عيد العنصرة
الكنيسة: شعب الله المُحِب (يو 14: 15- 31)
مع حلول الروح القُدس اليوم على جماعة التلاميذ المجتمعين مع مريم أمنا في العلية، إنطلقت رسالة الكنيسة إلى العالم أجمع لتحتضن الجميع في إرساليتها، وتجمع شتات شعب الله ليكونوا إخوة وأخواتٍ بيسوع المسيح، الذي قدّمَ نفسه خبزا متقاسماً، غذاء للجميع. اليوم يُعلِن الروح القدس بدءَ رسالة الكنيسة، وهو يعني أن الكنيسة لم تتأسس بفعلِ مبادرة بشرية بل الله الآب، وبمحبتهِ وتدبيره أختارها لتكون "وساطة الخلاص" للجميع، جسد المسيح يسوع وثبتها بروحه القدوس الذي ينعش نشاطها ويجعلها تتجاوز الصعوبات والتحديات التي تقف في وجه رسالتها. فَلَو كانت تنظيما بشريا لانهارت منذ قرون طويلة، ولكنها باقية بفعل الروح القدس.
ولكن ما الجديد الذي يُقدمه الله في الكنيسة للعالم؟
جديد الله في الكنيسة هو قدرتها على إحتواء الجميع وتوفير إمكانية التفاهم ما بين البشر جميعاً وذلك عندما يتوجهون جميعاً بالصلاة معاً إلى الله. هذه الجماعة، الكنيسة، ليست مهووسة بذاتها وبإنجازاتها، بل بما يُمكن لله أن يُقدمه فيها ومن خلالها للعالم. عالمنا اليوم فيه إمكانيات مهولة للاتصال ما بين البشر ولكنه لا يُمكن أن يخلق لهم إمكانية التواصل والتفاهم التي من دونها لا يُمكن للجماعة أن تستمر وتواصل. العداوة والعنف والصراعات والحروب التي يشهدها عالمنا اليوم هو علامة على عجزِ الإنسان على فهِم الآخر والتواصل معه، فوحده الروح الْقُدُس، روح الله، قادرٌ على أن يوجه العالم إلى كيفية الاتصال والتواصل مع الآخر، فالله أظهرَ بيسوع المسيح كيف يكون الإتصال، وأي لغة يُمكن للعالم أن يفهمها، لغة المحبة، محبة حتّى بذل الذات. محبة تحثُّ الآخر وتقويه ليخرُجَ من عُليةِ الخوف التي حبسَ نفسه فيها ليُبشِرَ العالم بسلامِ المسيح، مثلما حصل مع جماعة الرُسل الذين كانوا قد حبسوا أنفسهم خوفاً من جماعة واحدة، هاهم اليوم يواجهون جماعات كثيرة ومتمايزة في لغتنها وثقافتها.
جماعة الرُسل إنطلقت اليوم لتُعلِنَ البشارة في الأرض كلّها، فحلول الروح القُدس على جماعة التلاميذ حررهم من الخوف وفتح الأبواب لهم ليُخبروا عن الخلاص الذي صارَ لنا بيسوع المسيح، هذا الخلاص هو للجميع من دون إستثناء، وسيجمع لله في الكنيسة شعباً يتجاوز الإختلافات وتمايز الثقافات، فالجميع يفهم لغة الرُسل، الكنيسة، لأنها لغة المحبة. الاحتفال بحدث "عطية الله للشريعة على يد موسى" على جبل سيناء كان مركز إحتفالية العنصرة لدى اليهود، اليوم، تحتفل الكنيسة بشريعة المحبة، وهي كمال شريعة موسى. هي شريعة القلب المؤمِن بخلاص الله الذي تجلّى كاملاً بيسوع المسيح. لذا، يدعو ربّنا تلاميذه، ويدعونا أيضاً، أن نحفظَ وصاياه: إن كُنتم تحبونني فآحفظوا وصاياي، ووصيتهُ هي: أن يُحبَّ بعضاكم بعضاً. وهذه ليست دعوة للأختيار بل وصية للتنفيذ، لأن الذي يحفظُ العلاقات ويُديمها انما هي المحبّة التي تستقبلُ القريبَ وتُحييهِ وتغفرُ له إذا أساء إلينا. فشريعة المحبة تضعُ حداً لشريعة التنافس والإحتكار والإستغلال التي تُسيّر علاقات الناس. ومضمونها هو الرحمة والغفران لا التسلّط والانتقام. شريعة تضع المصالحة والسلام وتجمع المُشتتين لتؤلّف عائلة الله، أخوةً وأخواتٍ، يُفكرّ ويعمل كلُّ واحدٍ منهم من أجلِ خير الآخر وسعادته.
اليوم، نحن مدعوون لنعيش "العنصرة" وذلك بالتحرر من "الهوس بالذات" الذي سيطر علينا وعلى مشاعرنا، وباتَ هو المُحرِك لكل مُبادراتنا، لنقفَ أحراراً أمام الله الآب الذي يدعونا لكي نتحد في الصلاة إليه معاً. ففي الصلاة معا نُبيَن أننا متوجهون معاً نحو الآب فمنه ننال عطيّة الروح والذي يُنعِم علينا بعطايا كثيرة فيهبُ لنا الحكمةَ والفهمَ ويسند ضعفَ إيماننا ويُفهمنا أسرارَ ملكوتِ الله، ويمنحنا المشورةَ والعلم فنُميز طريقَ الله في حياتنا، ويُقوينا لنثبُتَ في الرجاء وقتَ المحنِ والمصاعِب، ويبعث فينا مخافةُ الله لنُحبَّه ونُكرِمَ أخانا الإنسان.. فإذا أنسانا العالم بشارة ربّنا يسوع المسيح، وإذا أردنا أن نُفسرَّ كلامَ الله مثلما يحلو لنا ويُناسب رغباتنا، نؤمنُ بأن روحهُ فينا يُذكرّنا بكلامه ويُسمعنا إياه، فتكون حياتنا إنجيلاً حياً، بشارة صادقةٍ لكوننا مُخلَّصينَ ومُباركينَ.
اليوم نحن مدعوون لأن نعيش العنصرة في بيوتنا، فعوائلنا أصبحت ضحية الاستخدام الغير الصحيح لوسائل الإتصال الاجتماعي التي "تحبُس" الإنسان ليكون مع مَن يختارهم هو، ومع مَن يُرضوه ويخاطبون رغباتهِ، ففُقِدَ التواصل داخل العائلة، ولم نعد "نُصغي" لمَن يعيشون معنا في ذات البيت. كل بيتِ من بيوتنا صارَ بحاجة اليوم أكثر من ذي قبلُ إلى "الفارقليط" المحامي والمعزي ليواصِل رسالتهُ ويبقىَ البيت المسيحي حامِل بشارة الله؛ إنجيل يسوع المسيح. كل أبٍ وأمٍ يشعر اليوم بأنه غير قادِر وحدهُ على مرافقة أبنائهِ وتنشئتهم، وهو بحاجةٍ إلى عونٍ وسندٍ، وإلهنا يُقدِم لنا الروح الُقدس، فلنقبلهُ، هو المحبّة التي ترافقنا وتُربينا لنكون مؤمنينَ، ليس فحسب، بل مُبشرينَ، فإيماننا دعوة ورسالةٌ نلتزمٌ بها شاكرين الله على أنه أنعمَ علينا بالخلاص واختارنا له رُسلاً. فلنبدأ التبشير من بيوتنا أولاً ليشعُّ نورٌ إلهنا على مَن هم من حولنا.
الأحد بعد الصعود
ثمار القيامة: الشهادة (مر 16: 9- 20)
تراءى ربّنا يسوع لتلاميذهِ بعد قيامتهِ ووبخهم على قلّة إيمانهم وقساوةِ قلوبهم لأنهم لم يصدّقوا الذين تراءى لهم وبشّروهم: "أنه حيٌّ". لم يتخلَّ عن تلاميذه ولم يصرفهم إلى بيوتهم وأشغالهم لأنهم تركوه في بستان الزيتون يواجه مُتهميهِ ويتحمل وحدهُ العذاب والصلب، كما ولم يؤمنوا بكلام النسوة والشهود الذين ظهرَ لهم بعد قيامتهِ، بل لحِقَ بهم حيثما كانوا في العلية أو على شاطئ بحيرة الجليل أو في الطريق إلى قريتهم. لم يكن بينهم مَن يدعي البطولة أو التميّز في الإيمان، فكلهم هربوا ويعوزهم الإيمان، إلا أنهم ليسوا بعيدين عن محبّة الله التي بحثت عنهم حتّى في مخابئهِم لتنتشلهُم وتبعث فيهم الفرح من جديد. "محبّة الله" التي أرسلت لهم ربّنا يسوع المسيح، غفرت لهم عوز الإيمان وقساوة القلب. المحبّة غفرت لهم الخيانة ليس فحسب، بل أختارتهُم من جديد ليكونوا شهوداً له، شهودَ محبتهِ وغفرانهِ. فالمحبة رحمة والرحمةُ غفرانٌ والغفران خلقٌ جديدٌ.
تراءى ربّنا يسوع بعد قيامتهِ ليبعثَ في تلاميذهِ روحاً إرسالياً إذاً: "إنطلقوا إلى العالم أجمع وآكرزا ببشارتي في الخليقة كُلهّا". قيامتهُ هي "بُشرى سارّة" للعالم أجمع، تُعلِنَ أن "المحبّة" هي أقوى من الموت. ومهما حاولَ الشرُ أن يُضايقَ على المحبّة ويحبُسها في قبرٍ أو في عليةٍ، مثلما حصلَ مع التلاميذ، فلن ينتصِرَ على "محبّة الله" التي تجمع شتات الإنسان، وتُعزيه في مخاوفهِ، وترافقه حتّى في حيرتهِ وشكوكهِ ليخرجَ من "حبسهِ"، ويواصِل عمل الخلاص الذي بدأه الله بيسوع المسيح.
