الأحد الثاني الأول من إيليا
لا تملّوا من عمل الخير (2 تسالونيقي 2: 15- 3: 18)
عانت كنيسة تسالونيقي الكثير من المُضايقات بسبب حسد جماعة اليهود، فكتبَ لهم الرسول بولس مؤكداً لهم صلاتهُ إلى ربّنا يسوع المسيح ليُعزي قلوبهم ويُثبتها في كل قولٍ وعملٍ صالحٍ. ففي وقت الضيق يحتاج كل واحدٍ منّا إلى أن يعرِف أنه ليس وحيداً أو منسياً، بل هناكَ مَن يُصلي من أجلهِ، وأن الله هو إلى جانبهِ ليجتازَ بإيمان وثباتٍ الصعوبات التي يختبرها. إلهنا عارفٌ بأنه بذرَ كلمتهُ في قلوب مؤمنة لكنها مُعرضة للكثير من التجارب والضيقات، وهي بحاجة إلى أن تتطهّر وتتجذر في كلمتهِ دوما. نحو هذه "النُضجُ الروحي" يتطلّع الرسول بولس ويرغبهُ لكنيسة الله في تسالونيقي، أي أن يُدركوا أن هناك مَن يُصلون من أجلهم ويطلب منهم الصلاة من أجلهِ، فلا يتوهموا أنهم "جماعة خارقة" لها أن تجتاز هذه الصعوبات وحدها وتنسىّ بقية الجماعات، جسد المسيح، أو أن تسقط في إتكالية مريضة بداء "الضحيّة"، والذي يمنع صاحبهُ من أن يجتاز صعوبات الحياة فينسحِب إلى السكينة، إلى الموت البطيء.
وطلبَ الرسول بولس اليوم من المؤمنين: "أن لا يملّوا من عمل الخير"، بل أن يواصلوا البحث عن كل الطُرق التي فيها تظهر محبّة الله للآخرين من خلالهم وعلى أيديهم. هناك ثلاثة شياطين تتحدانا في مواصلة عمل الخير الذي نسعى إلية. التجربة الأولى كامنة في أننا مراراً نتكاسل من مواصلة فعل الخير ونحن نواجه هول الشّر وجسامتهُ في العالم والذي يضرِب حياتنا فيترك ضحاياهُ في فقرٍ أو حزنٍ أو قلقٍ، ونجد أنفسنا أحياناً عاجزين أمام جسامة المسؤولية قائلين لأنفسنا: "أنا أفقر وأضعف من أن أحل مشاكل الفقراء". هنا، تُرشدنا الأم تريزا من خلال عبرة حياتها إذ تحدّاها يوماً صحفياً قائلا: "ما أثرُ عملِك أمام مأسأة العالم، قطرةُ في بحرٍ، أجابت الأم تريزا: دعاني الله لأكون أمينة لا ناجحة.
وهناك شيطانٌ ثانٍ يتحدنا ونحن نسعى إلى عمل الخير وهو كثرة الإنتقادات التي نسمعها على نحو مُباشر أو غير مُباشر والتي تُحبِط العزائم وتُطفيء شرارة الحماس فينا. ربّنا يسوع لم يُبالِ أبداً بما سمعهُ من إنتقادات عن فعل الخير، لاسيما يومَ السبت، وعندما حاول يهوذا منعَ المرأة من سكب العطر على رأس ربّنا، عارضهُ ربّنا قائلاً: دعوها، فهو فعلٌ خير سيُذكَر أينما اُعلنَت بشارة الإنجيل.
