الأحد الأول من الميلاد
رأينا نجمهُ ... فجئنا نسجدُ له (متّى 2: 1- 23)
كان اليهود ينتظرون "حجَ" الأمم نحو الله: "ويَكونُ في آخرِ الأَيَّام أَنَّ جَبَلَ بَيتِ الرَّبِّ يُوَطَّدُ في رَأسِ الجِبالِ وَيرتَفعُ فَوقَ التِّلال. وتَجْري إِلَيه جَميعُ الأُمَم وتَنطَلِقُ شُعوبٌ كَثيرةٌ وتَقول:هَلُمُّوا نَصعَدْ إِلى جَبَلِ الرَّبّ إِلى بَيتِ إِلهِ يَعْقوب وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه فنَسيرُ في سُبُلِه لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ" (إش 2: 2- 3)، فرأى متّى الإنجيلي تحقيق هذه النبؤات في ولادة ربّنا يسوع المسيح من خلال استجابة مجوس من المشرِق لرؤية نجمٍ مميّز في السماء فجاؤوا ليبحثوا عن الطفل- الملك وليُقدموا التعبّد اللائق له. المجوس: حُكماء من المشرق يتمتعون بمعرفة دينية ولهم دراية عميقة في الفلَك. تميّزت حياتهم بحُبهم للحقيقة وكان لهم الإستعداد للترحال بحثاً عنها. ونحن نعرِف أن متّى الإنجيلي كان يُريد أن ينقل لنا "تعليماً لاهوتياً" أكثر منه معلومات فلكية تاريخية، لاسيما "موضوع إعلان مسيحُ الله للوثنيين". لقد أرادَ أن يقول لنا: إنَ الحُكماء (المجوس) تعرفوا إلى المسيح يسوع، فالحكمة تقود الإنسان الباحِث عن الحقيقة إلى المسيح، كما تقود النبؤات المؤمن إلى المسيح أيضاً.
فمع المجوس تنطلق البشرية كلّها نحو المسيح حاملين انتظارات البشرية بأسرها للقاء المسيح، المُخلِّص. وهو (أي متّى)، وعلى مثال سفر التكوين، يُريد إخضاع الخليقة للخالِق ويهبَ للإنسان كرامة المخلوق على صورةِ الله. حيث كان الإنسان يتوجّه نحو النجوم ليعبدها ويُقدِم لها الذبائح لتدفع عنه تهديدات الطبيعة، يأتي "نجم المجوس" هذا ليُشيرَ إلى الإنسان، فهو الذي يُحترَم ويُكرّم، فالنجم يتبعُ الإنسان ويُشيرُ إليه، لأن الإنسان، المخلوق على صورة الله، أعظمُ من كل الخلائق. فمحبّة الله هي التي تُسيّر الكون، وتُحرِك الكواكب، فلا مجال للإيمان بالقدرية أو الصُدفة، بل بروح الله التي ترفرف على وجهّ الأرض (تك 1: 2)، الإيمان بمحبتهِ التي ظهرَت بملئها بيسوع المسيح.
بادرَ الله وحضرَ إلى جانب الإنسان، فولد في بيت لحم، واستجابَ المجوس لهذه المُبادَرة ليس إعجاباً بهذا الحدث، بل تحركاً مسؤولاً: "رأينا ... فجئنا ...". حضور الله يتطلّب استجابة مُلتزِمة من الإنسان. هذه الإستجابة تتضمن بحثاً يقظاً ومسؤولاً. فالمُجرِب يحومَ حولنا، ويُريد أن يُعكّر صفاءَ المسيرة، ولا نستغرِب إذا كنا، مع حُسن نوايانا، نلتقي "الشخص" الذي يسدي الينا بنصائح خاطئة (هيرودس إنموذجاً)، والتي من شأنها لو تحققت أن تُدمِر كل المسيرة. اليقظة ستجعلنا نميّز إرداة الله التي تتشابَك مراراً مع مصالح الإنسان الأنانية مؤمنينَ أن الله الآب لن يتركنا وحدنا، بل سيأتي إلى عوننا ما دُمنا أمناء في المسيرة. جاؤوا يسألون: "أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه" (2: 2)، وهي نفس العبارة التي ستُكتَب على الصليب: "ووَضعوا فَوقَ رَأسِه عِلَّةَ الحُكمِ علَيه كُتِبَ فيها: "هذا يسوعُ مَلِكُ اليَهود" (27: 37). ففي بحث المجوس عن الطفل تضطرِب أورشليم مثلما إضطربَت يومَ دخول ربّنا يسوع أورشليم: "إرتجّت المدينةُ" (متّى 21: 1).
"دَخَلوا الَبيتَ فرأَوا الطِّفلَ مع أُمِّه مَريم"، تُشيرهذه العبارة إلى مكان تواجد الطفل، حيث يهبُ الله نفسه للإنسان، ويستسلم الإنسان إلى محبّة الله. مريم تحتضنُ الله تحت سقف بيت غير معروف، وهي تنتظر "مَن يبحَث" عن الله لتتعّبد له. لم تنطق بكلمةٍ أمام حضور الله، بخلاف هيرودس المُضطرب والقلقِ، والذي جعل الجميع يضطرِبون معه، بل واصلت العناية بالطفل لتُغذيه، وتحميه، وهذا هو فعل العبادة الذي التزمت به، وهي تواصِل هذا العمل إلى يومنا هذا فتُرشدنا مثلما أرشدت الخدَم: "إفعلوا كل ما يأمرُكم به". مريم حاضرة لأن تُقدِم الأبن الإلهي لكل مَن يبحث ويجد ويعبُد، لأنها هي الأولى التي تتقدمنا في فعل العبادة، فحين كان المجوس يتبعون النجم، كانت أمنا مريم تعتني بالطفل، وحين كان هيرودس يبحث عن الصبي، كانت تعتني هي بالصبي، وحين فتش العلماء في الكتب كانت هي تعتني بالطفل، حتّى قدمتهُ للعالم. في فعل الحب والعطاء الكامل سنجد المسيح دوماً، حيث الله يهبُ نفسه للإنسان، وحيث الإنسان يستقبل هذا الحب بتواضع وطاعة إيمان؛ سنجد المسيح ثمرة هذا اللقاء الإلهي – الإنساني.
لم يسجد المجوس أمام هيرودس الملِك، ولكنهم سجدوا للطفل المولود ملكاً، وقدّموا له هدايا تُعبّر عن إكرام الشعوب لإله إسرائيل مثلما أعلنَ إشعيا: "حينَئذٍ تَنظُرينَ وتَتَهَلَّلينويَخفُقُ قَلْبكِ وَينشَرِح فإِلَيكِ تَتَحوَلُ ثَروَةُ البَحْر وإِلَيكِ يأتي غِنى الأُمَم. كَثرَةُ الإِبِلِ تُغَطِّيكِ بُكْرانُ مِديَنَ وعيفَة كُلُّهم مِن شَبَأَ يَأتون حامِلينَ ذَهَباً وبَخوراً يُبَشِّرونَ بِتَسابيحِ الرَّبّ" (إش 60: 5- 6). وليُعبروا عن ألقاب المسيح الثلاثة: الذهب إشارة إلى ملوكيتهِ (آمنوا به)، والبخور إلى آلوهيتهِ (قدّموا فعل العبادة له، قابلية الإنسان للإستسلام لله) والمُر إلى سرّ آلامهِ (أعلنوا سرّ آلامه وإمكانية الإنسان للمُشاركة في سرّ الخلاص والتبشير). تعبّدهم جاء خاتمة بحثٍ مُشتاق إلى سّر محبّة الله الذي دفعتهُ ليكون إنساناً إلى جانب الإنسان. هم كانوا متأكدين أن الطفل – الملك ليس بحاجةٍ إلى هذه، لكنها كانت هدايا رمزية تُعبّر عن تعبدهم واستسلامهم التام إليهِ، وهذه هي الهدية العُظمى التي ينتظرها الله من الإنسان: الإيمان، التعبّد المُحبِ من دون خوفٍ، والتبشير به إلهاً مُحباً خلال شهادة الحياة فيُشاركوه عمل الخلاص.
الأحد الرابع من البشارة
يوسف الصديق: إيمان وطاعة ملتزِمة (متّى 1: 18- 25)
يُخبرنا متّى الإنجيلي أن مريم كانت مخطوبة ليوسف، والخطوبة في العُرف اليهودي آنذاك كانت تعني عقداً قانونياً بين شريكين، بحيث كان بالإمكان أن تُدعى زوجة يوسف حتّى لو لم تنتقل بعد إلى البيت الزوجي. كانت المخطوبة تعيش في بيت أبيها سنة واحدة ثم تنتقل في احتفال إلى منزل زوجها، وهذا ما كان متوقعاً في خطوبة يوسف ومريم، ولكن، يوسف أكتشفَ أن مريم خطيبتهُ حُبلى، ولم يكن يُوسف يعرِف ما الذي دبّره الله، فظنَّ أن مريم نكثت بالعهد، وكان عليه أن يهجرها أو أن يقدمها إلى محكمة أو أن يُسلّمها كتاب طلاق سراً، وهذا ما فكّر فيهِ لأنه لم يرد أن يشهرها. لقد أحبَّ مريم حتّى وإن خيّبت ظّنهُ، وأرادَ تحقيق العدالة مثلما تُوصي الشريعة، ففكّر في حلّ يجمع ما بين العدالة والحُب والرحمة، وقرر أن يُخليها سراً دون أن يُعرّضها لفضيحة.
يوسُف الصديّق (البار) هو إنموذج الإنسان الذي يُبقي الحوار مع الله متواصلاً لاسيما في الساعات الحرجة في حياتهِ فيُصلي في أزماتهِ. وكشفَ بذلِك عن صداقةٍ أصيلة مع الله. ولأن الله لن يتركَ "الصديقَ" في ضيقهِ فأرسلَ إليهِ ملاكهُ ليُثبّته في الإيمان ويكشِف عن هوية مريم، ويُعرفه بأن ما يختبره في حياتهِ إنما هو تواصلٌ لما وعدَ به الله وباركهُ في سابِق الأجيال. فالحبل لم يكن بسبب خيانة مريم ليوسف بل بتدخُلٍ إلهي: "يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (متّى 1: 20)، في إشارة واضحة إلى أننا أمام خلقٍ جديد: "في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض وكانَتِ الأَرضُ خاوِيةً خالِيةوعلى وَجهِ الغَمْرِ ظَلام ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه" (تك 1: 1-2).
تصرّف الله مع يوسف مثلما يتصرف صديقٌ حميمٌ مع صديقهُ، فيكشِف له عن "السر" الذي جهلهُ، كما فعل الله مع إبرهيم عندما أرادَ معاقبةَ أهل سدوم وعموّرة (تك 18: 17- 20)، وكشفَ ليوسُف عن سرّ الحبل وحرره من قلقه وهمومهِ في نفس الوقت، وشرح له "سر" هذا الحبل ورسالة الطفل، وكلّفه برسالة: "أن يُسمي الطفل" ليكون والدهُ الشرعي، وشرح له معنى الأسم: "يسوع: لأنه سيُخلص الشعب من خطاياهُ". وهذا الخلاص له توجهان: يُحرره من الخطايا وعودة الشِركة مع الله التي فُقدِت بالخطيئة.