لذا، فقيامةُ ربّنا يسوع دعوةٌ للإيمان، لقبولِ بشارة الله وبدءِ حياة القيامة مع ما يُصاحبُها من تحديات وصعوباتٍ إن كانت شخصيّة: "لا أصدّق ما حصل"، وإن كانت عامّة: شياطينَ وصعوبات في التواصل وسمومٌ وأمراض. عالمنا، وبكل ما يحملهُ من قوى شيطانية رافضّة لله بحاجةٍ إلى "شهود القيامة" لا إلى معلمي القيامة. ربّنا لم يعد التلاميذ بإرسالية آمنة وبقبولِ الناس لهم، بل وعدهم بمرافقةٍ أمنية لهم، مثلما لم يُحدد لهم نطاق التبشير، فالخليقةُ كلها مدعوة لأن تسمَع هذه البُشرى: "المسيح قام". في مواجهة هذه القوّى الشيطانية يبقى المؤمُن بحاجةٍ إلى "آياتٍ" تعضده في مسيرة التبشير، علاماتٍ على الطريق تُثبتهُ في المسيرة، وتُصادِق على مضمون البشارة. وفي هذا ينالُ الإنسان "كرامةَ" جديدة: فهو الصديق ولم يعد "عبداً" ينفِذ الأوامر. هو عبدٌ لأن قَبِلَ تكريسهُ من الله، وفي قبولِه نالَ "نعمةَ الصداقة" ودُعي ليُشارِكَ في نشر ملكوت الله الذي بدأ قبلَ أن يكون.
شياطينُ هذا العالم كثيرة ومتمايزة، وهي تسعى لتبُثَ السموم في كل الخليقة، وسمومها قاتلِة وموجِعة تخلقُ حالة من الخوف والعنف بين الناس. شياطينٌ تجعل الإنسان، المجتمع كلّهُ مريضاً. فالشّر حاول "حبسَ ربّنا يسوع في قبرٍ جديد"، وبث سموم الخوف والشّك بين التلاميذ، فلم يصدقوا ما قيل لهم، وجعلعم مرضى يخافون الناس. لكّن الله الآب لم يتركهُم، فجاءَ إليهم وحلَّ بينهم، يُبكتُهم ويُثبتهم في الإيمان ليواصلوا المسيرة.
التلاميذ، الكنيسة، نحن، شهود القيامة، "شاهدُ القيامةِ"، يُعلِن محبّة الله التي تغفُر لتبدأ للإنسان حياة جديدة، قد لا يُصدقها ولكن عليه أن يحياها. كل مُجتمعٍ يغيبُ عنه "نورُ إلهنا وملكنا"، هو مجتمعٌ مريضٌ. وعندما يغيبُ ربّنا عن حياتنا، نُصبحُ نحن شياطين واحدنا آزاء الآخر، ونتكلّم بلغاتِ هذا العالمِ، لغة الحسد والعنف والبغضاء، ما خلا لغة المسيح يسوع، لغة المحبة، بل أن كلماتنا هي أشبه ما يكون بسُمٍ مُميت في حياة الآخرين، لذا زاد عدد المرضى والفقراء بيننا، لأن الشهود اختفوا، ولم يعد العالم يرى فينا شهوداً ليسوع المسيح.
اليوم، ومن خلال التلاميذ نحن مدعوون لأن نرى يسوع، إن كنا مستعدين لنشهد أننا مؤمنون به، وإذا كان لنا الاستعداد لنطرد شياطين عالم اليوم، ونضع أيدينا على مرضى عالم اليوم، ونُمسك بالذين يُجربون إنسان اليوم ويُعذبونه بسموم أفكارهم ومواقفهم. ولربما تكون البداية مع ذواتنا، فنفوسنا مُصابة بأمراض كثيرة نتيجة سموم شياطين كثيرة من حولنا. فلنرحَم أنفسنا، ولنسمح ليد الله الشافية لتمُس قلوبنا وتُضمّد جراح الماضي فيكون الشفاء تاماً. قد يكون الغفران مُستحيلاً، أو صعبُ التصديق، لكنه يبقى ممكنا، لأن إلهنا لن يتركنا نتيهُ، بل يجذبنا إليه، ويُحمّلنا رسالة جديدة: "إنطلقوا وإكرزوا بالملكوت".
عيد الصعود
دعوة للعمل وللسهَر: هو آتٍ إلينا (لو 24: 36- 53)
تحتفِل الكنيسة اليوم بعيد صعود ربّنا يسوع إلى السماء وجلوسهِ عن جنب اليمين. فالربُّ لم يعد تحت سُلطان هذا العالم الخاطئ، بل هو "كُلياً" لله. الربُّ أخذ معهُ كل إنسانيّتنا بما تحملهُ من ضعفٍ وهشاشةٍ وخطيئة ليُحضَرها إلى الله الآب، ففي ربّنا يسوع لنا مكانةٌ متميزّة عند الله، هو يعرِض علينا أن نكون عن جنبِ اليمين، فصارَ الله أقربَ إلينا بيسوع المسيح. لربما نبتعِد عنه، ويُمكن أن نرفُض دعوتهُ، لكنه يبقى ينتظرنا ليرفعنا إليه، وهو عازمٌ على أن يسنُد مسيرتنا إذ يمنحنا الروح القُدس ليقود مسيرة حياتنا نحو الحقيقة: لنا الحياةُ، وبوفرّة، بيسوع المسيح.
رُفِعَ ربّنا إلى السماء ليتحدّ بالله الآب وسيعود ربّنا يسوع المسيح ويجمع كنيستهُ المنتشرَة في كل بقاع الأرضِ، ولكنَّ بين مجيئه الأول ورفعه إلى السماء، ومجيئهِ الثاني وعودته من السماء يجب أن تبقى كنيسته ساهرة ومُصلية وفاعلِة. عليها الإنقياد لفعلِ الروح القُدس حيث يُوجهها من أجل جعلِ العالم كلّه ملكوتَ الله، مثلما كانت إرادتهُ ومشيئتهُ. فبين تجسّد كلمة الله، يسوع المسيح، وعودته، عملٌ كثير يترتب على الكنيسة، وعلى كل منا أن نلتزِمَ به: أن نشهدَ لخلاص الرب بين الأمم. فمع صعود ربّنا يسوع يبدأ عملُ الكنيسة تحت قيادة الروح القُدس.
خاطب رجلان بثيابٍ بيض الرُسل قائلين: "ما لكُم قائمينَ تنظرون إلى السماء؟ فيسوع هذا الذي رُفِعَ عنكم إلى السماء، سيأتي كما رأيتموهُ ذاهباً إلى السماء" (أع 1: 11). هذا هو إيمانُ الكنيسة رُفِعَ ربّنا إلى السماء وسيأتي أيضاً، مثلما وعَدهم: "أنا ذاهبٌ، ثم أرجِعَ إليكم" (يو 14: 28). وفي هذا إيمان نتعرّف على هويّتنا: مَن نحن؟ نحن مَن أوكَلَ إليهم الله مواصلة عملَ الخلقة الذي بدأه وباركهُ: "ورأى أنه حسنٌ جداً" (تك 1: 31)، ودعانا لنُشاركهُ عملَ الفداء: "كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم. وأَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور" (لو 24: 46- 84). فنحن قائمون على الأرض لأن لنا دعوة ورسالةٌ، وفي إلتزامنا في هذه الرسالة نبقىّ نتطلّع إلى السماء، حيث الربُّ المنتصر وفيه ومنه ننالُ القوّة، وسننتظرهُ آتياً إلينا. لن نهرُب إذاً من إلتزاماتنا المسيحية على الأرض، ولن ندعَ للأرضيات أن تاسرُنا.
نحن جميعاً نعيش ما بين "رفعهِ إلى السماء"، و"مجيئهِ من السماء"، وهي ليست فترة إنتظار كسول، فربّنا يسوع أوكَل إلى رُسلهِ (كنيستهِ)، أن تكرِزَ بآسمهِ بالتوبة لمغفرة الخطايا في جميع الأمم. أن تُعلِنَ للعالم أجمع "أن يسوع حيٌّ وهو الربّ، هو الحياة الحقّة. هي فترة (زمنُ) "رسالة" وعلينا أن نتحمّل مسؤولية عيش هذه الرسالةَ ليس بدافع الخوف من أن يأتي لمُعاقبتنا بسبب خطايانا، بل حُباً له إذ دعانا لنكون شُركاءَ معه في الفرح السماوي، ونُريد المُشاركة في هذا العُرس. لذلِك، عادَ التلاميذ فرحينَ إلى أورشليم بعد أن نالوا البركة، فصعود ربّنا يسوع لم يكن "غياباً" عنهم، بل اختبروهُ قريباً منهم، ومن هذا القُربِ إستمدوا القوة والعزيمة لمواصلة المسيرة بإيمان وأمانة.
"فترة الإنتظار" هذه هي فترة رسالةٍ مُلتزِمة تتطلّب من كل واحد منّا أن يكون متهيئاً ومتأهباً للقائه، للصعود إليه والإتحاد به، مثلا رُفِعَ ليكون مع الآب. هذا الصعود سيكون ممكنا من خلال "التخلي" عن كل الإرتباطات التي تأسُرنا حيثمُا نحن، لنكون أحراراً له. وفي "صعودنا هذا" سنختبرُ "واقعاً مُؤلِماً"، إذ يتحدّانا لنترُكَ جانباً "إهتمامنا بأنفسنا"، والبحث عن ما يُرضينا، وتباعتهُ والإتحاد به. هذا الإتحاد يُعطينا فرصة "لأن نُعطي يسوع" لمَن هم من حولنا، فنحن لسنا قادرين على أن نُعطي ما لا نملُكَ.