والشيطان الثالث، وهو الأخطر، هو تجربة "المساومة مع الشّر"، والذي فيه يسعى المؤمِن إلى إيجاد حلول وسط، أو حلول مقبولة متنكراً لجذرية الحلول الإنجيلية، والتي تُصيبنا بشكلٍ من البرود الروحي بل الجفاف. هي أشبه ما يكون بقبول النمو مع الشوك الذي ما أن يكبُر حتّى يخنق الحياة التي في البذور. هذه التجربة تدفعنا مراراً إلى إيجاد مُبررات لعدم مواصلة فعل الخير، وأحياناً كثرة إلى تبرير خطايانا، والحال، يتطلّع إلهنا إلى أن يكون فينا من الصدق والصراحة مع الذات، ما يجعلنا صريحين مع أنفسنا، فلا نسمح لشيطان المساومة التي يبذر بذاره إلى جانب كلمة الحياة التي زرعها الله في قلوبنا، فهذا الشيطان يُريد خنق كلمة الحياة لتموتَ من دون ثمار.
يروي آباؤنا الروحيون عن الراهب دانيال الذي أسره البرارة من ديرهِ وحبسوهُ في سجنٍ تحت حراسةٍ مُشددة. في يومٍ من الأيام رأى أن حارسهُ غارقٌ في نومٍ عميق، فأخذ حجارة وضربَ بها رأسي الحارس وقتلهُ وهرب. لكنه تندم على فعلتهِ فارتمّى عند أقدام رئيس أساقفةٍ الأسكندرية وروى له قصتّه، فطمئنهُ قائلاً: "إن الله خلّصك من هذه الوحوش، وهو سيُخلّصُك من هذه الخطئية". جوابٌ لم يُطمئِن الراهب، فسافر إلى روما ليلتقي بابا روما، بطاركة الكنيسة، والذين أرشدوهُ إلى ضرورة أن يهدأ روحياً، لكنه لم يقتنع من كل هذه الشهادات. أخيراً قرر أن يُسلِم نفسه إلى الوالي معترفاً بجريمتهِ فأمرَ بحبسهِ ثلاثين يوماً قائلاً له في يوم إخلاء سبيلهِ، متعجباً من طريقة معافبة نفسه: "صلي من أجلي أيها الراهب". هذا كلّه لم يُرضي الراهب دانيال الذي خاف من محاسبة الله لجريمتهِ، وقلِقَ من مسامحة الناس، فضميّره بكّتهُ ولم يُعطهِ نوماً هادئاً. فقرر ومن أجل التكفير عن جريمتهِ أن يضع نفسه، وبشكل سري، في خدمة مريض مُصابٍ بالقروح فيحملهُ إلى حيث الشمس، ويُطعمهُ ويمسح له فمهُ.
يأتي طلبُ مار بولس اليوم: "لا تملوا من عمل الخير"، والسبب: لأن الله لم يملُ من محبتنا على الرُغم من الخيانات المتكررة التي يختبرها في علاقتهِ معنا. فإن كان الله هو الذي أحبنا أولاً، ويواصل محبتهُ لنا، فهذا يعني عمليا ًأن نواصِل نحن فعلَ الخير حتّى مع الذين يكرهوننا ويمتمنون لنا الشر، وهذا يحتاج إلى قلبٍ مُعزى بالصلاة، ومُثبَت في صداقة أمينة مع الله، هذه الأمانة هي الطريق إلى القداسة، إذ فيها يبقى القلبُ يقظاً حارساً على الكلمة من كل التجارب والشرور التي تُريد قتل بذرة الحياة فيا. وهذا ممكن فقط إن تمكنّا أن نروي القلب من كلمة الله، ومن الصلاة إلى الله واحدنا من أجل الآخر، حتّى وإن كُنا نُعاني الضيق والصعوبات.
الأحد الأول من إيليا
إيمانٌ بالله ومحبةٌ للقريب ورجاء وطيدٌ (2 تسالونيقي 1: 1- 12)
قدّم بولس الشُكر لله لأجل كنيسة تسالونيقي لأن الإنجيل، بشارة ربّنا يسوع المسيح، أعطت ثمرها في هذه الكنيسة ويشهد على ذلك قوّة إيمانهم ومحبّتهم واحدهم للآخر وثباتهم في الرجاء. صارَ بولس يفتخِر بهذه الكنيسة أينما ذهبَ، كونها جماعة فتيّة ولم يقضي معهم بولس الوقت الكافي، مثلما فعل في جماعات أخرى، بل أُضطرَ لمغادرتها سريعاً، عارفاً أنهم يعانونَ إضهادات ومُضايقات جمّة من اليهود. هذه الإضطهادات والمٌضايقات جعلتهم راسخين في الإيمان، وأكثر قُرباً واحدهم للآخر، يعيشونَ الرجاء لا تعليما بل أسلوبَ حياة، فأنتصر الله فيهم ومن خلالهم.