برارة يوسف كانت في إستعدادهِ ليكون تحت تصّرف الله وفي خدمتهِ، مؤمناً بهِ حتّى لو لم يفهَم ما يُريده الله منه. برّه كانَ في قُدرتهِ على تمييز إرادة الله لأنه أصغى بإعتناء إلى صوتِ الله. شعرَ بما يُريد الله منه. سَمحَ يوسف لله بأن يأخذ المكانة المُطلقة في حياتهِ، ولم يدع لأفكاره وتأملاتهِ أن تجّره إلى طُرق عنيفة أو ظالمة وإلى حلول فوضويةٍ، بل واصل السير في ظلمة الأفكار التي تتصارَع فيه، حتّى "جاءه الله" في زيارة خاصّة فأنارَ الطريق أمامهُ، فانسحبَ من "إجراءات المنطق البشري"، واستسلمَ كلياً لله (نامَ نومَ المتأمِل)، حتّى لو لم يفهم تدبير الله ومطالبه: "لهُ يَرُزقُ حَبيبَه وهو نائم" (مز 126: 2)، ونومُ الصدّيق ليس تهرباً من مشروع الله، بل إنفتاح للحضور الإلهي في حالةٍ من الوعي حيث يضعُ الإنسان جانباً افكارهِ وتصاميمهِ الخاصة ليسمَح لله بالتفكير فيه ومن خلالهِ.
قَبِلَ يوسف، من خلال مريم سرّ الله أيضاً، وأُعطي له أن يهبَ للطفل إسماً يُعّبر عن هويتهُ ورسالتهُ: وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم". فكان يوسف أول الإنجيليين، أو المُبشرين بالخلاص الذي صارَ لنا بربّنا يسوع. على يوسف الإعتناء بالأم وطفلها، وأن يكون الحارس الأمين على "تابوت العهد"، مريم على مثال داود الملك، يتقدمه مُصليا راقصاً. لقد صارَ مع ظهور الملاك شريكاً في سرّ تجسّد الله، وعليه أن يتبنّى الطفل قانونياً كإبنهِ. الله هو الذي سمّى الطفل: "لاتَخَفْ فإِنِّي قَدِ آفتَدَيتُكَ ودَعَوتُكَ بِآسمِكَ، إِنَّكَ لي" (إش 43: 1)، فهو له، ولكن بطاعة يوسف صارَ هذا الولد "إبنَ داود".
"فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ".كشفَ يوسف عن طاعتهِ وفعلَ كل ما امرَهُ به الملاك دون إبطاءٍ. فلم يُؤجِل المهمّة لأيامٍ، ولم يستشر مُفسِرَ أحلامٍ، بل كمّل كل ما أوصاه به الملاك، فصار الحارس والمُدبر والمعتني والمُحّب والمرافِق للأم وطفلها مُتخلياً عن إرادتهِ ورغباتهِ الشخصية ليكون تحت تصرّف تدبير الله الخلاصي. دُعي ليُحبِ خطيبتهُ وزوجته في بتوليتها، ويعتني بطفلها دون أن يتوقّع مكافآتٍ شخصيةٍ، وهو على أتمّ استعداد ليتحملالمشقات بسبب هذه الدعوة. دعوته كانت: أن يكون الأب المرئي لتدبير الله الخلاصي على الأرض، أن يخدُم إبن الله وأمه بسخاء تامٍ، وهذه مكافأة بحدّ ذاتها.
يُوجه يوسُف اليوم رسالةً إلى كل العوائل مضمونها: أهمية الإنفتاج لتدبير الله، فإرتباطُكم ليس رغبة بشرية بل هو جزءٌ من مشروع الله الكبير لكلِّ واحدٍ منكم. هذا المشروع نستقبلهُ بالإيمان ونرعاهُ في احترامنا الواحد للآخر. محبتنا التي ترعى الآخر بعناية فائقة. حرصُنا على سمعةِ الآخر وكرامتهِ. إنشغالنا بكل ما يؤولُ إلى خير الآخر. أن نفتش عن سعادة الآخر وراحتهِ. إلتزامنا بأن نسير معاً في طريق الإيمان فنجعل من بيوتنا أمكنة ينمو فيها الأولاد "بالقامة والحكمة والنعمة"، فنحول الإيمان إلى عملٍ مُحبٍ وواقع ليغدو كل بيت فرصة للقاء الله.
الأحد الثالث من البشارة
يوحنّا: نبيٌّ يُعلِن خلاص الرب (لو 1: 57- 80)
امتلأ زكريا من الروح القُدس فأنشدّ يوم ميلاد إبنه يوحنّا، وبعد صمت تسعة أشهرٍ قضاها في التأمل في تدبير الله الخلاصي، أنشدّ مُسبحاً الله على نعمة الخلاص التي صارتَ لبيتهِ ولشعبهِ، شاكراً حضور الله الذي لن يكون حضور ديّان يُريد معاقبة الخطأة وهلاكهم بسبب قساوة قلوبهم، بل حضورٌ خلاصي، وسيكون إبنه يوحنّا شاهداً لرحمةِ الله وحنانهِ، ليقودَ خُطى الإنسان إلى السلام: "وأَنتَ أَيُّها الطِّفْلُ ستُدعى نَبِيَّ العَلِيّ لأَنَّكَ تَسيرُ أَمامَ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَه وتُعَلِّمَ شَعبَه الخَلاصَ بِغُفرانِ خَطاياهم. تِلكَ رَحمَةٌ مِن حَنانِ إِلهِنا بِها افتَقَدَنا الشَّارِقُ مِنَ العُلى فقَد ظَهَرَ لِلمُقِيمينَ في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام". كشفَ زكريا الكاهن عن ملامح رسالة إبنه النبوية، فهو سيسير أمام الربّ "نبياً" يُعلِن برَّ الله ويُعد الطريق ويُعلّم سُبُلَ الخلاص. ونريد أن نتأمل في هذه العبارة: "تعلّم شعبهُ الخلاص".
لم يقل زكريا: تُرشدهم إلى "طريق التوبة" أو تعلّمهم "التوراة"، أو "توصيهم بأن يُكملوا متطلبّات الشريعة" بل قال: "الخلاص". الخلاص الذي سيُعلمه يوحنا لشعب الله لن يكون بإنقاذهم من خطرٍ جسدي يُحدِق بهم وهم يعيشون تحت نير الرومان وبطشهِم، بل الأهم هو أن يصلَ بهم إلى "السلام"، الذي يعني: المُصالحة مع الله بغفران الخطايا، لأن الخطيئة تخلق حالة العداوة مع الله ومع الإنسان على حدٍّ سواء. لذا، فالرّب آتٍ ليُخلِص الإنسان، والخلاص يتطلّب أن يبسُط نورهُ على الأرض: "ليكن نور" (تك 1: 3) وهو أول فعلٍ خلاصي قام به الله. وحيثما يكون النور سيُقبِل إليه كل الذين لا يخافون النور، لاسيما أولئِك الذين يعملون الصالحات.
كان زكريا الكاهن يعرِف ان الله قد سبقَ فخلص شعبهُ من أزمات كثيرة بدءاً من عبودية مصرَ وعنايتهُ بهم في الصحراء ومرافقته للقضاة وللملوك ومساندتهم في الأزمنة الصعبة. كان يؤمِن، مثلما يؤمِن كل الشعب، أن الله هو "المُخلِص"، لأنه "آمين" ولا يتراجع عن وعدهِ أمام خطيئة الإنسان، لذلك يأتي الخلاص هبةً من الله لا مكافأة أو إستحقاقاً. فالله يُنعِم بالخلاص على الإنسان الذي يُؤمِن به ويرجوه في الصعوبات، وليس على الإنسان "الذي يُكمِلُ ما تطلبهُ منه الشريعة". فعلى يوحنّا أن يُهُيئ الطريق للرب ويُرشِد الناس ليستعدوّا بتغيير حياتهم الخاطئة ويرفعوا عن طريقهم ما يُعيق مجيء الله، ليقبلوا المسيح، وعندما يقبلوا (يؤمنوا به) المسيح، يحصلوا على السلام، ويُصبحوا أبناء النور: "فقَد ظَهَرَ لِلمُقِيمينَ في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام"، فمع المسيح يسوع، سننتقل من حالة الظلمة إلى النور.
الخلاص إذاً هو "خلاص القلب"ـ أي التوبة والإهتداء إلى الله. هكذا سيُقدّم الإنسان المُخلّص فعلَ العبادة لله من دون خوف، لأنه يدخل معهُ إلى علاقة محبّة: "الأبن مع أبيهِ"، وهو ما سيشرحهُ ربنا يسوع في قصّة الإبن الضال التي سيرويها لوقا لاحقاً، بل أكثر من ذلك هو الراعي الذي يترُك الخراف ليبحث عن الخروف الضآل، ليكشِف عن عظمة المحبّة التي يكنّها الله للإنسان لاسيما الخاطئ لأن الله يُحبُ الخاطئ ولا يُريد الخطيئة.
وعلى الإنسان الذي نالَ نعمةَ الخلاص، فصارَ في ديار النور، أن يعيشَ حياة القداسة والبِر، فيُبشّر بشهادة حياتهِ بإنجيل الخلاص الذي نالهُ: هو من أبناء النور. فالخلاص ليس دعوة للكسَل الروحي، بل عليه أن يقبل كلمة الله ويحفظها بأمانةٍ (يعقوب 1: 21)، ويُغذي إيمانهُ بمعرفة الكُتبِ (2 طيمو 3: 15)، فيُثمِر أعمالاً صالحةً (يعقوب 2: 14)، ويُجاهِد لأن المُجرّب سيحاول جذبهُ بعيداً عن الله، فيجب أن يكون أرضاً طيّبة تستقبل كلمة الله لتتعمّق فيها فلا يخطفها المُجرّب (لو 8: 12). زكّا العشار نالَ الخلاص لأن الله قرر أن يُقيمَ عنده (لو 19: 5) وحضور الله جعلهُ رحوماً لأن الرحمة، كلمة الله، عمّذتهُ فوُلِدَ من جديد، وخلاصهُ إنعكَس رحمةً على حياة الآخرين، لاسيما الضعفاء والمساكين الذين إستغلهم بجشعهِ.
أمام مُبادرة الله الخلاصيّة هذه يعلّمنا زكريا أن علينا أن نلتزِم بخطوتين في حياتنا: الأولى إستقبالهُ في حياتنا متأملين تدبيره في حياتنا، والثانية أن نُقدِم حياتنا له. فإستقبال ربّنا يسوع المسيح ليس مُحدداً بإحتفالية يوم أو يومين نقضيها في أفراحٍ ظاهرية، الأهم هو إستقبالهُ ربّا ومُخلّصاً. ومثل هذا الإستقبال يجب أن يتضمّن التوبة والإهتداء، أي تغييراً جوهرياً في حياتنا ليكون الخلاص فاعلاً. هذا الإهتداء ممكن لمَن عَرَف الصمت والتأمل في كلمةِ الله على مثال زكريا. هذا الصمت يُساعدنا في أن نُحسِن الكلام، بل أن ندَع الروح القُدس يتحدّث فينا ومن خلالنا. فإذا اتفقَ وأن اختبرنا مُشكلة أو أزمة، فالروح القُدس يُعلّمنا التريث قبل النُطقِ بأي كلمةٍ، وسيأتي الكلام تسبيحة ونشيداً، ونحن واعون بأننا قلنا كلمات كثيرة بعجلةٍ وتندمنا بعدها.