"فترة الإنتظار" هذه تُعطينا "شعور الحياة" فهناك "واقع ننتظره ونتطلّع إليه. "فترةُ الإنتظار" تسألنا إذن أن نكون ساهرين: "إسهروا وصلّوا"، وهذا السهر يمنحنا فرصة أن نستشعِرَ حضور الله من حولنا، ويُعطينا "رجاءً" من أن حياتنا ليست ماضٍ نتأمل فيه، أو حاضرٌ نستجيبٌ لمُتطلباتِه فحسب، بل مُستقبلٌ نسيرٌ إليه بثقة وإيمانٌ من أنه معنا في "إتمامٍ ما بدأهُ هو". هذا الرجاء يُعطينا فرحاً، فرحٌ التلاميذ من أن مُصالحة الله كانت تامّة إذ أوكَلَ إليهم ليكرزوا بإسمهِ ليكون العالم كلّه لله.
فلنُصلِ إليه، ليُباركنا مثلما بارَك الرُسل، وليهبَ لنا القوّة لنواصِل إعلانَ فرحَ الحياة فيه ومعه.
الأحد السادس للقيامة
ثمارُ القيامة: كنيسة مُرسّلَة (يو 17: 1- 26)
في جلسة العشاء الأخير رفعَ ربّنا يسوع صلاةً دعاها التقليد الكنسي: "صلاة يسوع الكهنوتية" وهي خاتمة خطاب الوداع. هي صلاة شفاعة، صلاةُ كاهنِ قدّم حياتهُ ذبيحةَ شُكرِ لله على البركات التي أنعمَ بها الله عليه، مُؤمنا بمحبةِ الله الآب في فعلِ طاعةٍ تامٍ مُحِب له. لا يُمكن لنا أن نفهَم معنى صلاة ربنا يسوع هذه من دون الإشارة إلى طقوس عيد التكفير اليهودي. ففي هذا العيد كان رئيس الأحبار يدخُل إلى "قُدسِ الأقداس"، ليُقدمَ ذبيحةَ عن نفسهِ، وعن جماعة الكهنة وعن جماعة الشعبِ الذي أخطأ إلى الله طوال العام، مُكفراً عن خطاياهم ومعاصيهم ليُعيدَ الشعبُ إلى حالة البرارة الأولى، فيُذكرَهُم بهويتهُ: "هم شعبُ الله الذي أختارهُ ليكونَ نوراً للأمم". وفي هذا اليوم من السنّة فقط، يُسمَح لرئيس الأحبار أن يلفظ إسم الله القُدوس الذي كًشِفَ لموسى عند العليقة المُشتعِلَة، وحَرِرَ إسرائيل ليكون شعباً لله.
ربنا يسوع، صلّى، وهو عظيمٌ أحبارنا، فقدّم نفسه ذبيحةَ، ورفع الصلاة من أجل تلاميذه ومن أجل كلَّ مَن يؤمِن بسبب تبشيرهم، من أجلنا، نحن كنيستهُ، فنحن موجودون في صلاةِ يسوع، ليس فحسب، بل يُريد أن يُدخِلنا في علاقة المحبّة التي توحدّهُ بالله الآب. في صلاتهِ كشفَ ربّنا يسوع عن إستعدادهِ التام ليُكمِلَ تدبير الله بمحبةٍ وسخاءٍ تام، فالطريق إلى المجد يمرُ من خلال فعلِ الطاعةِ "المُحِب" لمشيئةِ الآب حتّى بذلِ الذات: "ها أنذا مُستعدٌ لأعملَ بمشيئتِكَ، فأنت قدستني لأجل هذه الساعة: ساعة المحبة التامّة حتّى عطاء الذات"، من أجل أن يعرِفَك العالم، وهذا ممكن إن قَبِلنا أن ندخل في المحبّة التي تربط الله الآب بيسوع المسيح.
صلّى ربّنا يسوع من أجل تلاميذهِ الذين "وهبهمُ الله له"، إذ حقق بينهم حضور الله فكان الرحمة المنظورة. كان قريباً منهم، وطلبَ لهم من الله الآب أن يُقدِسهُم ويحفظهُم، أي، أن يكونوا مفروزينَ ومُكرسينَ له، هم مُلكيةُ الله، وهم مُقدَسونَ بكلمة الله ليحيوا من أجل الآخرين. هم مُلكُ الله وليسوا مُلكَ أنفسهِم، وهم في ذات الوقت مقدسونَ من أجل الآخرين، من أجل العالم. العالم الذي سيستمِع إليهم، ويؤمِن بكلمة الحياة التي يُبشرون بها. ربّنا يسوع صلّى من أجل الرُسل ومن أجل الكنيسة جمعاء التي تُبشِر العالَم "بمُصالحِة الله للإنسان بيسوع المسيح"، عالمٌ يرفُض هذه المُصالحة، وهذه هي الخطيئة: "رفضُ الإنسان لله"، "عداوة الإنسان لله"، والنتيجة: عالمٌ عنيفٌ، عالمٌ مُخيفٌ للإنسان.
وإزاء هذا العالَم الخاطئ يُقدِم ربّنا يسوع ذبيحة حياتهِ من أجل أن يعرِف العالم الله: "والحياة الأبدية هي أن يعرفوُك، أنت الإله الحق وحدَك ويعرفوا الذي أرسلتهُ يسوع المسيح" (يو 17: 3)، وينتظر ربنا يسوع أن تواصِل الكنيسة (نحن) تبشير العالَم ليعرفوا الله. هذه المعرفة ليست معلوماتية، بل دعوة للمُشاركة في حياة الله الذي صارَ جسداً، قريباً منّا بيسوع المسيح. هذه المُشاركة تتطلّب لقاءَ ربّنا يسوع، تعلّقنا به، إتحادنا بهِ، ولما كان هذا الإتحاد مُستحيلاً علينا نحن البشر، صارَ هو بشراً، ويدعونا لهذه الوحدة يومياً في سرّ الأفخارستيا، سرّ محبّة الله. وهو صارَ إفخارستيا من أجلنا فنتحد به، من أجل أن نكون نحن أفخارستيا للعالم، وهكذا سيعرِف العالم حضوره الفاعِل.
ربّنا يسوع عرّفنا بالاب، لأنه وجه الآب، ويواصِل "عمل التعريف هذا"، من خلال أمانة الكنيسة لرسالتها. لذلك، صلّى ربّنا يسوع المسيح من أجل تلاميذه وطلبَ من الآب أن يحفظَهم ويُقدسهم من أجل العالَم، فالعالم الذي يُعلن "عداوتهُ لله"، ورفضهُ لله، يبقَى بحاجةٍ إلى الله، الذي تعرّفنا عليه بشكل منظور وكامل بيسوع المسيح. عندما نعيش نحن رسالتنا ونشهد في حياتنا "لمعرفة الله" نواصِل ما بدأه ربّنا يسوع فنُسهِم في تعريف العالم بالله. العالم ينتظر أن يرى فينا الجماعة التي "قدسها الله وكرسها" لأجل العالم، والكنيسة قدّمت لنا قديسين عظام قدّموا في شهادة حياتهم جواباً للسؤال: كم أن العالم بحاجة إلى الله؟
عندما نُعلِن قانون إيماننا في كل قُداس نشترِك فيه، لا نذكر أسماء الأنبياء والرسل الذين تُكرمُهم الكنيسة، ولا نذكر أسماء الشهداء الذين سقوا بدمائهم بذرة الإيمان، نذكر إسمين فقط: مريم التي قبلِت كلمة الله وأعلنت إنها خادمةٌ هذه الكلمة حتّى الصليب، ونذكر إسم بيلاطس البنطي الذي حكمَ على ربّنا يسوع بالموت، وهو تنبيهُ لنا من أن ربّنا يسوع الذي نحملهُ في قلوبنا ليس بأمانٍ دوماً بسبب ضعفَ هذه المحبة، لأننا يُمكن أن نُسلّمهُ للموت مُساومةً مع إنتظارات العالم. عندما نتخلّى عن مسؤوليتنا في تعريف العالم أن في الله وحده: الحياة الأبدية، الحياة الحقيقية. عندما نفشِل في الشهادة "لحضور ربّنا يسوع" في حياتنا.
فلنطلب من أمنا مريم، والتي رافقت إبنها ورافقت الكنيسة بالصلاة، بأن تساعدنا في أن نعيش دوماً حياتنا خٌداماً لله القدير، حاملين بشارة ربّنا يسوع المسيح لكل مَن نلقاهم في حياتنا.
الأحد الخامس من القيامة
ثمار القيامة: القداسة (يو 21: 1- 14 )
قضّى بُطرس والرسل ليلةً كاملة في الشاطئ من دون أن يصطادوا شيئاً حتّى تراءى لهم ربّنا يسوع المسيح موجهاً العمل بإتجاه يصعبُ عليهم إيجاد السمِك فيه، فأطاعوا الغريب وهم خُبراء في الصيّد، فإذا به صيدٌ وفير. واصل الرُسل العمل على الرُغم من الإحباط الذي عاشوهُ: لا سَمكَ في الأمكنة التي يُفتَرَض أن تُمسِكَ فيها شباكهم سمكاً. هم حزانى لما حصلَّ لسيّدهم ومُستاؤونَ لمواقفهم إذ تركوه يواجهُ الموتَ وحدهُ، ولم يفهموا معنّى ما قالتهُ لهم المجدلية: "لقد قام".