ثلاث فضائل ذكرها بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثس مؤكدا على: الإيمان والرجاء والمحبة، والباقية هي المحبة. ففي حين أنه يؤكد في بدءِ رسالتهِ الثانية إلى كنيسة تسالونيقي على فضيلة الرجاء، لأن الكنيسة تعيش الضيق والاضطهاد. هذا الإضطهاد والضيق لم يتمكن من التقليل من عزيمة مؤمني الكنيسة، بل تقووا في الإيمان، عارفين أن الذي دعاهم لن يخذلهم، لأنه يُحبهم، لذا، إزادودا محبّة واحدهم للآخر. بالطبع نحن كمسيحيين لا نفصل بين هذه الفضائل، فهي تعبيرٌ عن موقف روحي واحد ينتظره الله من الإنسان: أن يشتاق إليه مثلما أن الله يرغُب في صداقةِ الإنسان.
ولكن يبقى السؤال: كيف لمؤمني كنيسة قورنثس أن يحافظوا على قوّة الإيمان وحماسة المحبة وثبات الرجاء في وقت الضيق والاضطهاد؟
أول ما نفهمهُ من تحيّة بولس لكنيستهِ هو أن الروح القُدس فاعلٌ في الجماعة (الفرد) فيُثبت المؤمِن في مسيرتهِ ويسندهُ ليعيش ثمار هذا الروح: "المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان" (غلا 5: 22)، وهو ما يمدحهُ بولس في كنيسة تسالونيقي. فالله هو الفاعِل في حياة الجماعة التي أستسلمَت له، ولن يتمكّن الشر، بكل قواتهِ من أن ينالَ منهم هذا الإيمان، تماماً مثلما لم يتمكن الشرير من أن يسلُبَ من شهداء الكنيسة قوّة الإيمان بالله الذي كان مَلكَ حياتهم المُطلَق. هذا الإيمان له أن يقرأ الحاضر المُتعِب والمُحزِن بعيون الله التي يرفضها العالم. نظرة الله التي تحتضِ ماضي الإنسان وحاضرهِ لتحملهُ إلى مُستقبلٍ واعدٍ يبدأهُ من الآن، وهذا بحاجة إلى ذاكرةٍ صادقة تعترِف بكلِ ما حققهُ الله في حياتنا، ونأسف لأننا نتناسى معجزات الله أمام أي صعوبة نختبرها. مَن يحمل هذه الذاكرة سيتمكَن من مواصلة مسيرة الإيمان على الرغم من الصعوبات، فيُحِب بمحبةٍ الله، ويجد في محبة القريب فرصة مُقدسة ليُجسّد هذا الحب، بل يطلُب من الله أن يجعلهُ أهلاً لمثل هذه المحبة. محبة القريب لن تكون "إحساناً" بل واجباً ومسؤولية يطلبها المؤمن في حرارة الصلاة مثلما صلّت الأم تريزا: "يا ربُّ إجعلنا هلاً لنخدُم الآخرين في كل العالم الذين يموتون من الفقر أو الجوع. أعطهم، من خلال أيادينا خُبزهم اليومي، ومن خلال محبتنا السلام والفرح". هكذا جعلَ الله من المحبة دعوة للإتحاد به، السُكنى معه. فالإيمان والرجاء سينتهيان يومَ إتحادنا بالله، أما المحبة فلن تنتهي بل تتعظّم لأن الله هو المحبة.