سنُقبلُ إلى إلهنا حاملين له حياتنا بكل ما تتضمنهُ من خطايا، لآننا مؤمنون بأنه "المُخلِص" ولن يحكم علينا، بل سيُعيننا لننكشِف أمامهُ، هو النور الحق، نتعرف ونعرف حقيقة ذواتنا: مَن نحنُ؟ خطايانا لن تمنعنا من الإقترابِ منهُ، بل سنعمل على أن نسير أمامه سيرة أبناء النور فنعمل كل ما هوَ صالحٌ وحقٌّ، وقد أعادَ يوحنا ما علمه ربّنا يسوع عن المحبّة الأخوية في وصفهِ لأبناء النور فكتب: "مَن قالَ إِنَّه في النّور وهو يُبغِضُ أَخاه لم يَزَلْ في الظَّلام إِلى الآن. مَن أَحَبَّ أَخاه أَقامَ في النُّور ولم يَكُنْ فيه سَبَبُ عَثرَة. أما مَن أُبغَضَ أَخاه فهو في الظَّلامِ وفي الظَّلامِ يَسير فلا يَدْري إِلى أَينَ يَذهَب لأَنَّ الظَّلامَ أَعْمى عَينَيه" (1 يو 2: 9- 11).
الأحد الثاني من البشارة
"الطاعّة: فعل الإيمان" (لو 1: 26- 56)
كشفت بشارة الملاك لزكريا الكاهنّ وإليصابات، وهي من عائلة كهنوتية أيضاً، أن يوّحنا سيكون "الرسول" الذي يتقدّم "إبن العلّي" في مجيئهِ بيننا. يوحنّا، هو إبنٌ سلالة كهنوتية، فهو كاهن. لم يختر هو أن يكون كاهناً، بل الله اختاره، وولادته "المعجزة"، علامةُ تكريسهِ المُطلّق لله. هو ممتلئٌ من الروح القُدس من بطنِ أمّه، فلن يكون كاهن طقوس وأزمنةٍ مخصصة، بل هو كاهنٌ في خدمة تدبير الله.. ويُعلّمنا القديس لوقا حقيقةَ أن كل كهنوت العهد القديم إنّمّا هو إعلان وإعداد لقدوم ربّنا يسوع المسيح المُخلص، فتوجيهات الأنبياء الأخلاقية وتعليم الكهنة ليس من أجل تنقية القلوب فحسب، بل، لتتهيأ لتكون حافظة "الزرع" الذي يبذره الزارع، كلمتهُ المُحيّة.
جاء الله ليسكن بين البشر وينتظر جواب الإنسان الحُر، إلا أن الإنسان، وخلال قرون طويلة، وما زال، أظهر رفضهُ للحضور الإلهي، فدخل العالم في ظلمةِ الخطيئة وعنفها. مجيء الله هذا لن يكون مهيباً في شكلهِ، بل في مضمونهِ. لأنه اختارَ الحضور بيننا متواضعاً فتخلّى عن المدينة العظيمة، أورشليم، وعن الهيكل والسلالة الكهنوتية، ليحضر عند فتاة غير معروفة، تسكن مدينة صغيرة مجهولة، وحيّاها بعبارة: "إفرحي أيتها المُمتلئة نعمةً"، وسيُعلنها للرُعاة مرّة أخرى: "ها أنا اُبشرّكم بفرحٍ عظيمٍ". تحيّة تكشِف لنا عن جوهر رسالة الخلاص التي يُريد الله أن يجسّدها في حياة الإنسان: الفرح، فهو لم يأتِ ليدينَ الإنسان، بل ليُخلّصهُ. والخلاص يتحقق اذ يتجاوب الإنسان، بطاعتهُ، مع تدبير الله الخلاصي. فالله الذي خلقَ الإنسان حُراً، لن يُخلّصهُ إلا بإرادتهِ الحُرّة، فالإنسان الحُر والشجاع وحدهُ قادر أن يقوم بفعل الإيمان.
"لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله". اختارَ الله مريم، فصارت هي كُلياً له، مُكرَسة له، فهي تحمل كلمتهُ. الله فيها وهي في وسط هذا العالم، فأضحى بطن مريم "مركز الخليقة كلّها". هي الهيكل الجديد، وهي تعرِف ذلك، وتواصِل عبادتهُ بصمتٍ ومهابة متأملّة في كلمتهِ: "ما معنى هذا؟" الله لم يعد إلهاً بعيداً تناديه في الصلاه، بل أضحى إلهاً فيها تقبلهُ بتواضع وصمتٍ ومهابة وتأملٍ وتفكير.
اختبرَ الله طاعة مريم في العمق، لقد عرّضها "للتشهير" لأنها قد تُفضَح وتُطلَق وتتعرّض للرجم والعقاب، ومع ذلك، قَبِلَت مريم "فعل الله" هذا بطاعة تامّة: "ها أنذا أمةُ الرب فليكن لي حسبَ قولِكَ. طاعة أمنّا مريم لتدبير الله جعلت حضورهُ واقعاً على الأرض إذ سمحَت له بأن يتجسّد فيها، فما صارَ لنا كان بسبب قبولها. فهي تعرف أن الملاك الذي حيّاها لن يكون إلى جانبها دوماً، بل سيتركها لتتحمّل وحدها هذه المهمّة الخطيرة، وعليها أن تواجه خطيبها يوسُف، وتهبّ للعالم كلمة الله، ربّنا يسوع المسيح، الذي سيدعو الناس إلى الإهتداء، إلى تغيير مسار حياتهم، وهو ما لن يُسِّر الجميع. فقسوة قلب الإنسان تمنعهُ أن يتصالح مع نفسه ومع الله ومع الآخرين.
"نالت حظّوة لدى الله واختارها هيكلاً ومسكناً للعلي". وهذا أمر جعلَ أمنا مريم أكثر تواضعاً فرتلّت أمام نسيبتها إليصابات ممجدة عظمة عمل الله فيها، فهو المُخلَص. وفي اعترافها هذا تُعلِن باسم كل المُحتاجين والمظلومين والفقراء والمعذبين حاجتهم إلى الخلاص، لأنهم يشعرون بأنهم عاجزون ومحبوسون في عوزهم. مَن يعتقد متوهماً أنه قادرٌ ومُكتفٍ بذاتهِ، لا يشعُر بالحاجة إلى الخلاص، مثلنا نحن الذين صِرنا نتذكّر الله في مناسباتٍ متميّزة في حياتنا، ونتصرّف كما لو كُنّا قادرين على كلَّ شيءٍ، حتّى نتفاجأ بالحقيقة: نحن بحاجةٍ إلى مُخلِص. إعتراف مريم أمنا بأن الله هو "المخلص" يعني أننا لن نطلبُ الخلاص من بشرٍ. وإذا اختارَ الله احدى هذه الوسائل ليكون فيها معنا، فهي لا تُلغي أهمية الإيمان به والطاعة لتدبيرهِ.
"إسمهُ يشوع، المُخلّص"، الخلاصُ آتٍ إذاً، فالمسيح جاء ليُخلّص الشعب من خطاياهم. قدومه ليس ليُجدّد مملكة داود أو أن يُؤسس مملكةٍ سياسية أو قومية. ولم يأتِ ليهبَ الإنسانَ أن يعيش حُريتهُ مثلما يرغب، بل ليُنقذهُ من عبودية ذاتهِ ويُعيدهُ إليه: أنت بحاجةٍ إلى الله. فلطالما توهّم الإنسان بأنه ليس بحاجةٍ إلى الله مُصدقاً كذبّة المُجرّب لأمنا حواء: "فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ" (تك 3: 5). وأمام هذا المجيء الخلاصي لا يُمكننا أن نُخفي حقيقة "خطيئتنا"، وحاجتنا إلى الخلاص، أن تعود الحياة إلى علاقتنا بالله فتستقيم لتنتظِمَ بعدها كلَّ العلاقات الأخرى في الحياة.
فلنُصلِ اليوم، ليُباركنا ربّنا بحضورِه فينا ومعنا، ويسند خُطانا لنكون على مثال أمنا مريم، الإناء النقي الذي اختاره الله ليحلّ بيننا، ويُقوينا ليكون جوابنا شجاعاً على دعوتهِ، وهذا ممكن. فالعذراء مريم، أختنا وأمنا قالت "نعم"، وهذا يعني اننا قادرون على أن نقول مثلها: "نعم لحضورِك يا رب، وتاريخ الكنيسة يشهد لقديسين إستجابوا لهذه الدعوة فأضحوا مناراتٍ على الطريق، وقوّة تسند خُطانا نحن جميعاً.
عيد العذراء مريم المحبول بها بلا دنسٍ أصلي
"صنعَ بي العظائم َالقُدوس اسمهُ"
أعلن البابا بيوس التاسع في 8 كانون الأول 1854 "أَن الطوباوية مريم العذراء حُفظت معصومة من دنس الخطيئة الأصلية منذ اللحظة الأولى من الحبل بها، وذلك بامتياز ونعمةٍ خاصة من الله القدير بالنظر إلى إستحقاقات يسوع المسيح فادي الجنس البشري"، وهو يعني: "أنها كانت أولَ مَن نالَت نعمةَ الفداء التي صارت لنا بيسوع المسيح"، فأعادَ لها بهاء الصورة التي فيها خُلِقَ الإنسان، والتي فقدها بالخطيئة، خطيئة أبينا آدم حواء.
لم تقصد الكنيسة أن تقول: إن أمنا مريم حُبِلَ بها من الروح القُدس مثلما حبلت هي بربّنا يسوع المسيح، ولم تُعلم يوماً أن أمنا مريم لم تكن بحاجةٍ إلى الخلاص، فهي نفسها أنشدت: "تُعظمُ نفسي الرب وتبتهجُ روحي بالله مُخلّصي"، فهي كانت تشعر بحاجتها إلى الخلاص. فالحبل بلا دنسٍ أصلي يُعظمُ عمل الله الخلاصي مثلما قالت مريم أمنا: "صنعَ بيَّ العظائمَ القدُوس إسمهُ"، فكانت الشاهدة الأولى للفداء الذي صارَ لنا بيسوع المسيح.
الحبل بلا دنسٍ أصلي يعني أنها صارت مكرسةً لله بشكلٍ مُطلّق، ولم يقترِب منها المُجرّب، لأن الله "ملأها بالنعمة" وحيّاها الملاك: "يا ممتلئة نعمةً" أي: "المُكونّة بالنعمةِ"، فقدّمت نفسها وحياتها خادمة لتدبير الله الخلاصي: "ها أنا أمةُ الربِّ فليكنُ لي كقولِكَ". عطاءُ الذات جعلها "تدخل" إلى تدبير الله الخلاصي بفعل طاعة الإيمان، دون أن يسلبها حُريتها، بل أقدَمَت على طاعة الإيمان لأنها كانت حُرّة، وحفِظَت نفسها إناءً طاهراً لإبنها يسوع المسيح. الله هو الذي بادَرَ وقدس أمنا مريم، مثلما طَهر إرميا وهو في بطن أمه: ”قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرّحم قدّستك…” (إر1: 5)، وملأ يوحنا المعمذان من الروح القُدس: "لأنَّه يكون عظيمًا أمام الرّبِّ وخمرًا ومُسكرًا لا يشرب. ومن بطن أمه يمتلىء من الرّوح القدّس." (لو1: 15) بعضهم يقول: "ما دامت ممتلئة نعمةً، ولأن الله اختارها وصانها منذ الحبل بها، فهي ستتغلّب على التجارب بالعون الذي صارَ لها منهُ. ولكنّ القديس لوقا يُشير قائلاً: "وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها" في إشارة واضحة إلى أن الملاك لم يُرافقها دوماً ليحميها من التجارب، بل كان عليها أن تواصِل الإصغاء والتأمل في كلمة الله وحفظها: "وكانَت أُمُّه تَحفُظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها" (لو 2: 51).