هوذا يتراءى لهم بنفسهِ ويبعث فيهم الإيمان من جديد، وأعدَّ لهم مائدةٌ الصداقة؛ إفخارستيا، شِركة المحبّة التي لن يتغلّب عليها الموت. لقد إكتشفوا أن الربَّ لم يتخلَّ عنهم بل كان معهم حتّى عندما تركوهُ، ورافقهم في ليلةِ الصيد العقيم ليعبرَ بهم إلى فجرِ القيامة.
"أمعكمُ شيءٌ يُؤكَل ..."، في ظهوره لتلاميذه لم يوبخهُم على موقفهم منه، ولم يحُكم على جهلهِم: "إنكّم جُهالٌ لا تعرفون كيف تُدبرون شؤون حياتِكم، بل كان سؤالاً يفترِض إجابة صريحة: "لا". وربّنا لا يحتاج أكثر من هذه الكلمة الصريحة: لا، ليس عندنا ما يُمكن أن نُقدّمهُ لك، على الرغم من أننا قضينا الليل كلّه ننتظر أن تُمسِك شباكنا سمكاً لنبيعهُ ونعود بالمال وبالمُتبقي إلى بيوتنا. أمرهم هذا الغريب وأطاعوا؛ آمنوا بما قال، والإيمان هو طاعة لله للسير في إتجاه غريبٍ، فما تقولهُ أيها الغريب لا يتوافق وخبرتي في الصيّد (في الحياة). وإذا به صيدٌ وفيرٌ ليس فحسب، بل تسألنا أن نُقدّم لك من ثمار أعمالنا لتُباركها وتُقدسها. القيامة دعوة إلى الإيمان بحضورِ الربَّ المُحيي للسير في حياة القداسة، لكل مَن يؤمِن حتّى وإن كان إيماناً ناقصاً أو يعوزه الثباتُ، وهو ما نشعرُ نحن به مراراً، لذا، أبقى الإنجيلي يوحنّا شخصية التلميذ السابع مجهولةً ليفسح لنا المجال لنضعَ أسماءَنا نحن مكانهُ، فالتلميذ السابع هو كل واحد منّا، وهو مدعو إلى هذه العلاقة الشخصية مع ربنا يسوع المسيح.
أعدَّ لهم الربُ مائدةً: جمرٌ وسمكٌ، ولكنهُ يُبارِك أشغالنا إذ يدعونا لنتقاسَم نعمهُ علينا في شِركة المحبة: "هاتوا من السمك الذي إصطدتُم الآن". هيأ لهم وليمةً ليُباركها بثمارِ تعب الإنسان. لم يترائ ليُدلّهم على مكان السمِك فحسب، بل تراءى لهم ليخدُمهم، ويطلُب منهم أن يندمجوا في "نعمةِ الخدمةِ" هذه، ليُعلّمنا أننا لن ننال الخلاص بأعمالنا، ولكننا لن نخلُص من دونها. لقد تراءى لهم ووهبَ لهم فرحةً ما كانت لهم لو أكملوا الطريق الذي هم فيه. ووفي ذلك بشارةٌ لنا: يُبارِكنا إلهنا بنعمةِ الإيمان وينتظرَ منّا الثمار. فالإيمان لا يعني أن الله إختارنا لأننا صالحونَ وليس لنا خطيئةٌ ونكتفي بهذا الإختيار لنُبرر، بل قبولُ محبّة الله لنا على الرُغم من خطايانا وعدم صلاحنا والعمل لتجسيد محبّة الله في حياتنا، مؤمنينَ أن محبتهُ قادرةٌ على تغييرنا لنكون صالحينَ، ليس فحسب، بل لنُبشِرَ بصلاحهِ. إيماننا يتطلّب خطواتٍ حاسمةً ومواقفَ جادةٍ تكشُف عن طاعةٍ لما يُريدهُ الله منّا حتّى وإن كُنا لا نفهمٌ مغزاه. إيماننا ليس تعليماً نعِظُ به وتوصياتٍ نحفظها، بل خبرة شِركة مع ربنّا يسوع فمن دون هذه الشِركة، الافخارستيا، ستكون المسيحية مدرسة فضائل إنسانية، والحال هي بيت المحبّة الذي يجمع البشرية حول ربّنا يسوع المسيح.
حياتنا المسيحية هي مسيرة إيمانية ثابتة تجابه كل تعبٍ وحزنٍ ويأس تحت أنظارِ الله الآب الذي تجسّد ليرافقنا في حُزننا يعبُرَ بنا إلى الضفةِ الأخرى التي لم نكن لنشتغلِ فيها لولا كلمتهُ. إلهنا حضرَ لا ليُنافسنا ويُلغي وجودنا بل ليقبَل منّا ثمار "الإيمان والطاعة" ويُباركها لتكون مائدة المحبّة؛ الإفخارستيا. نحن نؤمِن أن إلهنا، ولأنه الآبُ المُحِب، لن يتركنا نجابه هذه الظلمة وحدنا، بل سيُشرق علينا بنورهِ، ويُرشدنا إلى الطُرق التي فيها نجد الحياة: "ألقوا شبكتكم من جانب اليمين"، وهو خادمها: "فلّما نزلوا إلى الأرض رأوا جمراً موضوعاً وسمكةً موضوعةَ عليهِ وخُبزاً"، وهو الذي يُعطيها الحياة: "فأخذ يسوع السمك والخُبزَ وأعطاهم". ولكن، نحن بحاجةٍ إلى فعلِ طاعةٍ لكل ما يأمرنا به ربّنا حتى وإن بدا مخالفاً لما نعتقده، أو غريباً عن رؤيتنا للحياة. إيماننا يتطلّب موقف طاعةٍ، طاعة مريم أمنا، طاعةٌ أوصلتها لتقف عند أقدام ربّنا يسوع المصلوب، وتنضمّ إلى جماعةِ الرُسل، الكنيسة الأولى، تُصلي من أجلهم.
لنطلّبَ صلاتها من أجلنا جميعاً.
الأحد الرابع من القيامة:
ثمارٌ القيامة: فرح ووفرة حياة (يو16: 16- 33)
مَن الذي يُعطينا الرجاء من أن حاضرنا المُحزِن والمُضطَرِب سيؤولَ إلى فرح الإنتصار؟
هي محبّة الله لنا والتي كانت فاتحة جلسة الوداع التي جمعت ربّنا يسوع بتلاميذه: "وكان يسوع يعلّم بأن قد أتت ساعةُ إنتقالهِ عن هذا العالم إلى أبيهِ، وكان قد أحبَّ خاصتهُ الذين في العالم، فبلغَ به الحُب لهم إلى أقصى حدودهِ" (13: 1). فإنطلاقاً من هذه المحبّة يُوجه ربّنا خطابهُ لتلاميذهِ اليوم مُثبتاً إياهم في الرجاءِ، ومؤكداً لهم بأن مُغادرتهُ لم في الجسّد ما هي إلا بدءُ حياةِ مليئة بالفرحِ، فرحٌ مَن وجدَ أنه محبوبٌ من قبل الله ومغفورٌ له. هذا ما بشّر به ربّنا يسوع وثبتهُ الله بإقامتهِ رباً، فغدت القيامة مبعثَ فرحٍ للتلاميذ.
سيبدأ التلاميذ (والكنيسة كلّها) حياة التبشير بإنجيل الله؛ يسوع المسيح. فالله الآب، ولأنه محبّة تجسّد ليكون مع الإنسان في ألمهِ ليقويّه ويتجاوز الإحباط واليأس والخوف الذي يختبرهُ، مثل المرأة الحامل التي تتأمل حالتها وترتعبِ لهول الساعةِ، حتّى يُولَد إنسانٌ، وفي ولادتهِ تفرحُ وتنسى ألمها، بل يتسامّى هذا الألم ليكون بدءَ حياة للإنسان. هذه هي بشارة ربّنا يسوع المسيح: أيها الإنسان لست صُدفة على الأرض، ولحياتِك أثرٌ طيبٌ فعش حياتَك لتكون سبب فرحةِ الله.
قيامةُ ربّنا يسوع تُعطينا الشجاعة لموصلة المسيرة خلفَه متجاوزين "رفضَ هذا العالِم" لنا، مؤمنينَ أن حياتنا كلّها هي تحت أنظار الله الآب، الله الذي يعتني بنا على الرغم من الألم والحزن والضيقات التي تحاول ان تخنق الحياة فينا، ليُعيننا على تجاوزها ليس فحسب، بل ليُؤتي منها خيراً وفيراً لم يكن لنا لنفهمهُ لولا حضورهِ معنا. فإذا كُنّا أبناء القيامة، فالرب ينتظر منّا الإيمان فنسير في الحياة ونحن نعمل دوماً ما يُرضيه ويُفرِح قلبهُ، فنمدَّ يد السلام والمُصالحة لكي نخفف من وطأة الأحقاد والغضب من حولنا. علينا ألا نتطلّع إلى الإنجازات الكبيرة أو إلى معجزاتٍ خارقة، بل يكفينا أن نقدَم أعمالنا الصغيرة بحب صادق ونزيه. لربما يكون الأمرُ صعباً في عالمٍ يُسيء فهمَ طيبتنا، عالمٌ يغضَب ويرفض ويكره ويحسد ويُعنّف ويكذب ويغش ويخدع. عالمٌ يبدو أنه خالٍ من حضور ربّنا يسوع، ولكن علينا أن نؤمِن ببشارته لنا: "ثقوا أنني غلبتُ العالم".