ربنا لم يخذعنا بل كان صادقاً معنا منذ البدء إذ بشرنا بإنجيله الذي يتضمن الصليب، وفيه الكثير من الضيق والإضطهاد، ومُشكلتنا هي دوماً أننا نرغبُ في حياة مسيحية من دون صليب، ونريد الإيمان بمسيحٍ من دون صليب، وقيامةٌ من دون صليب، وهذا مُستحيل لأن هذه شكلٌ من توافقية مع العالم، وإنتصار للمُجرّب الذي حاول أن يُنثي ربّنا عن طريقه حتى النهاية، ليسمَع نشيد الإنتصار من ربّنا: "لتكن مشيئتُك لا مشيئتي" (مر 14: 36). أن نعيش أمناء للدعوة التي دُعينا إليها كمسيحيين اليوم، يعني أن نكون أمناء لها في أدق تفاصيلها، وهذا يتطلّب تشخيص النظر على ربّنا يسوع، فمنهُ وفيه نستلهِم القوة لموصالة المسيرة. وهو ما يُبقي كنيسة تسالونيقي قوية في إيمانها وفاعلةً في محبتها وراسخةً في رجائها.
اليوم يسألنا بولس من خلال تحيّته إلى كنيسة تسالونيقي المُضطهّدة عن معنى وأثر بشارة ربّنا يسوع في حياتنا؟ كم من مرّة نتوقّف عند الصعوبات التي تواجهنا ونتراجع إلى الأمكنة المُظلمة من حياتنا متشكينَ من غياب الله وتجاهله ِلأحزاننا؟ هل لنا أن نُسمِعَ الله صوتَ التسابيح والتمجيد أم أن صوت التذمر والتأسف والمرارة يُبطِل عذوبة هذه التسابيح؟ حتّى إن كُنا نعيش مثل هذه اللحظات القاسية والمُحزِنة، ونحنٌّ دوماً إلى أحلامٍ غير منجزة، هذه اللحظات المؤلِمَة هي دعوة لنا من جديد لنتذكّر كم أن الله كان مُحباً فسندنا في أوقات ضعفنا وعزانا في ضيقنا وصرنا ما نحن عليه بسبب محبتهِ، وهو آمينٌ ليواصل معنا المسيرة ليكِشِف لنا أنه كان معنا، بل حملنا وقت الضيق من دون أن نعي حضورهُ.
الأحد السابع من الرُسل
كونوا ... متقدمين في عمل الرب (1 قور 15: 58- 16: 25)
ختمَ بولس رسالتهُ إلى كنيسة قورنثس المُضطربة بأزماتها الداخلية وبجدالاتها العقيمةِ حول مواضيعَ شتّى منها قيامة الأموات، ختمها بعبارة: "كونوا إذاً، يا إخوتي الأحباء، ثابتين راسخين، متقدمينَ في عمل الربِّ دائماً، عالمينَ ان جهدكم لا يذهبُ سُدى في الربِّ". فبولس ومع معرفته بالعواصف التي تضربُ الكنيسة الناشئة والضيقات التي تختبرها يُوصيهم بأن يبقوا ثابتين وراسخين في المسيرة إيماناً منهم بأن الله سيُكمِل ما شرعَ به بيسوع المسيح، بمعنى آخر: "آمنوا أنكم لستُم وحدكم في هذه المسيرة"، فالله يسمع صُراخكم، مثلما سِمعَ صراخ فقرائهِ في مصرَ، فنزلَ وخلّصهم، وسَمِع صُراخ ربنا يسوع فأقامهِ من بين الأموات.