هذه النعمة لم تكن لمَريم أمنا فحسب، بل هي للإنسانية جمعاء، ففي طاعتها فسحت المجال رحباً ليدخل الله تاريخنا الإنساني ويجعل سُكناه بيننا من دون أن يُعيقهُ شيءٌ. في أمنا مريم إنتصرت إرادةُ الله، وفيها أعلَن الله الغلبةَ لأنه آمنَ أن في الإنسان شوقاً إليه لا يبغي المُكافأة أو المُجازاة بل يُحبهُ حُباً طاهراً من دون دنسٍ. فنجحَت أمنا مريم فيما فشلِت فيه أمنا حواء، فكلاهما خُلقا من دون دنسٍ، حواء صارت سبب خطيئتنا بتكبّرها، ومريم سبب حياتنا بتواضعها على حدّ تعبير مار أفرام.
في الإنسان خوفٌ من الله إذ يعتبرهُ الحاكم الديّان القاسي الذي يُريد معاقبتهُ بسبب خطاياهُ. في الإنسان خوفٌ من أن يُزيحهُ الله مُصدقاً كلام المُجرّب لأبينا آدم وحواء: "مَوتًا لا تَموتان، فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ" (تك 3: 4- 5). في الإنسان رغبةٌ في أن يكون السيّد والمُتسلّط على حياتهِ فلا يُزعجهُ صوت الله الذي يدعوه إليه. وجميعُنا مُنجذبون إلى "عبادة اصنامٍ كثيرة" أولها إرضاءُ الذات وتمجيدُها، هذه هي الخطيئة الأولى "أن نُكرِم آلهةً أخرى غير الله"، فنبتعِد عنهُ متوهمينَ أنه سببُ تعاستنا. فالخطيئة الأصلية تعبير عن "رغبتنا في أن نكون آلهة من دون الله". أمنا مريم اختبرَت كل هذه المشاعِر الإنسانية، وتألمت بسبب دعوتها وحزَّ في نفسها سيفُ الألم: "وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة" (لو 2: 35)، ولكنها لم تفقد رجاءها بالله، بل واصلت مسيرة الإيمان ورافقت إبنها يسوع لا في أوقات مجده، بل في ساعات الرفض والموت على الصليب، وساندت الكنيسة الأولى بالصلاةِ، وكشفَت في حياتها عن مفاعيل الخلاص الذي صارَ لنا بيسوع المسيح.
عيد اليوم يُذكرِنا "بالأصل" الطاهِر لجنسنا الذي تشّوه بالخطيئة، إذ مال الإنسان ليُنصّبَ نفسه "إلهاً" ورغباتهِ صنماً يُعبَد. عيدٌ يسنُد خُطاناً ويجعلنا نواصِل مسيرة الإيمان واثقينَ من أن الغلبة ستكون لتدبير الله فينا، إن تجاوبنا بإنفتاح لُحلِم الله هو الذي دعانا لنكون قديسين (روم 1: 7)، مثلما فعلت أمنا مريم، وسارَ على خُطاها قديسون جعلهم الله لنا مناراتٍ على الطريق. عيد اليوم ينزِعُ عنّا الخوف من الفشَل الذي يُجرّبنا مراراً كثيرة أمام الخطيئة التي تأسُرنا. خوفٌ يُبقينا حزانى على ضُعفِنا الذي يجعلنا نعود إلى الخطيئة ظانينَ أننا أضعف من أن ننتصِر. بادَرَ الله في حياة مريم وتجاوَبت مريم معه. لم يدعُها لصُنعِ المُعجزات، بل إلى الإيمان بأنه قادرٌ على أن يصنعَ العظائِم فيها ومن خلالها، فآمنت ومضّت مُجدّة إلى الجبل، إلى جبِل الله لتسمَع تهنئة الروح القُدس: "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي" (لو 1: 42). عيدُ اليوم يُعلّمنا أن محبّة الله هي التي أبدعَت الإنسان وهي التي تُخلّصهُ، وهو ينتظر مَن يؤِمن بهذه المحبّة وأن نسعى لنكون بلا عيبٍ في المحبة (أفسس 1: 4). مريم، بنتُ جنسنا الإنساني وضعت حياتها تحت تصرّف الله، فنالت القداسة والخلاص، وملأها الله بالنعمةِ، وهي تدعونا اليوم قائلة: "سلمّوا حياتكم بيد الله ولا تخافوا، فهو معكم: عمانوئيل".
الأحد الأول من البشارة
"ومن الآن تكون صامتاً" (لو 1: 1- 25)
نبدأ اليوم سنة طقسية جديدة وفيها ترافقنا أمنا الكنيسة من خلال مقاسمة كلمة الله والافخارستيا في تنشئتنا الروحية نسمح فيها ومن خلالها لربّنا يسوع بأن يتغلغل في تفاصيل حياتنا بدءاً من الإحتفال بالافخارستيا يوم الأحد. فيوم الأحد هو عيد القيامة الأسبوعي. لقد بدأ المسيحيون بالاحتفال بعيد القيامة السنوي في آواخر القرن الميلادي الثاني، وبدأت الكنيسة تحتفل ببقية الأعياد حول عيد القيامة إحياءً لأحداث حياة يسوع مع ذكرى الشهداء والقديسين وأمنا مريم العذراء، وهي (إي الكنيسة) تتطلّع لأن نُمحوّر حياتنا حول "حياة ربّنا يسوع"، الطريق الحق إلى الحياة الأبدية، إلى الله.
تبدأ مسيرتنا الإيمانية مع زكريا وإليصابات اللذين يُمثلان في شخصهما كل انتظارات العهد القديم، في إيمان مصلٍّ يرجو تدخل الله الحاسم بعد نفاذ كل السُبل الإنسانية. فبعد قرون من الإنتظار هوذا الوعد بدأ يتحقق، الله نفسه يتدخّل ليُعيد الإنسان إليه. فالتجسّد الإلهي ليس سراً لنتأمل فيها وعقيدة نُعلّمها، بل هو طريق الله إلينا ونداء ينتظر الإستجابة منّا. إلهنا الذي يعرِف أن الإنسان يسعى لإبعادهِ عن الأرض وعن حياتهِ، ويتوهّم أنه قادرٌ على العيش دون الله، حتّى وصلَ الإنسان إلى حالةٍ من الجفاف واليبوسة عبّر عنها الإنجيل اليوم بقولهِ: "ولم يكن لهما ولدٌ لأن إليصابات كانت عاقراً وكانا كلاهما قد طعنا في أَيامِهما". لقد صلّى طويلاً من أجل أن يكون له ولدٌ، ولكنه يبدو أنه لم يكن مُستعداً لأن يقبل عطية الله التي تأتي استجابة لصلاتهِ. كان يعتقد أن قبول طفلٍ هو مُعجزة، ونأسف جميعاً أننا لم نعد نرى هذا الحدث في حياتنا. ولادة كل طفلٍ تأكيد على "ثقة" الله بالإنسان، وتجديد للرجاء في الإنسانية.
إلهنا لم ينسَ وعدهُ ولم يتخلَ عن شعبه، فبُشرى اليوم أُعطيَت لزكريا الكاهن وزوجته وهي من بنات هارون في الوقت الذي كان فيه يُقدِّم البخور في الهيكل، ليقول لنا الإنجيلي لوقا: إن المسيحية وُلِدت من رحم اليهودية، وسيواصل لوقا الإنجيلي رواية "البُشرى السارة"، والتي صارَ لها شاهد عيان في القسم الثاني من كتابهِ: "أعمال الرُسل" فيُعلِن أن وعدّ الله تحقق بيسوع المسيح والكنيسة شاهدةٌ على ذلك. ومثلما صارَ تحقيق الوعد في الهيكل، سيواصِل الرُسل الأوائل، الكنيسة الأولى، الصلاة في الهيكل، حتّى ينالوا الرُوح القُدس في العُلية ومنها ينطلقونَ إلى العالم أجمع.
تدخّل الله الحاسِم في تاريخ الإنسان يفتقر إلى جواب الإنسان، طاعة الإيمان. فيوحنا، نبيُّ الله، سيسلُك على نحو مُميّز في حياتهِ: "لن يشربَ خمراً ولا مُسكراً ويمتلئ من روح القُدس وهو في بطنِ أمّه ويُعيد كثيرين من بني إسرائيل إلى الربّ إلههم، وهو يمضي أمامهُ بروحِ إيليا النبي وقوّتهِ". فإذا أردنا أن يتدخّل الله في حياتنا وأن نستقبلهُ في بيوتنا علينا أن نتهيأ لقدومهِ وأن نسلُك حسبَ مرضاتهِ، وأول خطوةٍ نتخذها هي أن نترك المكان الذي نحن فيه لنتحوّل إلى حيث ينتظرنا الله. أن نُغادِر الأمكنة التي تجعلنا مشغولين ومنشغلين عن الله فنصل إلى المكان الذي نجد فيه الله: قلوبنا. لذلك، أمرَ ملاكُ الربّ زكريا بأن يبقى صامتاً، فالصمتُ يُساعدنا لسماع صوتِ الله والإصغاء إلى حضورهِ، لأن الله لن يحضر حيث الصخب، ولن يُحاوِر مَن يتكلّم وينشغِل بأفكاره وهمومه وتطلعّاتهِ: "فقالَ الرَّبّ: "اخرُجْ وقِفْ على الجَبَلَ أمامَ الرَّبّ". فإِذا الرَّبُّ عابِرٌ وريحٌ عَظيمةٌ وشَديدةٌ تُصَدِّغ الجِبالَ وتُحَطِّمُ الصُّخورَ أمامَ الرَّبّ. ولَم يَكُنِ الرَّبُّ في الرِّيح. وبَعدَ الرِّيحَ زِلْزالٌ، ولم يَكُنَ الرَّبُّ في الزِّلْزال. وبَعدَ الزِّلْزالِ نار، ولم يَكنِ الرَّب في النار. وبَعدَ النَّارِ صَوِت نَسيمٍ لَطيف. فلَمَّا سَمِعَ إِيليَّا، سَترَ وَجهَه بِرِدائِه وخَرَجَ ووَقَفَ بِمَدخَلِ المَغارة. فإِذا بِصَوتٍ إِلَيه يَقول: "ما بالُكَ ههُنا يا إِيليَّا؟" (1 مل 19: 11- 13).
عالمنا صاخبٌ بكل أحداثهِ، ومزعجٌ بأحاديثهِ فأبعدَ الله، ولأن الله محبّة، وهو الذي أوصى بأن نُحِبَ أعداءَنا، فهو يُكمِل ما يُوصي به فيُحبُ الإنسان الذي أبعدهُ عن حياتهِ وظنهُ منافساً له مُصدقاً كذبة المُجرّب لأبينا آدم: " فقالتِ الحيَةُ لِلمَرأَة: "مَوتًا لا تَموتان، فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ". (تك 3: 4-5). نحن بحاجة إلى الصمت اليوم لتكون الصلاة ممكنة، ويكون الحوار حقيقياً، فكيفَ لنا أن نُصغي إلى الآخر وننتبه إلى حضوره إن لم نتوقّف عن الكلام ونصمُت؟ ومن أجل إصغاء حقيقي لا يكفي صمت الفم، بل صمتُ القلب أيضاً. هناك من يتوقف عن الكلام ويبدو صامتاً، ولكنهُ ليس منتبهاً إلى حضور الآخر بل يظل منشغلاً بافكارهِ، وهذا ليس بحوار إنساني مُطلقاً ولربّما يُسيء الظنُ فيه ويُعاديهِ حاقداً. نحن بحاجة إلى صمتِ القلب، وفي حياتنا مع الله ومع القريب، يبدأ الصمتُ في القلب، فقد قال الرب: "ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان، لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة (مر 7: 22-22). جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه". فهذا الصمت هو الأصعب، التخلي عن رغباتنا وما نُريده وما نتصوّره عن الآخرين، عن الله. هذا الصمت يعني الحضور كلّيا لله وللآخرين، وسيهبُ لنا الله حضوره المُحِب والحنون: يوحنّا، ويجعل الله من حياتنا "نعمة" في حياة الآخرين.