ربّنا يسوع عارفٌ أننا مثل تلاميذه لن نصمد طويلاً أمام التجارب التي تتحدانا يومياً. ربّنا عارفٌ أننا كثيرا ما نتخلّى عنه أمام اختياراتٍ أخرى. ربّنا عارفٌ بمحدودية إيماننا، وهو إيمانٌ متطلّب، فيُعزينا بغفرانهِ المُسبقَ ليكون لنا شجاعة التوبة ليكون لنا سلامٌ القلب الذي يهبهُ لنا ربنا يسوع وحدهُ فقط، ثمرةٌ الإيمان بيسوع القائم. وإن تأملّنا ماضينا بنزاهةٍ أمام الله فسنذهَل عندما نكتشِف أن الله لم يتركنا وحدنا في لحظاتٍ صعبة من حياتنا، وعلى الرغم من كل ذلك، نجد أنفسنا مُضطربين أمام كلِّ شدّة. وهذه علامات فقدان السلام، وإشارة إلى عدم الإيمان بالله لأن الإنسان يثق بنفسهِ أكثر من ثقتهِ بالله.
الإيمان بقيامة ربنا يسوع المسيح لن تُبعدنا عن العالم، أو تنقذنا من تجاربهِ، بل تُثبتّنا في وقت المِحَن لنواجهها مؤمنين أنه معنا. لذا، يطلب ربّنا يسوع منّا أن نؤمِن، أي أن نقبل عطية المُصالحة التي قدّمها الله لنا بيسوع المسيح، ولسنا في ذلك نتنكّر لحقيقة الخطيئة وقوّتها التي تُعارضَ هذا الإيمان، بل إننا نُسلّم حياتنا لربنا واثقين أنه غلبَ خطايانا التي تُبعدنا عنه. فالإيمان مُكلِفٌ ومتطلبٌ ومُحزنٌ، إلا أنه يحملُ معهُ فرحاً لا يُوصَف، كفرحِ ولادة إنسانٍ في العالم. والإيمان مُكلفٌ لأنه يتطلّب تغييراً جذرياً للحياة، وهذا ما لسنا مستعدون للإلتزامِ به دوماً.
نحن نختبِر جميعاً صعوبةَ الإيمان، ونشعر بالحُزن والكآبة، ونتجمّد في مسيرة إيماننا، وهذا ليس لأن الله قرر لنا مصيراً يختلِف عن مصير القديسيين، بل لأننا نحن لم نسمح له بل يفيض محبتهُ فينا مثلما يجب. فالقديسون ليسوا أبطالاً وإنما هم خطأة تبعوا يسوع على درب التواضع والصليب وسمحوا له بأن يقدّسهم مثلما يقول قداسة البابا فرنسيس. والحال أن هناك جانبٌ من حياتنا نرفضُ أن تغمره محبةُ الله، ونُفضل أن يبقى بعيداً عن نورهِ، فلا يأتِ الإيمان كاملاً بل منقوصاً، ويضحى صعباً، فنترك ربنا يسوع وحدهُ. إن قُلنا إننا نؤمنُ بيسوع المسيح، ولكن! هذه الـ "لكن" تُصبح شرطاً يجعل الإيمان صعباً بل مُستحيلاً. والحال إن الإيمان هو "نعمٌ" صادقة وأمينة، مثلُ نعمُ أمنا مريم التي نُكرمها في هذا الشهرِ بإمتياز. "نعمٌ" تفتح الحياة كلّها أمام الله من دون أن تحتفِظ لنفسها بشيءٍ، بل تهبهُ للعالمِ مُخلصاً وتحتضنهُ مصلوباً وتُسلمهُ لله الآب ربّا وترافق الكنيسة مُصليةً.
الأحد الثالث من القيامة:
ثمار القيامة: معرفة الآب (يو 14: 1- 14)
"قالَ له يسوع: "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي. فلَو كُنتُم تَعرِفوني لَعَرفتُم أَبي أَيضاً. مُنذُ الآنَ تَعرِفونَه وقَد رأَيتُموه" (14: 6- 7). في هذا الإعلان كشفَ الإنجيلي يوحنا عن إيمانه من أن ربنا يسوع هو حضورَ الله الملموس بيننا، ولا يُمكن لنا أن نعرِف الله الآب إلا بيسوع المسيح. وفي هذا الحضوّر مكّننا ربّنا يسوع من أن نعرِف الله أباً مُحبّاً. الله حضرَ في وجهِ إنساني بيسوع يسوع المسيح، وربّنا يسوع لم يأتِ ليعرِض تعليماً عن الله، بل صارَ هو الطريق إليه، وهو طريقٌ كلّفهُ حياتهُ. فإذا أردنا أن نعرِف الآب ونراهُ، مثلما طلبَ فيلبُس اليوم، فعلينا أن نتأمل وجه يسوع، وأن نحمِلَ إليه كلَّ مَن يُريد أن يعرفهُ.
ربّنا يسوع لم يقل "عندي لكم طريقٌ إلى الآب، أو أنا أعرفُ الطريق"، بل قال: "أنا هو الطريق"، في هذا كشفَ عن الوحدة التي تجمعهُ بالله الآب، فلا يُمكن لإنسان أن يُعلِن هذا الكشف إلا إن كان واحداً مع الآب. ربنا يسوع لم يأتِ ليُعلَّمَ عن "الألوهية"، بل ليعيشها بيننا حُباً خدوماً ورحوماً وغافراً، وهوذا يدعو تلاميذهُ لا ليتذكروا تعليمهُ فحسب، بل ليتبعوهُ هو الطريق الحقُ إلى الآب. هذا الطريق غيّر حياة الرُسل ثم حياة الكنيسة الأولى وحياة العالَم كلّه، وجعل حياة بعض الناس (القديسين) أكثر إنسانية وأكثر إشراقاً.
يسأل بعضُهَم: ما معنّى أن تُعلِن الكنيسة قداسةَ حياة إنسانٍ ما؟ أوليستَ هذه "شِركةٌ وتوثنٌ"؟
وتُجيبُ الكنيسة: كلاّ، فقداسة حياة إنسانٌ تبِعَ ربّنا يسوع المسيح، الربُّ القائِم من بين الأموات، هي شهادة على صدِق كشفِ ربّنا يسوع اليوم: "أنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي"، فمعرفتهُ قدّست حياة هذا الإنسان (الإنسانة)، هذه الحياة الإنسانية التي لم يشمئز منها الله على الرُغم من كثرِة خطاياها، بل صارَ بشراً وكان معنا، لا ليبتلعنا ويُلغي وجودنا، بل يجعلنا أكثر إشراقاً، مثلما يروي لنا العهد القديم كيف أن الله دعا موسى ليقود شعبهُ نحو البرية مُحرراً إياهم من عبودية مصر، فظهرَ له في هيئة "عليقةً تشتعِل". فحضورهُ لم يُحرِق العليقة ويلغيها، بل جعلها مُضاءَةً، أكثر توهجاً، هكذا هو الله الآب عندما يحلُّ في إنسانٍ، يُعطيهِ الكرامةَ فيُقدسهُ، وقداسهُ هذا الإنسان مؤسسةٌ في محبتهِ لله الآب بيسوع المسيح.
إخوتي وأخواتي،
العالم اليوم يعرِض لنا طُرقاً مُختلِفة للحياة الحق. العالَم يُبهرنا يومياً بمشاهَد تدعو الناس ليتبعوهم بعيداً عن يسوع. لكن هذه الطُرُق تُتعبُنا وتُهلكُنا وتستهلكنا، لأنها خالية من حياة الله. وحدهُ الله يُعطينا الكرامةَ بيسوع المسيح. يسوع الذي عاش الطريق قبل أن يُطلبُ من تلاميذه أن يتبعوهُ فيه. طريق المحبّة، طريقٌ يتطلّب أولاً الإتحاد بيسوع المسيح، فهو وجه الله الآب وهو حضورهُ الحق. ومَن يُريد أن يرى الله الآب ويصلَ إليه، عليه أن يتبعَ ربّنا يسوع المسيح على الطريق الذي اختاره هو، لا الذي نختارهُ نحن ليسوع. فالمسيحية ليست فكرة فلسفية أو طريقاً نحو السعادة، بل علاقةٌ مع شخصِ يسوع المسيح. دعوةٌ ليعيشَ الإنسان حياة مُتميّزة، حياة ربنا يسوع المسيح، فلا يكفي أن تحمل إسم المسيح، بل أن نحيا المسيح أينما كُنّا، وأن يرى فينا الناس وجه يسوع الحي. فبالمسيح يسوع وحدهُ عَرفنا الله الآب وعرفنا الطريق الحقَّ إليه.
عندما دعا ربنا يسوع فيلبُس إستجاب الدعوة وراحَ وبقيَّ حيث ربّنا يسوع، ثم وجّه الدعوة لنثنائيل قائلاً: "الذي كتبَ في شأنهِ موسى في الشريعة وذكره الأنبياء، وجدناهُ، وهو يسوع أبنُ يُوسُف من الناصِرة"، وجاءهُ الجواب: "أمِنَ الناصِرة يُمكن أن يخرجَ شيءٌ صالحٌ". لم يتراجع فيلبُس أمام هذا الجواب، بل واصل الدعوة فقال: "هلّم وأنظر"، وهي ذاتُ الكلمات التي دعا فيها يسوع تلميذيه الأولين (يو 1: 35- 46). وهو يدعونا اليوم أيضاً لنكونَ بقُربِ يسوع حتّى نعرفهُ: "هلمَّ وأنظر". فالصداقة الحقيقة تتطلّب "قُرباً" أكثر من الشخص، وهذا القُربَ يعني محبتهُ ومحبتهُ تجعلنا نعرِفهُ، ومعرفتهُ تعني حفظٌ وصاياه والسير خلفهُ بأمانةٍ ونترُك في حياتنا أثرَ الله فينا، مثلُ هذه الحياة تجذبُ الناس إليها لأنها حياةٌ صادقةٌ لا غشَ فيها.
