِ. ففي صومنا هذا نُريد أن نُصلي إلى الله قائلين: أيُّ خطيئةٍ تُريدُ منّي أن أقدمها لك في هذا الصوم فأتخلّص منها إلى الأبد؟ قد لا تكون هذه الخطيئة سلوكاً أو كلماتٍ تعوّدنا أن نقولها، أو موقفٌ إلتزمنا به ضد هذا أو ذاك. قد تكون هذه الخطيئة حُزناً أو غضباً نحملهُ ولا نُريد التخلّص منه لأننا نخافُ هذا التحرر. لا يُمكننا أن نفهَم معنى آلام ربّنا يسوع من دون الإقدام على هذه الخطوة التي ستجعلنا نتعذب ونتألم. 

اليوم، يدعونا ربّنا يسوع المسيح إلى ممارسة الصلاة والصومُ والصدقة فهي تعابيرٌ حقيقية عن إيماننا بالله لأننا نُقدمها بفرحٍ وإمتنانٍ لله الذي أحبنا وعلينا أن نُحبهُ من خلال محبتنا للمُحتاج. ربّنا يسوع جعلَ من الصلاة والصوم والصدقة أعمدة الحياة الدينية الصادقة (متّى 1- 18)، فنصلي في الخفيةِ ونصومُ في الخفية ونتصدّقَ في الخفيةِ، ففي صدقتنا نقتربُ بنزاهة من القريب بمحبةٍ صادقةٍ وهذا القُربُ كفيلٌ بأن يُقرّبنا من الله، وكانَ أحد الآباء الروحيين يقول: كلّما وُجِدَ فقيرٌ أو تعيس، فأعرف أن الله واقفٌ عن يمينهِ. في الصدقة نُعلنُ أننا لسنا متعلقينَ بما وهبهُ الله لنا، بل نحن مستعدون لنتقاسمهُ فرحاً مع القريب، لأننا نعرِف أننا لسنا قادرين على أن نأخذ أموالنا معنا إلى السماء ولكن يُمكن لنا أن نُرسلها لتسبقنا. فليقبل منّا ربّنا وإلهنا صومنا هذا العام، وليُباركنا بأن يُحررنا من كثرة التعلّقات التي كبّلت حياتنا وأسرتنا. من دون هذه الموقف سيكون صومنا تجربة أخرى نلتفتُ فيها نحو أنفسنا في كبرياء فارغ، وهو ما سعى إليه المُجرّبُ مع ربّنا يسوع: أنت لست بحاجةٍ إلى الله، وأنتصر عليه ربّنا قائلاً: للربِ إلهِكَ تسجد وأياه وحده تعبُد". 

 

IMG 3964