الأحد الرابع من تقديس البيعة
الكنيسة: كنيسة أخوة، وكنيسة خدمة (متى 22: 41- 23- 22 )
سألَ ربّنا يسوع الكتبة والفريسيون: ما قولكم في المسيح؟ إبن مَن هو؟ قالوا إبن داود! فقال لهم" كيف كيف يدعوه داود نفسهُ ربّاً ؟... كيف يُمكن أن يكونَ إبنه؟ ويُصلي إليه كربٍ؟ فسكتوا مُحرجين ...لأن المسيح ليس إبنَ داود فحسب، بل هو الذي سيحكم على بيت داود كله بل يفتح أبوابَ ملكوتِ الله امام الأمم ليدخلوا ملكوته، لأنه مُخلّصُ العالم بأسره. لم يكن سؤالهُ لإحراجهم مثلما كانوا يفعلون، بل سألهم لتكون لهم الفرصة ليتعلّموا ويقرأوا الكتبَ ويتأملوا فيها لتكون لهم هدايةً فيصلوا إلى الله، فهذه هي "الغاية" من قراءة الكُتب المقدسة والتأمل فيها، وغاية كل تعليم في الكنيسة: أن يصلَ بالمؤمِن، بكل إنسان، إلى الله.
ومن أجل أن يكون لتعليم الكنيسة مصداقية، يجب أن يكون أصيلاً أي أن يتحول من تعليم إلى شهادة فيتناغم أسلوب حياة مؤمنيها مع ما يُعلّموهُ ويعظوه به، وإلا فسيكون أبنائها مُصابون بمرض خطير هو: الرياء. والذي يُحذرنا منه ربنا يسوع اليوم. الرياء هو أخطر مرضٍ يُمكن أن يُصيب مسيرة الكنيسة وأبنائها. الرياء مرضٌ ينفخ صاحبهُ، ويجعلهُ يتعالى ويتشامخ باطلاً على الآخرين، ويدفعهُ إلى إقتراف خطايا النميمةِ والإفتراء والحسد والغضبوالعداوة، وينزع عن حياته الفرح والسخاء والشهامة مثلما أشار قداسة البابا فرنسيس في أحدى عظاته، بل الأسوأ في ذلك هو: خداعهُ لذاته ِفيتوهم أنه أهمُ شخصيةٍ في العالم، فينسى خدمةَ القريب وتمجيدَ الله. خطورة مرض الرياء تكمنُ في قدرته على أن يجعل من هذا الغش والكذب اسلوبَ حياة لاسيما وأنه يُحقق للمرائي "حاجة الإعجاب" التي يبحث عنها، فينال تصفيقَ الناس وإستحسانهم، إلا أنه يُبعده عن حقيقةِ ذاتهِ ولن يكون له علاقة صحيحة مع الناس ومع الله. لذا، فتحذيراتُ ربّنا يسوع اليوم جاءت شديدة اللهجة بتعابيرها وصورها، وربنا يعرِف أن المُجرب محتالٌ وله القدرة على خداعنا.
ربّنا يُريدنا اليوم أن نكون صادقينَ معه ومع الآخرين: فكم من مرّة نقول كلاماً جميلاً عن فلان في حين أن قلبنا مليءٌ بالغضبِ أو الحقدِ عليه؟ كم من مرّة نمدح فلان بكلام حَسَن في حضوره أو حضور أصدقائه، ونلعنهُ في الخفاء؟ كم من مرّة نتظاهر بالتقوى والنقاء، وقلوبنا مليئة بأفكار دنسةٍ عن هذا أو ذاك، وملوثةٍ بالبغضاء والمرارة؟ لذا، جاء تعليم ربّنا يسوع اليوم وتعليم الرُسل لنتأمل حياتنا بصدقٍ فتسلَم قلوبنا من مرض الرياء: " "طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ" ( 1 بط 1: 22).
ولكن ما شكلُ كنيسة ربّنا يسوع التي تُصلي لتتقدَس؟
هي أولاً كنيسة متواضعة تبحث عن الفقراء والمُهَمَشين لا عن المناصب والكراسي الأولى. كنيسة تشتغل وتعمل لتُعين الناس في حياتهم وتُرافقهم في صعوباتهم، وتكون أول مَن يُعطي الشهادة للنعمة التي باركنا بها الله. إلهنا يُريدنا كنيسة تُحِب وتخدم. ربّنا يفرح عندما يرانا نحملُ أثقالَ الناس وهمومهم بمحبّة، ونُوسّخ أيدينا لنُخفف أتعابَ الناس، ونُجهِد أجسادنا من أجل راحة العالم. سهلٌ أن ندينَ العالم، ونحكم على اعماله، ولكن الأصعب هو أن نلتزم بتغيير العالم وتطويره، ابتداءً من أنفسنا. لأن ذلك يتطلّب قلباً مُحباً، قلباً مُضيافاً، فرحاً بالخدمة التي يُقدّمها، ويكون سبب فرحِ الضيفِ أيضاً، لأننا مدعون لنكون كنيسة الفرح: أفرحوا أمام الرب يقول المُزمّر (مز 68: 4).
ربنا يُريد أن تكون كنيستهُ كنيسة نزيهةٌ في خدمتها وتشعٌ فرحاً وهي تخدُم، فلو فقدت الفرح والنزاهةُ لصارت خدمتها واجباتٍ وليست مسؤوليات تلتزِم بها بلقب ملؤه الفرح والحب. ربّنا لا يُريدنا مسيحيين حزانى، بل كنيسة قدّسها الرب لتخدم العالم بفرح. أن تكون خدمتنا حجراً يرصّف طريقَ مسيرتهم الإيمانية، لا حجراً على أكتافهم. كنيسة تعظُ بما تفعل، وتشهدُ بأفعالها لا بكلماتها. كنيسة خدمات لا كنيسة إمتيازات ومناصب، كنيسة تُريد أن توجّه أنظار العالم كله واهتمامه نحو ربّنا يسوع ونحو الإنسان الضعيف والمحتاج وليس نحوها أو نحو إنجازاتها.
فإذا كُنا نُصلي ونطلب قداسة الكنيسة، فكنيسة ربّنا يسوع كنيسة تتقدّس بمقدار إلتصاقها بيسوع الخادِم المُحِب والرحوم فتعيشَ على مثاله خادمة ومُحبة وصادقة. قداسة الكنيسة مرتبطُ بالله الذي يُنعِمُ علينا بالقداسة، نحن الخطأة ويُواصِل عملهُ "المُقدِس" على الرغم من خطايانا. الله ينتصِر دوماً على عدم أمانتنا لأنه مُحبةٌ أمينةٌ تُلاقي الإنسان، لاسيما الضال، وتبحثُ عنهُ. نعمةُ الله تُبقي الكنيسة مُقدسِة، وتُشعلُ القلوب بالمحبة المجانية، فالعالَم كلّه بحاجة إلى المحبة والرحمة والغفران، بحاجة إلى ربّنا يسوع ليُشفى من أمراضه وخطاياه.
الأحد الثالث من تقديس البيعة
الكنيسة: مكان لقاء الله بالإنسان (يو 2: 12- 22 )
كعادة كل سنّة صعدَّ ربّنا يسوع إلى هيكل أورشليم ليُقدّم صلاة شكرٍ لله على نعمة الاختيار والتحرر من عبودية مصرَ، فوجدَ الهيكل في فوضى عارمة، فلم يعد مكان صلاةٍ، بل هرجٌ وصراخ وباعة وصيارفة وتجارة. غضِب ربّنا وقامَ بطردِ الباعةِ من الهيكلِ، وأشارَ في ذلك إلى سلطانِ خاصٍ: "لي سُلطان على الهيكلِ لأنيّ أنا ربُّ الهيكلِ" وأثارَ كلُّ هذا غضبَ اليهود، فطالبوه بأيةٍ يُظهِر فيها سُلطانهُ، فأجابَ: "إهدموا هذا الهيكلِ وأنا أبنيهِ في ثلاثةِ أيامٍ"، وشرحَ يوحنا الإنجيلي هذا قائلاً: "وكان يسوعُ يعني بالهيكلِ جَسدَه". هيكل جسده الذي قدّمه محبة للعالم من خلال فعل الطاعة التام لله وإهتمام أبوي بفقراء الله ولمسة شافية للمرضى وتحرر لمَن حبسهُ الشيطان في الخطايا وقُربٌّ من كل إنسان. رعاية لكل مَن يريد لقاء الله ليكون هو الطريق الحق للحياة مع الله.
إلهنا يريد أن يكون كلُّ مؤمِن حجارة حيّة في بيناء جسد المسيح، ويحزِن لمواقف المتفرّج أو الناقد الكسلان أو "مَن في قلبهِ خبثٌ فتراه يتفنن في "التشهير بالكنيسة" ليُبيّن للناس أنه "المُصلِح الثوري"، ويدعي أن ربّنا يسوع هو مثلهُ الأعلى، متناسياً أن ربنا لم يطرد الباعة فحسب، بل قدّم حياتهُ هو ليكون هيكل الله الجديد. كثيرون ينتقدون الكنيسة ويجعلون من أنفسهم "أنبياء عصرهم" متبجحينَ: "نحن على مثالِ ربّنا يسوع المسيح، غيرتنا على بيت الله تجعلنا نحمل السوطَ ونقلبُ الموائد ونطرد الباعة"، ولكنّهم ينسونَ الجزء الثاني والأهم من قصّة تطهير الهيكل: "إهدموا هذا الهيكل، وأنا أبنيهُ في ثلاثةِ أيامٍ"! وكيف بناهُ؟ أحبَّ وبشّرَ برحمةِ الله، ووقفَ إلى جانبِ المساكين، وصدقَ في حياتهِ، وإلتزَمَ طريق القداسة وكلّفهُ ذلك المهانةَ والصليبَ والموتَ ليشهدَ لمحبّة الله المجانية لنا. فلا يكفي أن نفضح أخطاء الكنيسة، بل الأهم أن نعمَل لتكون الكنيسة، ونحن حجارتها، دوما مكان لقاء الله بالإنسان. أنبياء الله لم يكونوا "فاضحين" بل متعلقين بالله ومُستعدين لعمل كل ما يحفظ حقوق الله حتّى لو كلّفهم ذلك حياتهم.