اليوم، تُعلَن لنا هذه البشارة أيضاً: "أنا هو الطريق والحق والحياة. لا يمضي أحدٌ إلى الآب إلاَّ بي" (يو 14: 6). والسؤال الذي نسألهُ هو: هل أعرِف يسوع معرفةً معلوماتية أم أُحبُه؟ ما الذي يُميّز حياتي كمسيحي؟ وإذا كان الجواب: لا يوجد ما يُميّزني عن باقي الناس، فيأتي السؤال المُوجِع والذي يتطلّب صدقاً وصراحةً مع الذات: أيُ طريقٍ اخترتُ لحياتي وأي إلهٍ أعبُد؟ فحياتُنا مثلٌ حياة غير المسيحيين وليس فيها ما يُميّزها، بل لا تُثيرُ تساؤولات الناس، فأضحت صلاتُنا مُلحةً اليوم: "يا ربُّ، إننا لا نعرف إلى أين تذهب، فكيفَ نعرِف الطريق".
التعرّف على حقيقةِ حياتنا يجعل الطريق إلى ربّنا يسوع أصدق، ويُنمي فينا ثمارَ القيامة: معرفة حقيقيةٌ لربّنا يسوع".
الأحد الثاني من القيامة (الأحد الجديد)
ثمار القيامة: الإيمان (يو 20: 19 – 29 )
تدعونا أمنّا الكنيسة اليوم لأن نتأمل في ثمارِ قيامةِ ربّنا يسوع المسيح في حياتنا، وأول الثمار هو: الإيمان. هذا الإيمان الذي نعيشهُ ضمنَ جماعة المؤمنين (الكنيسة) التي تأسست على إيمان وشهادةَ جماعة الرُسل الذين وَهبَ لهم الروح القُدس نعمةَ الإيمان بيسوع المسيح القائِم من بين الأموات، فغيّر حياتهم وفتح أبواب الإيمان للجميع. لذا، فإيمانٌ كنيستنا رسولي في أصلهِ، أي مؤسس على شهادة الرُسل، وإرسالي في طبيعتهِ: "كما ارسلني أبي كذلِكَ أنا أُرسُلكُم".
قيامة ربّنا يسوع ليست إذن خبراً نتناقلهُ ونحتفل به مرّة كل سنة، بل "خبرةُ حياة نعيشها كل يومِ مع جماعةُ المؤمنين بيسوع المسيح"، وهي بالضرورة حياة إيمان إرساليةٌ تحمل خبراً ساراً لكل مَن يقبلها: "مغفورة لكَ خطاياكَ"، أي، قد رُفِعَ الحاجز الذي يفصلنا عن الله، والله رفعهُ بيسوع يسوع المسيح. فتِحَ الباب الذي يفصلنا عن محبّة الله، والله هو الذي فتحهُ، فأفتح باب قلبِكَ له. إلهنا وملكنا باركَ تاريخنا الإنساني بتجسّد ربّنا يسوع، وتسامى بهذا التاريخ "الخاطئ" وقدّسهُ بالغفران.
محبّة ربّنا يسوع المسيح هي التي تجمعنا ككنسية وتُرسلنا إلى العالم مُبشرين بإسمهِ. هذا التجمّع ليس بدافعِ رغبةٍ شخصية، بل هو أسسه بحضورهِ المسالِم والمُفرِح فأضحى دعوة إنتماءٌ متطلّب ومُكلِف إلى جماعة المؤمنين الذين يجمعهم الروح القُدس ليتذكروا حضور ربّنا يسوع، ويُعينَ الواحد ضعفَ إيمان الآخر. نحن بحاجةٍ إذن إلى جماعة المؤمنين مثلما أن جماعة المؤمنين بحاجةٍ إلينا. عطيّة الإيمان التي يهبُها الروح القُدس لنا لن تفصلنا عن "جماعة المؤمين" بل تجذبنا إليهم، وتوما أحد الرُسل الذي تغيّبَ عن جماعة الرُسل، ولم يفهَم معنى: "إنه قام".
قصّة توما تؤكد لنا أيضاً على أهمية العلاقة الشخصية مع ربّنا يسوع ضمنَ جماعة المؤمنين، فعندما عرِف ربّنا يسوع شكوكَ توما لم يظهَر له بمعزّل عن الجماعة، بل في وسطِ الجماعة، فلا يوجد إيمان: "أنا ويسوع"، بل "أنا في الكنيسة مع يسوع". هذه العلاقة الشخصية ليست علاقة تُضاف إلى قائمة العلاقات التي نرتبِط بها في حياتنا، بل هي علاقة مهمّة لحياتنا فنتسائل عن معناها ونجتهِد لنعيشها. مثلما أن ربّنا يهتَم بنا وبخطايانا وبشكوكنا، فلم يترك توما في شكوكه ولم يوبخهُ، بل حضرَ إليه وقادهُ إلى الإيمان: "ربّي وإلهي"، وفي حضوره أنعمَ علينا بالتهنئة: "طوبى لمن لم يروني وآمنوا".
حياة الإيمان هذه ستقود مَن يؤمِن بها إلى السيرَ خلفَ يسوع حاملاً الصليب. فمعَ أن توما يُبدي شكوكاً في إعلان التلاميذ بأنهم رأوا الرّب، مثلما شكَّ التلاميذ أنفسهم بإعلان مريم المجدلية بأنها رأت الرّب، إلا أنه يُعلِنَ حقيقة إيماننا المسيحي، أنه إيمانٌ مكلفٌ لأن كلَّ محبة صادقة تكون مُكلفةً. محبة الوالدين لأبنائهم تُكلفهم الكثير من الجهود والتعب إلا أن فرحونَ بما يُقدمونهُ لهم، وهي تترُك أثرها في حياتهم، فيتخلّون عن إختياراتٍ كثيرةٍ من أجل راحة وسعادة أبنائهم. هكذا، يسألنا توما اليوم: أرني آثار مسيحيّتِكَ في حياتِكَ! فهذه المسامير دليلٌ على أثر الإيمان بيسوع في حياتِك وتعلّقكَ به.
هذا يعني أن الشهادة لبُشرى ربّنا يسوع المسيح هي التي تجعل الإيمان ممكناً، وليس رؤية ربّنا يسوع المسيح. هناك مئات من الناس رأت وعاينت أعمالهُ وسمِعَت أقواله ولم تؤمِن به. وحدها الشهادة لحضورهِ في حياة الرُسل، وهي عطيّة الروح القُدس، هي التي أنعشَت الإيمان، شهادة جعلتهُم يستشهدونَ من أجلها، ونحن مُرتبطونَ بهذه الشهادة التي بدأت بشهادة الرُسل أنفسهِم ووصلت إلينا، لذا، نحن نُعلِن في قانون الإيمان أننا نؤمنِ بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، فالروح القُدس يحفظَ ذكرى حضور يسوع حياً في حياة الكنيسة، لذا، بارَك ربّنا يسوع اليوم بعطية السلام ونفخَ فيهم الروح القُدس وقال: "إقبلوا روحَ القُدس". فبالنسبة ليوحنا الإنجيلي حدثُ قيامةِ يسوع كان بدءُ عمل الروح القُدس، والروح القُدس يحفظ ويُذكّر الكنيسة بكل ما قالهُ ربّنا وعملهِ ليكون حضوره فينا ومن خلالنا فاعلاً وتُنعِش محبتهُ في قلوبنا.
لقد تركَ ربنا يسوع آثارَ المسامير وجرحَ جنبهِ مفتوحاً، ولم يمحوها؛ وهو الشافي، ليُقول لتوما، ولنا جميعاً: هذه هي آثارٌ محبتي لكم! إصنعوا هذا لذكري. فإن لم تظهر في حياتنا آثار مسيحيتنا، سيكون من الصعب إختبارُ معنى قيامة ربّنا يسوع المسيح. لذا، تأتينا كلمة الله إذن اليوم لتسألنا عن آثارِ القيامة في حياتنا؟ لتسألنا عن الغفران الذي قبلناه وعن يدِ السلام التي مددناها لاخوتنا وأخواتنا؟ كلمةُ الله تتحدانا: هل مازلنا خائفينَ خلفَ أبواب الخطيئة التي أبعدتنا عن إلهنا، أم تجرأنا لنخرج إلى فرحِ القيامةِ مُبشرين العالمَ أن الله غفرَ لنا خطايانا، وهو حاضرٌ ليكون معنا ونحن نُبشر العالم بفرحِ قيامته، وثمارها: غفران وسلامٌ بإلهنا؟
عيد القيامة:
بُشرى القيامة لأعمال الرحمة
"جئنَ إلى القبرِ وهنَّ يحملنَ الطيبَ ... فوجدنَّ الحجرَ قد دُحرِجَ" (لو 24: 1- 12)
تتفق كل الأناجيل على أن النسوة كُنَّ أولَ من تلقى بُشرى القيامة، والسبب لأنهّن بكّرن إلى القبرِ ليقمّنَ بعمل الرحمة: "تطيبُ جسّد يسوع" أو "زيارة قبرهِ كما حصل مع مريم المجدلية". لم يكن يسوع من أورشليم بل جاء من ناصرة الجليل، وتبعنهُ هؤلاء النسوة من الجليل، وشاهدَّن كيفَ أُهينَ وصُلِبَ وماتَ خارج أسوار أورشليم، فكانت المحبّة والإيمان تدفعهنَّ ليقمنَّ بهذا العمل، وهو عمل رحمةٍ مجّاني لأنه خالٍ من محبة الذات (ليس أنانياً)، ويأتي بدافعِ الإيمان به مُخلّصاً. كان تطيبُ جسد يسوع، والذي لن يكون له مَن يُكرِم جُثمانهُ بسبب العداوة التي أبداها رؤساء الشعب تجاههُ، أرفعُ أشكال أعمال الرحمة إذ لن تتوقّع النسوة أن يتلقيّن شُكراً أو مديحاً من شخص على هذا الصنيع، بل لربما يتعرّضنَّ للخطر، فكان عملاً جميلاً يُقدمنه لله جواباً لمحبتهِ لهنَّ بيسوع المسيح.