يقول لنا القديس متّى أن ربّنا، بعد أن طردَ الباعةَ من الهيكل، شفى كثيراً من المرضى في الهيكل، لأنه حضور الله المحُب. ربّنا طردَ الباعة من الهيكل وألغى الذبائح التي كانت تُقدم فيه، وقدّم نفسه بدلاً عنها، فأعطى مصداقية "لسلوكه ِالنبوي"، وصارت محبتهُ التي ستُكلفه حياتَهُ عطية لله كاملة، وبذلك بنى هيكلاً لا من الحجارة، بل من المحبة التي تُحيي،الآخر وهذه المحبة لا ترضى بالغش، وترفض المراءة، ولا يُمكن أن تُصنّف الناس إلى أغنياء وفقراء، أصلاء أو غرباء، يهود أو وثنيينن مثلما كانت العادة في الهيكل. فمثل هذه التصنيفات تناقض عدالة الله ومحبته وتخالف قداسة الهيكل، وسوف تسبب دماره، والله لن يحمي هيكلاً فاسداً. فالمحبة والخدمة الطيبة الشافية هي سمات الهيكل الجديد الذي لن تقوى عليه أبوابُ الجحيم.
الهيكل الجديد هو "هيكل جسدهِ" حيث لقاء الله بالإنسان صارَ ممكناً، فالكنيسة تتقدّس بمقدار ارتباطها بربنا يسوع المسيح. وبإمكانيتها في جعل هذا اللقاء مُباركاً. هذا يعني أننا لن نستطيع الوصول إلى الله ما لم نتّحد به، فالعلاقة معه أضحت ضروريةً للقاء الله. وكلما إمتلأت الكنيسة من المسيح اختبرتَ نعمة القداسة، والقديس هو مَن سمحَ للمسيح يسوع "أن يملءَ حياتهُ"، والمسيحية ليست مُشترعاتٍ أو قوانين بل علاقةٌ وثيقةٌ بربنا يسوع المسيح، الذي يُريد ان يُغيّر حياتنا فيجعلها على مثالهِ: "مسكنَ الله العلي"، وهكذا يتحقق سرّ التجسد، أي إتحاد الله بالإنسان بيسوع المسيح. ففي الكنيسة، ومن خلال الافخارستيا يتحقق هذا الإتحاد، لأن الافخارستيا هي "إتحاد" ربّنا يسوع المسيح بنا، وهذا الإتحاد يتطلّب الحضور، فنحضر أمامهُ شعباًواحداً، ونتصافح علامة للمودة والسلام الذي يربطنا معاً، ويدعونا لنكون الافخارستيا التي نحتفل بها، وهذا هو الهيكل الجديد الذي اراد يسوع ان يبنيه (يُقيمه).
عندما دخلَ ربّنا يسوع هيكل أبيه وجدَ فيه الكثير من العبادات لإلهةٍ كثيرة إلا التعبّد الحق لله، وهناك مَن يتعمدون إبعاد الناس عن الله بإشغالهم الناس بالطقوس والذبائح، أو بنظرياتهم وأفكارهم عن التدّين، لذا، يعلو صوت ربّنا ربنا يسوع في الهيكل: أنا سأبني هيكل الله. وهو يسألنا اليوم: تُرى أيُّ إلهِ تعبُد؟ وما هي الأصوات العالية التي تحاوِل إسكاتَ صوت الله في قلبِك؟ نحن نأتي للصلاة ومعنا مخاوفنا وهمومنا وطموحاتنا وأحلامنا وهي أشبه بتلك الخراق والبقر والثيران وموائد الصيارفة في هيكل أورشليم، فهذه أيضاً تمنعنا من أن نُقدِم التعبّد الصحيح لله ويضحى اللقاء به مُستحيلاً. في حياتنا أمور كثيرة صارت أكثر أهمية من الله، وإلهنا لم يعد في المركز، بل صارَ ثانوياً.
اليوم نحن بحاجة إلى تدخّل ربّنا يسوع الحاسِم ليُطهرَ قلوبنا وتعبّدنا من كل الوثنية التي تعلّقت فيه، ويُنقي "غيرتنا: لتكون له وليس لإسمنا. حياتنا بحاجة إلى مثلِ هذا التطهير لتكون هياكلَ نقيّة لله وأمكنة صلاة. هناك العشراتُ من الباعة والصيارفة الذين يحاولون أن ينسلوا إلى هياكل الله المُقدسة: "أجسادنا"، "ألا تعرفون أن أجسادكم هي هيكلُ الروح القُدس الذي فيكم هِبةً مِنَ الله؟ فما أنتم لأنفسكم، بل لله. هو إشتراكم ودفعَ الثمنَ. فمجدوا الله إذاً في أجسادكم" (1 كور 6: 19- 20).
نُصلي اليوم من أجل كل مَن يجعلَ من كنيسة الله مكانَ صلاة إلى الله، وفرصةَ لقاء حقيقي معهُ.
الأحد الثاني من تقديس البيعة
أما قرأتم ... اُريدُ رحمةً لا ذبيحة (متى 21: 1-21)
"أُريدُ رحمةً لا ذبيحةً" هذه هي البُشرى السارة لإلهنا وملكنا، فهو لم يأتِ ليدين الإنسان بل ليُخلّصه بالرحمةِ. الكتاب المُقدس كله، وتاريخ مسيرة الله معنا يرتكز على هذه البشارة: يُريد الربُّ الرحمة قبل الذبيحة، وما الذبيحة إلا صلاة شُكرٍ للرحمة التي نلناها من لدنه والتي اكتملَت بتجسدّ ربّنا يسوع المسيح.
غاية الشريعة لم تكن مُعاقبة الإنسان وسجنهِ في مُشترعاتٍ وقوانين ومحرماتٍ، بل التقرّبُ المتواضعِ الشاكِر من الله الآب والذي يُريد أن يقفَ الإنسان طاهر القلب واليدين أمامهُ، من دون أن يُهمِلَ أي جانب حياتي مهما كان تفصيلهُ. وكلُّ مَن يقترِب من الله سيزداد محبة ورحمةً، وسيفرح بعمل الرحمة، فعمل الخير والصلاح كشفٌ صادق لصلاح ِالله الذي أعطانا الشريعة لتقديسنا.
الإنسان يبحث عن الكمال، ولكنه يسعى، على مثال الفريسيين، في صلبِ الآخرين وقتلهم باسم المُشترعات الدينية، في حين أن إلهنا يبحث عن القلوب النقيّة التي تقبله بالشكرِ والإمتنان، وترغبَ في معرفته أكثرَ فأكثر، فتُصلي أمامه بتواضعٍ لا من أجل إفتخار باطل، بل لتكون هذه الصلاة جمرة تُنقي القلب من كل خُبثٍ ومن كل ما لا يليقُ بجماعة اختارها الله وقدّسها لتكونَ نوراً للعالم، وملحاً للأرض. فمن دون هذا الموقف سنكون مثل هؤلاء الفريسيين الذين انتقدوا تلاميذ ربّنا يسوع بدافع ريائهم وتديّنهم الكاذب، وكانوا يبحثون عن حجةٍ للخلاص منه، هو الذي جاء لينشرَ رحمةِ الله خيراً على الإنسان.
لذا يضع ربّنا اليوم معياراً هاماً لصدقِ العلاقة مع الله: "كلّما إزددنا رحمةً تجاه اخوتنا وأخواتنا، وفرّنا المجال لنعمة إلهنا لتعملَ فينا". كلّما تقدمنا خطوة نحو أخينا الإنسان في حاجته وألمه، قدّمنا الله نحوه خطوتين. فالمؤمن الحقيقي هو كل إنسان يعرف نقائصه ويُقرُ بها، ويقف أمام الله طالباً الرحمة، ويمدُ يده متضامناً مع القريب بمحبّةٍ وحنانٍ وإصغاء ليقول له: إلهي أنعمَ عليَّ بالرحمة، فأسمح لي بأن أُشارككَ بما أعطاني الله من نعمٍ وبركاتٍ. إسمح لي أن أكون لكَ أخاً، وعندها ستولدُ كنيسة يسوع المسيح، كنيسة الرحمة، فيها مؤمنونَ اختبروا الرحمة ويعرفوا أن يرحموا الآخرين فيقبلوهم بصدقٍ من دون خداع أو كذبٍ أو إفتراء. كنيسة أناسٍ يُحبّون الخير ويتفانون في عمله، وفي عمل الخير يعملون إرادة الله ومشيئتهِ، ويحتفلون بيوم الرب، يومَ حضوره الرحوم بأفعال الخير التي يعملونها. كنيسة مؤمنةٌ حقاً بربنّا يسوع المسيح، وإيمانها يتجسّد في المحبة الصادقة التي تعيشها فالإيمان من دونِ محبةٍ إنّما هو إيمانُ الشيطان، وإيمان بمحبةٍ هو إيمان تلميذِ يسوع المسيح، لأنه إيمان سيُكلّفهُ الصليب.
ربّنا يعرف أننا مجرّبون بأن نبحث عن كنيسة أو جماعة كاملة. إلهنا يعرف ان فينا جميعاً من النزعة الفريسيّة التي تدفعنا إلى اتخاذ مواقف ناقدة تجاه الآخرين. ربّنا يعرف أننا أحيانا نبتعد عن الكنيسة بحجة اننا لا نجد فيها أناساً صادقين، أو أنهم يحضرون الكنيسة ولكنهم لا يحملون الكنيسة إلى العالم. ربّنا يعرف هذا كله، ومع ذلك يرغب في تنقيتنا وتقديسنا وتطهيرنا، نحنُ كنيستهُ، ويُقدّسنا جماعةً له فيقول: أُريدُ رحمةً لا ذبيحة.
يُقدسنا ربّنا اليوم كنيسة له في العالم، ويُرسلنا لنمدَّ يدَ الخير والرحمة لمَن هم حولنا، عارفين أن المجرّب أحاطَ بنا ليجعلنا نتذكّر أنفسنا وننسى الآخرين. ويقدّم لنا الربُّ كل يومٍ فرصاً لعملِ الخير، فلنُصلِ ليفتح روح الله عيوننا لنرى كم من مُحتاجٍ ينتظر منّا إلتفاتة مُحبةٍ، وكم من متألمٍ يتوق الى كلمة تعزيةٍ تشفي جراحه وتُسليّه في محنتهِ. يومُ الربِّ هو يومِ الخير، اليوم الذي نتقرّب إلى حياة الناس فيتقدسوا بطيبةِ الله الذي في قلوبنا، فنكون نحن الهيكلَ المُقدس الذي يلتقي فيه الله فقراءه ومساكين َشعبهِ.
إيماننا يتجسّد في المحبة الصادقة التي نعيشها في حياتنا، لأننا تعلّمنا أن إيماناً من دونِ محبةٍ إنّما هو إيمانُ الشيطان، وإيمان بمحبةٍ هو إيمان تلميذِ يسوع المسيح، لأنه إيمان سيُكلّفهُ الصليب. عملُ الخير سيُكلّفنا الكثير وسيجعلنا نُحارب أنانيّتنا ورغبتنا في تأمين ِراحتنا. عمل الخير هو حملُ الصليب خلف ربّنا يسوع الخير العظيم الذي صارَ لنا، ومواصلة الطريق بأمانةٍ مهما كانت التضحيات. وهكذا سنشعُ للناس نوراً بما نحملهُ من قيمٍ وفضائل ثبّتها فينا ربّنا يسوع المسيح، فالمسيح هو إنسانُ الخير دوماً، إنسانٌ على قلبِ الله الخير الأسمى.
إلهنا يدعونا لنجعل من كنيسته، ومن حياتنا، فرصة ليحتفل العالم بحضور الربِّ معهم. عمل الخير، تقديس يومِ الأحد خلال إيقاد شمعة في البيت، عمل رحمة مميّز، حضور القُداس مع الجماعة، قراءة الكتاب المُقدس، خطوة غفران مميزة تجاه مَن إبتعدوا عنّا، مُصالحة وسلامٌ مع الذين أغضبونا ... كلّها أعمالٌ تجعل من يومِ الأحد يوم الرحمةِ، وهكذا نُكمِلَ مشيئة الله. هي دعوة لنا جميعاً، نحن الذين اختبرنا محبّته ورحمتهُ أن نُبشَّر بهذه المحبة من خلال أعمال الرحمة في حياتنا، فيرى الناس أعمالنا الصالحة ويُمجدوا أبانا الذي في السموات.
التطويبة السادسة
طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله
القلب في الكتاب المُقدس
يُشير الكتاب المقدس إلى أن القلب هو مركز كيان الإنسان العميق الذي يحوي كل مشاعره وعواطفه وأفكارهِ. هو عمقُ النفس العاطفي وهو يُملي على الإدراك والإرادة ما ينبغي ان يسلكاهُ. فيه نُقرر ما نُريده لحياتنا، ومنه تصدر أحكامنا وقراراتنا. القلب هو عينُ الإنسان الداخلية وذاتهُ الحقيقية ومنبعُ كلامه وسلوكياتهِ: "وأَمَّا الَّذي يَخرُجُ مِنَ الفَم، فإِنَّهُ يَنْبَعِثُ مِنَ القَلْب، وهو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان. َمِنَ القَلْبِ تَنْبَعِثُ المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم" (متّى 15: 18- 19).
وفي الفكر الكتابي تُشير عبارة "نقيُّ القلب" إلى الإنسان الذي اقترن كل إيمانه بالله ويعيش حياة الطاعة له بقلب متحّد به لا إنفصامَ فيه (غير منقسِم)، فيُريد ما يشاءُ الله فحسب. قلب ليس فيه أفكارٌ سيّئة أو خبيثة، ليضحى مكان لقاء الله من خلال الصوم والصلاة والصدقة (6: 1- 18)، وليعكس حياة الوحدة بين ما يُفكِر به الإنسان وبين سلوكياتهِ الخارجية، فلا رياء في تعبّده لله ولا إزدواجية في علاقاتهِ مع الآخرين. فتكون النقاوة الداخلية (نقاوة القلب) هي أصلُ النقاوة الخارجية (نقاوة اليدين)، ومثل هذا الإنسان يعرِف الله حقا، يراهُ، لأن رؤية الله تعني معرفتهُ: أَمَّا أَنا فبِالبِرِّ أُشاهِدُ وَجهَكَ وعِندَ اليَقظَةِ أَشبعُ مِن صورَتكَ" (مز 17: 15)، وهي أعظم تطويبة ينالها الإنسان: أن يُعاينَ وجه ألله.
خطورة الرياء
شجبَ ربّنا يسوع خطيئة الرياء لدى الإنسان بشدّة. فالإنسان المرائي يُظهِر للناس فضائل لا يمتلكها ويُقدّم صورة كاذبة عن تقواه وفضائلهِ، بل ويتمادى في استغلال اسم الله بحثاً عن مجدٍ شخصي، ويجعل من الله وسيلة لينال المديح؛ لأن إهتمامهُ ينصبُ على نفسه وعلى جذب انتباه الآخرين، وهو مُدمنٌ على ذلِك. تراه يهتمُ بالمظاهر الخارجية أكثر من اهتمامهِ بالقلب وما يحمله من أفكار ونيّات ومشاعر؛ لأنه يبحث عن استحسان الناس ورضاهم ونيل إعجابهم أكثر من اهتمامه بما يُريده الله منه، والله ينظر إلى القلب (1 صم 16: 7). المرائي –بذلِكَ- يكشِف عن حالة من عدم الإيمان، إذ لا يحب الله ولا يُحبُ القريب، فالقريب مقبول لديهِ بقدرِ ما يُبدي إعجابهُ بشخصه هو، ولنا أن نسمعَ ربّنا يسوع يُعنّف الكتبة والفريسيين قائلاً:
"الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُطَهِّرونَ ظاهِرَ الكَأسِ والصَّحْن، وداخِلُهما مُمتَلِئٌ مِن حَصيلَةِ النَّهْبِ والطَّمَع. أَيُّها الفِرِّيسيُّ الأَعمى، طَهِّر أَوَّلاً داخِلَ الكَأس، لِيَصيرَ الظَّاهِرُ أَيضاً طاهراً. الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة. 28وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (متّى 23: 25- 28).
مَن يُصلي بإيمانٍ: "قَلبًا طاهِرًا اْخلُقْ فيَّ يا الله ورُوحًا ثابِتًا جَدِّد في باطِني (مز 51: 10)"، سيعمل إذاً على مقاومة تجربة الرياء في حياتهِ ويسعى ليكونَ نزيهاً أمام الله وأمام الآخرين، ليرغَبَ قلبهُ في أمرٍ واحد: "مشيئةِ الله"، "لتكُن مشيئتُك"، ويتعبّد له بكل قلبهِ وفكره وذهنه وقوتّه، ولا يوجَد إلهٌ آخر (تعلّقٌ) يُمكن أن يكون له مكانٌ في قلبه: "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متّى 6: 24).
طهارة القلب والفكر والشفاه
تعوّد الناس في حديثهم عن الطهارة بالتركيز على موضوع: "السيطرة على الذات" التي تعني سعي الإنسان ليُسيطرَ على أفكارهِ وأحكامه وقراراته ومواقفه فلا ينقاد لمشاعره بل يتفحصّها ويفعل ما هو صحيح وما هو متوافق مع العقل، لاسيما فيما يتعلّق بقضايا الغرائز الجنسية. وهذا ما يؤمِن به الجميع. ولكن ما جديد المسيحية في ذلِك؟
جديد المسيحية هو أن الطهارة ليست محددة بفعل السيطرة على الذات، فهذا يجعل الإنسان من ذاتهِ هدفاً. الطهارة هدفها المسيح يسوع، إذ أنها تعبيرٌ عن "عطاء الذات التام للمسيح يسوع"، فالحياة هي للمسيح: "الحياة عندي هي المسيح" (فل 1: 21)، "لستُ أنا الحي، بل المسيح يحيّا فيَّ" (غلا 2: 20). المسيح هو الذي يُسيطر على حياة الإنسان: عقلهُ وفكره ومشاعرهُ وعواطفهُ، المهم أن تُسيطر أنت يا إنسان على غرائزكَ، بل الأهم أن يسيطر المسيح عليك؛ ليُواصِل عمله الخلاصي من خلالِك، فنحن جسدُ المسيح: "أَوَ ما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله، وأَنَّكُم لَستُم لأَنفُسِكُم؟ فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن. فمجِّدوا اللهَ إِذًا بِأَجسادِكم" (1 كور 6: 19- 20). هنا يواجهنا بولس بالبعد المسيحاني والروحي (عمل الروح القُدس) والإرسالي للطهارة.
هذا المفهوم المسيحاني للطهارة يتسامّى بها من "ضيق" الطهارة الجسدية والمرتكزة على السيطرة على الغرائز الجنسية، ليشملَ طهارة القلب والفكر من الأفكار الرديئة والغضب والحقد والحسد والغش، وكذلك طهارة العين والشفتين من الكلمات البذيئة، فينكشِف جمال الطهارة في نزاهة الشخص وصدقهِ فيحيا حياة المسيح: "لِنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النَّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد. بلِ البَسوا الرَّبَّ يسوعَ المسيح، ولا تُشغَلوا بِالجَسَدِ لِقَضاءِ شَهَواتِه" (روم 13: 13- 14). فلا يُمكن الصلاة إلى الله بشفاه طاهرة وقلبٍ دنسٍ مليء بالعداوة والخصامِ. الإنسان(بكلِّيّته) مدعوٌ إلى أن يكون طاهراً أمام الله ويتقدّس بحضورهِ فيرى العالم بعيون الله، ويختبر حضوره في حياتهِ.
طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله
طاهر القلب: إنسان يسعى لأن يعيش واقعاً ما يُصلِّيهِ: "ليتقدّس إسمكَ، ليأتِ ملكوتُكَ لتكُن مشيئتُك"، فيعمَل كل شيء ٍمن أجل أن يتقدَس اسمُ الله ويأتي ملكوته وتتحقق مشيئتهُ على الأرض. لا يبحث عن مديحٍ بشري أو إرضاء هذا أو ذاك من الناس، بل يُريد أن يُرضي الله الذي يُصلي له: "أبانا". ليس مُهتماً بما سيقولهُ الناس عنهُ وكيف سيرونهُ، بل الأهم عنده هو: كيف يراهُ الله. يستغل مواهبهُ وإمكانياتهِ من أجل مجد الله وخير البشر لا من أجل نيل استحسان الناس وكسبِ رضاهم. فهو يُريد ما يُريدهُ الله؛ لأنه مُلكُ الله وحسب: "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء" (متّى 26: 39)، وبذلِك يسمح لله بأن يكون إلهاً يُحبهُ من كل قلبه وكل نفسه وكل ذهنهِ (متّى 22: 37). هو يُصلي مع المزمّر: "عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبي فأَخافَ اْسمَكَ. أَيُّها السّيدُ إِلهي بِكلَ قلبي أحمَدُك وللأَبدِ أُمَجدُ اْسمَك" (مز 86: 11- 12) ليجمع شتات محبة قلبه المنقسِم في تعلّقات كثيرة، ويتمركز حُبه في مخافة الله. وهكذا سينالَ نعمة مُشاهدة الله. فـ "غايَةُ هذِه الوَصيَّةِ هي المَحبَّةُ الصَّادِرةُ عن قَلْبٍ طاهِرٍ وضَميرٍ سليمٍ وإيمانٍ لا رِياءَ فيه" (1 تيمو 1: 5).
طاهرُ القلب: جعلَ كنزهُ في الله فصارَ قلبهُ يرنو إلى الله والى القريب. ينسى نفسه؛ لأنه يُحب الآخر (الله والقريب)، ويخسرها من أجل ما يُحبهُ. ليس مدمناً على الطعام أو الشراب أو الملبس أو المتعة، بل مؤمنٌ بتدبير الله الآب: "لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟ ... فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أوماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه. فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه. لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" (متّى 6: 25- 33). ولأن قلبهُ صارَ مُلكَ الله، سيرى الآخر والعالم بعيون الله، عيونٍ تُبارِك كل شيءٍ وتستحسِنُه من دون أن تسعى لاستغلالهِ من أجل تحقيق رغبات شخصية. يُحبِ مثلما يُحب الله، و"المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء، ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء. المَحبَّةُ لا تَسقُطُ أَبَدًا" (1كور 13، 4- 8).
طاهر القلب: إنسان مُؤمنٌ بالله الذي قَبِلهُ إبناً، برحمتهِ على الرغم من خطاياه، فلن يدين الآخرين؛ لأنه يعرِف أن الخشبة التي في عينيه ستمنعهُ من رؤية القذى في عين أخيهِ (متّى 7: 5)؛ ولأن الله يُؤمِن بالخير الذي في الإنسان أكثر من الشّر الذي يقترفهُ، لذلِك، يمتلِك صاحبُ القلب الطاهِر نظرة إيجابية عن الآخرين بعيدة عن السذاجةِ؛ لأن أفكاره ونيّاته نقيّة، يرى فيهم الخير والصلاح ويُفسّر إيجاباً سلوكياتهم ومواقفهم ويسعى لأن يتفهم أخطاءهم من دون أن يتنكّر لها: "أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟" فقالت: "لا، يا ربّ". فقالَ لها يسوع: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة". إنسانٌ يعرِف أن قلبهُ قد طهرّه الله وجددهُ: "قَلبًا طاهِرًا اْخلُقْ فيَّ يا الله ورُوحًا ثابِتًا جَدِّد في باطِني" (مز 51: 12)، وعليه أن يشهدَ لهذا التجدد في شهادة حياتهِ التي تتقبّل الخطأة مثله، وتسعى لأن يُسلّموا إلى الله حياتهم ليُطهرها ويُجددها بروحه مثلما فعل معه، فيكون شاهداً للرحمة الإلهية.