تطلّب عمل النسوة هذا جُهداً متميزاً، مثلما يتطلّب كل عمل رحمة صادق، فبرهنوا على إخلاصهنَّ ومحبتهنَّ لربنا يسوع. محبةٌ تتغلّب على الموت وتتجاوزهُ، وعندما يُؤِمن الإنسان بالآخر ويُحبهُ، سيعمَل المُستحيل ليكون إلى جانبهِ، حتّى إن فرّق الموت بينهما. كان على النسوة أن يشترين الطيوب ويُهيّئنهُ قبل حلول يوم السبت. لقدّ كُنَّ آخر مَن تركَ القبر وأولَ الزائرين في اليوم الأول من الأسبوع (لو 23: 56)، وقُمنَّ بمسيرة طويلة بدأت مساء السبت ليصلّن إلى القبر صباح الأحد عند الفجر.
لم تكن المرّة الأولى التي ينالُ فيها الإنسان في الكتاب المُقدس "بُشرى سارّة" تجاوباً مع عمل رحمةٍ يقوم به. فسفرُ التكوين يروي لنا أن إبراهيم سجدَ طالباً من ثلاثة رجالٍ غرباء وقفوا أمام خيمتهِ يوماً: "سيدي، إن نلتُ حظوة في عينكَ، فلا تجز عن عبدِكَ، فيُقدم لكم قليلٌ من الماء فتغسلونَ رجلكُم وتستريحونَ تحت الشجرة، وأقدم كِسرة خُبزٍ فتسندون بها قلوبكم ثم تمضونَ بعد ذلك" (تك 18: 3- 4). لقد رأى بعيون الإيمان مالم يراه كثيرون غيرهُ، مثلما رأت النسوة في يسوع ما لم يراه كثيرون حتّى أقربُ الناس إليه، تلاميذهُ. فدخل الرجال الثلاثة خيمةَ إبراهيم وحظيوا بضيافة متميزة منه أشرف هو بنفسهِ على ذلك، فنالَ هو بُشرى الحبل بإسحق، من رحمٍ ساري الميّت، فكان إبن الوعد وإبن الرجاء.
ففي سنة الرحمة تدعونا أمنا الكنيسة لأن نشهدَ لرحمة الله المُحبة التي صارت لنا بيسوع المسيح، وجه رحمة الآب. ربّنا مدَّ يدهُ الرحومة والشافية لكل مَن إلتقاهُ، وهو يُريدنا أن نواصِل رسالتهُ هذه. هذا ما دفعَ الأم تريزا والتي سنحتفل هذه السنة بإكرامها "قديسة" لأن تترك ديرها وتتوجّه إلى شوارع كلكُتا، ومن ثمة إلى مُختلَف بُلدان العالم، لتعتني مع أخواتها بالمُهَمَشين والمتروكين، وتُقدم لهم الإكرام اللائق بهم من دون السؤال عن دينهم أو عرقهم أو جنسهم، ليعيشوا لحظاتٍ يشعرون بها بإنسانيتّهم التي فقدوها من جراء الظلم المُنتشِر في عالمنا. لقد قالها أحدهم لها: "عُشتُ حياتي كالحيوان، وها أني أموت كالملاك بسبب محبتك وإعتنائك". لم يقم بإدانةِ الآخرين ولم يطلب الإنتقام لتعاسة حياتهِ، بل غادرَ الحياة محبوباً، مثلما لم يذكر ربّنا يسوع جمعة الخيانة والرفض والعذاب والموت، بل سلّم روحهُ بيد الله القدير. جميلٌ أن يودعنا الناس وهم يحملون ذكريات طيّبة عنّا.
إيمانٌ النسوةِ ومحبتهنَّ، إيمانٌ مريم ومحبتها، قادهنَّ ليكونوا قُربَ يسوع. زيارة القبرِ لم تكن للبُكاء عليه فحسب، بل كانت لإكرامهِ وللصلاةِ من أجلهِ، وهو عمل رحمةٍ روحي تطلبهُ الكنيسة منّا دوماً ولاسيما في هذه السنة، سنةُ الرحمةِ. ولأنهنَّ بكّرنَ نحو القبرِ تلقينَ البُشرى السارة: "إنه قام، إنه حي"، فالمحبة التي عاشها لن تموت لأنه لم يأتِ ليموتَ بل تجسّد ليُحيي ما كان ميّتاً، ولن تقوى عليه أبواب الجحيم، لذا، أقامهُ الله ربّاً مثلما أقامَ لأبراهيم الشيخ نسلاً. ربنا يسوع المسيح، وجهُ رحمة الله الآب، والذي بشّرنا بمحبةِ الآب حناناً وغفراناً وطيبةً، رفعَ الحجارة (الخطيئة) التي كانت تمنعُ الإنسان من أن يكون في شِركة تامّة مع الله، مؤمناً أن في المحبّة كل الحياة، وهكذا لم يتمكن الموت من أن يغلب الحياة، بل إنهزمَ البُغض أمام المحبة، فجاءت البُشرى للساهرين وللذين يبحثون عنه، النسوة.
إخوتي وأخواتي،
عالمنا ينتظرُنا اليوم لنكون "رُحماء"، وهذه الرحمة تبدأ في قبول رحمةِ الله لنا الذي رفعَ عن حياتنا حجارة الخطيئة ومكّننا من أن نقترِبَ منه ونشترِكَ في وليمة المحبة التي أعدّها لا. فلا وقت لنا للتباكي على الماضي وعلى خطاياهُ وأخطاءهِ، فهذه كلّها تحت عناية الآب المُحِب. نحن مُطالبونَ بأن نُظهِر في حياتنا أننا أبناءُ القيامة. فإذا لم يرَ الناس فينا ثمارَ قيامة ربّنا يسوع المسيح اليوم، يكون إيماننا باطلاً! عالمنا ينتظر أن يشهد لحياة ربّنا يسوع فينا: " فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية 2 : 20).
اليوم قام المسيح يسوع، واليوم نحن مدعوون لأن نشهدَ لفعلِ الله العظيم في حياتنا. لنسمَح لله أن يرفع عن قلوبنا حجارة الغضب والعداوة والخصام والحسد والنفاق والكذب! فالقيامة في حياتنا، ليست إحتفالاً لذكرى حدث مضى، بل حياة متجددة وقيامة مُستمرةُ لا توُصفَ بالكلمات، بل تُعاش من خلال حياتنا التي يُباركها الله بالفرح والمحبة والسلام. بالرأفة واللطف والحنان. بالصدق والأمانة والشجاعة.
الجمعة العظيمة
"هذا يسوع ملكُ اليهود" (متّى 27: 37)
العظة الثانية
الصليبُ يشهد لذبيحة الطاعة التي قدّمها ربّنا يسوع المسيح لله من أجل حياة الإنسان، فتمَّ فيه ملءُ الكهنوت. ولكن الشعب كان ينتظر "النبي" الذي وعدَ به الله موسى: "يُقيمُ الربُّ إلهَكَ نبياً مثلي من وسطِكَ، من إخوتِكَ، فلهُ تسمعونَ" (تث 18: 15). والشعب كان بحاجةٍ دوماً إلى أنبياء صادقين، أنبياء لا يتنبؤون بما سيحدُث في قادم الأيام والسنين، بل أنبياء يشعرون بما يشعر به الله ويُعلنون الحقيقة الإلهية. عندما نقرأ أسفار الأنبياء إشعيا وأرميا وحزقيال وهوشع وعاموس وميخا نعرِف معنى النبؤة فهم يُعلنون ألمَ الله على الظلم الذي يعيشهُ اليتم والأرملة والغريب والضعيف.
في قصّة التجلي ظهرَ ربنا لموسى (وهو يمثل الشريعة الكهنوت)، ولإيليا النبي (الذي يمثل الأنبياء) وكانت الناس تنتظر عودتهُ قبل ظهور الماشيحا. نحن نعرِف أن الله اختار إيليا ليواجه الملك آخاب والذي كان ملكاً فاسداً وفساده كان: أنه تزوّج بإيزابيل الوثنية والتي بنت هياكل بعل وأحضرت كهنة بعل فكان ذلك سبب عثرة الشعب وسقوطهم، لإنها قادتهم إلى عبادة آلهة غير الله.
وقفَ إيليا النبي وتحّدى الملك آخاب ليواجه كل كهنة بعل الـ 450، وقَبِل الملك آخاب التحدي. وتقول القصة أن الكهنة قضوا النهار كلّه في الدعاء والصراخ إلى آلهتهم، حتّى أنهم جرحوا أنفسهم، ولم يأتي لهم جواب (1 مل 18: 20- 29). ثم أصعدَ إيليا المحرقة على مذبح مبني على إثني عشر حجراً وصلّى بمهابة وإحترام قائلاً:
"أيها الربُّ، إله إبراهيم وإسحق وإسرائيل، ليُعلَم اليوم أنّك إلهُ في إسرائيل وأني أنا عبدُكَ وبأمركَ قد فعلت كل هذه الأمور. أجبني يا ربُّ، أنت الإله، وأنك أنتَ رددت قلوبهم إلى الوراء" (18: 36- 37).
وقَبِل الله الذبيحة من دون أن يُهِلِكَ الإنسان نفسه. لأنها كانت ذبيحة الشُكر نابعة من قلبٍ مؤمن فرحٌ برحمة الله ومحبتهِ.
اليوم هناك مثل هذا العدد من كهنة البعل من حولنا يحاولونَ جرّنا لعبادتِهم، والغريب إننا نعبدهم فنقدم لهم من وقتنا وجهودنا وتعبنا. كم نذبح لآلهة الغنى والسلطة واللذة والمكانة المتميزة؟ كم من علاقاتٍ إنسانية تُقتَل يومياً من أجل أن نحصلَ على واحدة من هذه الآلهة البعلية، وكهنتها يطوفون من حولنا؟ لم نتعلّم أبداً أن هذه لن تُشبعنا، فالذي يطمح ليكون لهم مليون سيطمع بالمزيد عندما يحصل عليه، والذي يبحث عن اللذة سيُرهِق نفسه ليحصل على المزيد. والذي ينال منصباً سيُحارِب ليرتفِع ... أوَ لا نبحث جميعاً ليقول فينا الناس كلمة حسنةً ونكون محطّ رضاهم؟ أوَ لا نُرهِق أنفسنا جميعاً ليرضى عنّي فلان أو فلان؟ وكم من وقت وجهد وعلاقات نُضحي لنُحقق هذه؟ ونقضي الحياة كلّها نُتعِب أنفسنا ونُهلكها في البحث عن المزيد ليأتي صوت ربّنا قائلا: "تكفيكَ نعمتي"، ويُعلِن أوغسطينوس: "قلبنا لن يرتاح إلا فيكَ. كهنةُ "بعل" كثيرون هذه الأيام وهم يلتفون حولنا يُغرون الشبيبة بالأباطيل التي يعرضونها وبالعبادات المزيفة التي ينشرونها ويوهمون الناس بأنَ لنا فيها كل السعادة، وعلينا أن نعيش كهنوتنا النبوي في أن نفضحهم ونعلِن أن الله المحبة والغفران والرحمة هو كفايتُنا. لا يهم إن كنت غنياً أو فقيراً، إن كنتَ رئيسا أو مرؤوساً، سعيداً أم حزينا، المهم: أن تعملَ مشيئة الله وتعبدهُ هو وحدهُ.
من على الصليب يقول لنا ربّنا يسوع:
إنظر إليَّ، لستُ غنياً، بل فقيرٌ ومعدومٌ ولكني مؤمنٌ بأني في يدِ الآب الحنون: "يا أبتِ، في يديكَ أستودعُ روحي.
إنظر إليَّ أنا مُتألمٌ ومُعذبٌ جسدياً وروحيا ولكني مؤمنٌ بأني في يدِ الآب الحنون: "يا أبتِ، في يديكَ أستودعُ روحي.
إنظر إليّ مُهانٌ ومُستهزءٌ به ولكني مؤمنٌ بأني في يدِ الآب الحنون: "يا أبتِ، في يديكَ أستودعُ روحي.
إنظر إليَّ لا سلطةَ لي ولا مكانة متميزة بل مصلوب خارجَ المدينة ولكني مؤمنٌ بأني في يدِ الآب الحنون: "يا أبتِ، في يديكَ أستودعُ روحي.
إنظر إليَّ فإيماني بالله يجعلني نقيَّ القلب ليس لي ضغينةٌ وغضبٌ حتّى تجاه مَن عذبوني وعادوني، لأني جُعتُ وعطشتُ لبر الله الآب وهذا يكفيني.
ربّنا عاشَ التطويبات التي علّمها على الصليب فكان الأسعد على الأرض كلّها، لأنه لم يتعبّد لآلهة مزيفة، وكان حُراً بالكفاية ليكون كلّهُ لله، وهكذا أتمَّ كل النبؤوات لأنه كان يرى العالم بعيون الله، وهو يدعونا لأن نلتزِم العالم مثله: "آيتها المرأة، هذا أُبنُكِ" ... هذه أمُكَ". (يو 19: 26- 27).
هذه الحُرية جعلتهُ ملكَ الملوك مثلما كتبَ بيلاطُس "بالعبرية واللاتينية واليونانية: "يسوع الناصري ملكُ اليهود" (يو 19: 19)، فأعلَن من دون أن يدري إنهيار ملكوت الشيطان الذي يُمثلهُ هو. يسوع هو الملكُ الذي حاربَ الشيطان وتغلّب عليه منذ بدءِ رسالتهِ، ثم عادَ وجمعَ لله شعباً دبّرهُ بمواهبَ عديدة، وهذه كانت أهمُ واجبات الملك: أن يرعى شعبَ الله وأن يُحارِبَ حروب الله، وحربنا مثلما يقول مار بولس هي ضد ظُلمات هذا العالم: "
"وبَعدُ فتَقوَّوا في الرَّبِّ وفي قُدرَتِه العَزيزَة تَسلَّحوا بِسِلاحِ الله لِتَستَطيعوا مُقاوَمةَ مَكايدِ إِبليس، فلَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ ووُلاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، والأَرواحِ الخَبيثةِ في السَّمَوات. فخُذوا سِلاحَ الله لِتَستَطيعوا أَن تُقاوِموا في يَومِ الشَّرّ وتَظَلُّوا قائِمين وقَدِ تَغلَّبتُم على كُلِّ شيَء. فانهَضوا إِذًا "وشُدُّوا أَوساطَكم بِالحَقّ والبَسوا دِرْعَ البِرّ وشُدُّوا أَقْدامَكم بالنَّشاطِ لإِعلانِ بِشارةِ السَّلام"، واحمِلوا تُرْسَ الإِيمانِ في كُلِّ حال، فبِه تَستَطيعونَ أَن تُخمِدوا جَميعَ سِهامِ الشِّرِّيرِ المُشتَعِلَة. واتَّخِذوا لَكم خُوذَةَ الخَلاص وسَيفَ الرُّوح، أَي كَلِمَةَ الله.
أَقيموا كُلَّ حينٍ أَنواعَ الصَّلاةِ والدُّعاءِ في الرُّوح، و لِذلِكَ تَنبَّهوا وأَحيُوا اللَّيلَ مُواظِبينَ على الدُّعاءِ لِجَميع القِدِّيسين ولِي أَيضًا لِيوهَبَ لي أَن أَتَكلَّمَ وأُبَلَّغ بِجُرْأَةٍ سِرَّ البِشارة، وفي سَبيِلها أَنا سَفيرٌ مُقَيِّدٌ بِالسَّلاسِل. عَسى أن أَجرُؤَ على التَّبْشيرِ بِه كما يَجِبُ أَن أَتَكَلَّم. (أفسس 6: 11- 20)
يقول البعض: كيف لنا أن نقرأ قصص حروب الإبادة التي يأمر بها الله؟ كيف لنا أن نؤمِن بكتب العهد القديم وهي مليئة بهذه الصور؟ كيف نتقبل رفض الله لشاؤول الملك الذي أبقى على حياة ملك العماليق وخيرة غنمهِ واختار داود بدلاً عنه؟
نحن نؤمِن بالكتاب المُقدس كلّه، ونؤمِن أن ربّنا يسوع المسيح هو الحمل الذي يفّك أختام الكتاب لأنه ذُبِحَ وآفتدى لله بدمه أناساً من كل قبيلة ولسانٍ وشعبِ وأمةٍ، وجعل منهم مملكة وكهنة يملكون على الأرض" (رؤ 5: 9- 10). فالمسيح يسوع هو الذي يُفسِر لنا الكتاب المقُدس، وفي نورهِ نفهم معنى كلمة الله، لأنه الكلمة صارَ بشراً بيننا.
أشارَ إلينا أوريجانوس كيف لنا أن نقرأ هذه القصص، قراءة روحية رمزية، فالله غيورٌ على شعبهِ ولا يقبل أن يُشاركه العهد آلهةٌ أخرى. وهناك عباداتٌ مزيفة تقفُ بيننا وبين الله ويجب أن تُبادَ جميعاً. فأن تعمل مشيئة الله يعني أن تعملها كلَّ حياتِك وفي كل جوانبها. تخيلوا رجلاً يُقدِم هدية لزوجتهِ في عيد زواجهم ويقول لها: أني أُحبُك وأمينٌ لك 95% من الوقت. هل ستفرح الزوجة بذلك؟؟؟
ربّنا يسوع رفض التلاعب مع الشيطان الذي يتهمُ الناس دوماً ويسعى ليُديمَ آلاعيبه بيننا. عندما أحضروا لربنا يسوع المرأة الزانية رفض أن يواصِلَ مؤامرتهم، فطالبهم بالتقدم لرجمها إن كانوا بلا خطيئة، فتراجعوا. ثم وقفَ وأعطى للمرأة حياة جديدة. بدءً جديداً: "إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة.
من على الصليب يقول لنا ربّنا:
إنتبهوا لأنفسكُم فأنتم كهنة وأنبياء وملوك، أحكموا مشاعركم وعواطفكم وأهوائكم، ولا تتلاعبوا ع شيطان الثرثرة القاتلة، ولا تدخلوا لعبة إتهام الآخرين وتبرئة أنفسكم. أغفروا وأنشروا السلامَ حيثما أنتم. كونوا ملوكاً في بيوتكم ولا تدعوا كهنة البعل يسرقون منكم أبنائكم في عباداتٍ تافهةٍ. عيشوا كهنوت المُصالحة ولتكون بيوتكم هياكل تمجّد الله دوما. وإذا رفضكم الناس فأفرحوا لأنكم بذلك تكونون أبناء الله تنشرون السلام حيثما أنتم.