طاهر القلب: إنسانٌ نزيهُ وصريحٌ في نواياهُ، صادقٌ في أفكاره، شجاع في تعامله مع ذاتهِ وأمينٌ في علاقاتهِ مع الآخرين، فلا يُضمر لهم مكراً أو خُبثاً، لا يظنُّ السوء بهم ولا يمدح زيفاً أو يفتري كذباً. شجاعتهُ عقلانية لا تدفعه إلى التهور، بل يزنُ الأمور ويتعامل معها بحكمةٍ ويقظة، يقظةٌ تبدأ بمراقبةِ نيّاته ومشاعره وأفكاره ودوافعهِ قبل أن يُراقبِ حياة الاخرين (فحص الضمير)، فيُتابِع عن كثب "تحركات الداخل" بموازاة سلوكياتهِ الخارجية، مراقبة تجعله أكثر انفتاحاً على الروح القُدس وأكثر نُضجاً إنسانياً. هو مؤمنُ بأنه لو احتفظَ بغضبٍ أو ضغينةٍ على أحد فإنه لن يحظى بإصغاء الربّ له: "لو كُنتُ رأيتُ إِثمًا في قَلْبي لَما اْستَمعَ السَّيِّدُ لي" (مز 66: 18)؛ لذا، عليه أن يتخلّى كلياً عن هذه الضغينة ليكون القلبُ كلّه لله. يعيش العدالة والرحمة بمحبّة، مُدركاً أنه عليه أن يُمارس التوبة على نحو شخصي ومتواصل؛ لئلا يُجرَب فيفسَد قلبهُ ويُصبح مرائياً. من هنا، جاء تركيز آباء الصحراء في القرن الرابع على صلاة القلب، وهي صلاة تُصلّى مع حركة تنفس الإنسان، ليحصل على نقاوة القلب من خلال إحياء القلب بالصلاة إلى الله مثلما يحيا الإنسان بالتنفس.
طاهُر القلب: إنسان قلبهُ موجهٌ نحو الخير والصلاح فلا يضمرُ الشّر للقريب ولا يُريد الإساءة إليه، ليس فيه عنفٌ وغضبٌ تجاه الآخرين. إرادتهُ الطيّبة تجعله يُبادِر بالخير نحوهم، وهو على مثال الله سخيّ في العطاء، وبالمجّان. طهارة قلبهِ تجعلهُ نقيَّ العيون وطاهر اليدين ومتحرراً من المقاصد السيئة والرغبات النجسةِ وسيُترجِم نقاوة القلب هذه من خلال نقاوة اليدين وعفّة القكرِ، فيكون عفيفاً في قلبه ففكره ثمّ في جسدهِ، مؤَهَلاً ليقِف أمام الله نقي الكَفَّين وفيّاً لوعوده، غير حلاّفٍ بالخداع (مز 24: 3-5). هو الذي يقول عنه المزمّر:
"السَّالِكُ طَريقَ الكَمالِ وفاعِلُ البِرِّ والمُتَكَلِّمُ مِن قَلْبِه بِالحَقِّ. مَن بِلِسانِه لا يَغْتاب وبِصاحِبِه لا يَصْنعُ شَرًّا وبِقَريبِه لا يُنزِلُ عارًا. الرَّذيلُ حَقيرٌ في نَظَرِه ومَن يَتَّقونَ الرَّبَّ يُكرِمُهم وإِن أَقسَمَ، مُضِرًّا بِنَفْسِه، لم يُخلِفْ. لا يُقرِضُ بالرِّبى فِضتَه ولا يَقبَلُ على البَريءَ الرَّشوَة. فمَن عَمِلَ بِذلكَ لا يَتَزَعزَعُ لِلأبَد. (مز 15).
طاهر القلب: إنسانٌ يؤمنِ أن العين هي سراجٌ الجسد (متّى 5: 22)، لذا، يسعى أن يحفَظ نفسه مُحرراً من نظرة الخوف من ماضيِه، ومن نظرة القلق على مُستقبلهِ. لا يملك نظرة الجشع والبحث عن المتعة وتجنّب الألم. لا يرى العالم والاخرين من خلال بعين المثاليات التي تجعله يترفَّع متكبراً على الذات وعلى الآخرين. عينه ليست عين غضبٍ بل مُباركة. قلبٌ يُخطئ ولكنه لا يحتفِظ بالخطيئة فيه، بل يعمل على الخلاص منها سريعاً بالتوبة إلى الله والصلاة إليه؛ ليخلُقَ فيه قلباً نقياً، لا خوفاً منه بل محبةً له؛ لأنه عارفٌ أنه جرحَ قلبَ الله بالخطيئة، وأهانهُ عندما احتفِظ بالخطيئة في حياتهِ وسعى لإخفائها (خطيئة داود مع بتشابع).
طاهرُ القلب: يعمل على حِفظِ نفسه من الفساد فلا يُجالِس أهل الباطل والشر ولا يسير مع المرائين بحثاً عن متعةٍ عابرة أو المشاركة في مكيدة شريرة، يُغذي قلبهُ بخير الكلام، يُغني المُخيلة بحُسن المُشاهدَة، يُقويّ يديه بأعمال الخير والإحسان، يُدّرب أذنيه على سماعَ عبارات الشُكر والحمد فيُبارِك الله على نعمة الحياة ونعمة الإنسان القريب ويُحدِّث بعظائم الله في حياتهِ وحياة القريب، فنجاح القريب لا يُثير في نفسه الحسد والغضب، بل يجعله يُبارِك الله شاكراً. فالمرائي يغضَب عندما يرى أن الناس ليسوا بالتقوى التي يعمَل على إظهارها، لأنه "إنسانٌ مُتدينّ" وليس "إنساناً مؤمناً"؛ لأن الإيمان بالله الآب المُحب والرحيم يجعل الإنسان يُحِبُ الآخرين لاسيما الخطأة، أما المتدين فهو مدمنٌ على "الإعجاب بالأنا"، فيثور غضباً ويدين الناس من دون رحمةٍ؛ لأنه إنسانٌ متكبّرٌ وغير مؤمن.
يسوع المسيح: نقيُّ القلب
نُصلي دوماً إلى إلهنا وملكنا: "أَطلعِ عَلينا نورَ وَجهِك، يا ربّ" (مز 4: 7)، فوجهك يا ربُّ ألتمس (مز 27: 8). واستجاب إلهنا لصلاتنا فأخذ بيسوع المسيح وجهًا بشريًّا، صار بيننا ومعنا: "عمانوئيل"، الذي عاشَ محبة الله وقُربه منّا؛ ليُرينا وجه الله المُحِب، فمن رأه رأى الآب.
أحبَّ ربّنا يسوع الله من كل القلب وكل الفكر وكلَ الذهن، وأحبَّ القريب بالمحبّة ذاتها التي أحبَّ بها الله. لم يجازي الشر بالشر، بل غلبَ الشر بالخير، بالغفران. آمن بالله وأحبَّ أن يُتمم مشيئتهُ دوماً، قدّم حياتهُ ليكون في خدمة مشروع الله: ملكوتهِ. لم يكن يطلُب مجده الشخصي بل تمجيد الله الآب (يو 8: 50). كانَ نَبِيّاً مُقتَدِراً على العَمَلِ والقولِ عِندَ اللهِ والشَّعبِ كُلِّه (لو 24: 19)، يكرِزُ بالبشارة ويعمَل بها. لم يُحابي أحداً، بل نطق بالحقيقة دوما؛ لأنه كان هو الحقّ: "يا مُعَلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ صادِقٌ لا تُبالي بِأَحد، لأَنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النَّاس، بل تُعَلِّمُ سبيلَ اللهِ بِالحَقّ" (مر 12: 14). لم يستغل إنساناً لمصلحتهِ، بل انحنى يخدُمهم وهو المعلّم والسيّد. لم يُخطىء، ولكنه جعل نفسه خطيئة من أجل الإنسان، فأطاعَ حتّى الموت، موت الصليب. لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة (عبر 4: 15). عاش مُحباً وشاكراً الله على كل ما وهبهُ له: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض" (متّى 11: 25).
إنصبَّ اهتمام الكتبة والفريسيين على الطهارة الخارجية، فركزوا على أهمية أن يُبعدِ الإنسان نفسه عن كل ما يجعلهُ نجساً (أماكن وأشياء وأطعمة وحيوانات وأُناس) ومن ثَمَّ غير مؤهلٍ لأن يدخُل هيكلَ الله ويقفَ أمام حضرتهِ، فصنّفوا الناس إلى مجموعتين: طاهرة ونجسة. واجه ربّنا يسوع هذه العقلية ببشراه السارة وكان أميناً لهذه البُشرى التي أعلنها وكرّس حياتهُ كلها لملكوت الله الذي يضمُ الجميع، لاسيما الخطأة والمُهَمَّشين، فتناول الطعام مع الخاطئين ولمسَ البُرص وخالط الوثنيين وفضحَ رياء الكتبة والفريسيين مُعلماً الجميع أن النجاسة تبدأ من القلب:
"ودعا الجَمعَ ثانِيةً وقالَ لَهم: "أَصغوا إِليَّ كُلُّكُم وافهَموا: ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان". ... ما يدخُلُ الإِنسانَ مِنَ الخارِج لا يُنَجِّسُه، لأَنَّهُ لا يَدخُلُ إِلى القَلْب، بل إِلى الجَوْف، ثُمَّ يَذهَبُ في الخَلاء. وفي قَولِه ذلك جَعَلَ الأَطعِمَةَ كُلَّها طاهِرة. وقال: "ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان، لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه. (مر 7: 14- 23).
أسئلة للتأمل الشخصي:
نختُم لقاءنا هذا بصلاة للقديس أفرام عن القلب النقي:
اللَّهم اخلق لي قلباً نقياً، عفيفاً، طاهراً، بسيطاً، لا يفكر بالشر، ولا تأوى إليه الشهوات.
قلباً نقياً، لا يعرف الثلب ولا يغتاب قريبه.
قلباً نقياً، يملأه الحب دائماً، وفي كل حين يبتغي الأمان والسلام لكل إنسان.
قلباً نقياً، يحب الصوم والصلاة والسهر واذلال الجسد والعمل والتعب دائماً.
قلباً نقياً يبتغي التواضع ويلزم السكينة والبشاشة مع الجميع.
قلباً نقياً أكلته غيرة بيتك، ولا يقعد عن مناصبة مخالفي شريعتك.
قلباً نقياً يحب الصدقات ويوزعها ويشفق على ذوي الحاجة ويروي بني جلدته.
يا مُحب البشر ضع فيّ مثل هذا القلب واغرس مخافتك كالغرسة النامية.
يا رب هب لنا نقاوة القلب لنكون مؤمنين حقيقيين باسم الرب يسوع المسيح له المجد.