ولكي يتحقق هذا الثبات عليهم أن يتقدموا في عمل الربِّ، عارفين أن عملهم هذا ليس باطلاً. قيامة ربّنا يسوع المسيح كانت ثمرة الإنتصار على الخطيئة والموت، والضمانة الحقيقية من أن الكلمة الأخيرة هي لفعل الله الخيّر. فليس كافياً أن يكون المؤمن ثابتا وراسخاً، بل عليه أن يتقدّم في أعمال الله، وأعمال الله هي أعمال المحبّة. مواصلة العمل بُرهانٌ على الثبات والرسوخ. عندما يُضايقنا الشر، ويحُيط بنا المجّرب من كل حد وصوب، علينا أن نرتكِز على إيماننا بالله من أنه لم ينسانا، وهو إلى جانبنا، وهو يدعونا لنستدِل على حضوره "السري" بيننا، ونتلمّس إرشادهُ، ونسأل الأسئلة الصحيحة ولا نسمح للشر بأن يتغلّب علينا في مثل هذه الأوقات، بل نستسلِم لقيادة الروح لا مثلما نُريد نحن بل مثلما يُريد هو.
يروي لنا آباؤنا الروحيون عن مؤمنٍ يهودي عاش في مُعتقلات النازية أيام الحرب العالمية الثانية. كان يسمع رفاقه يتسألون بحسرة: ما هي خطيئتنا حتّى يعاقبنا الله بمثل هذا العقاب؟ أين هو الله من كل هذا الشر الذي يحصل لنا؟ لماذء تخلّى الله عن شعبهِ؟ أما هو فكان يسأل يومياً: كيف لي أن أهربُ من هذا المكان؟ كيف لي أن أتخلّص من هذا المعتقل؟ وعدّت أسئلتهُ جنوناً.
في يوم من الأيام سمع نداء رئيس المعتقل للتوجه إلى ساحة المعتقل الكبيرة ليشهد إعدام رفاق له عصوا الأوامر، وتم تنفيذ الحُكم بهم، وغادرَ الجمع الساحة بعدها. أما هو، فتجمّد في مكانهِ حتّى المساء، وخطرت له فكرة المغامرة في أن يندسَ بين جثث القتلّى وقد تعرّى تماماً مثلهم، وجاء الحرس وحملوا الجثث في عربة ليرموها بعيداً عن المعتقل في حفرة أعدت خصيصاً لهذا الغرض. وبقي بين الجثث في الحفرة لساعاتٍ حتّى تأكد من لا أحد في المكان، فخرج من الحفرةِ وسارَ لساعات عارياً حتّى وصل إلى مكانٍ آمنٍ، وتمكن لاحقا من أن يروي قصته وكم الشر الحاصِل في المعتقلات.
ثباتهُ راسخاً في الإيمان بالله من أنه لم يترك شعبهُ ليكونوا ضحية الشر جعلهُ مختلفاً في رؤيتهِ لما يختبره من صعوبات، مع أن الظروف لم تتغيّر في المُعتقل، ولكن قلبهُ كان غير قلبِ رفاقهِ تماماً. الخطيئة والشر تمكنتَ منهم وجعلتهم يائيسين بل نزعت عن قلوبهم الإيمان، ولكنها لم تتمكن من التغلّب على صلابة إيمانهِ، فكان خلاصهُ حقيقة. كان واثقاً أن الغلبة هي لكلمة الله المُحيّة، ولن يسمح الله للشر أن يكون له كلمة الفصل. لذا، لا يُمكن أن نتخيّل مؤمناً يندُب حظهُ ويتباكى على ما يعيشهُ من أزماتٍ وصعوباتٍ، بل عليه، وبسبب إيمانهِ بالله أن ينفتح على نعمة الله التي لن تتركهُ وحيداً، فيُصلي لله في ضيقهِ، ويرفع إليه شكواهُ وينتظر منه الجواب.
مسيرةُ حياة مثل هذه هي مُكلفِة، بل هي أشبهُ بدخول بابٍ ضيقٍ مثلما يقول ربّنا يسوع اليوم في الإنجيل. مسيرة تتطلّب الإجتهاد لاسيما الإيمان وسطَ ظروفٍ تُضادد الإيمان. إيمانٌ ليس إعترافاً بعقائد أو مُشترعاتٍ أو تعريف بمعلوماتٍ، بل سعيٌ حثيثٌ لتحقيق ملكوت الله في قلوبٍ صخرية ترفضُ حضورهُ. كثيرون سيطلبون الدخول، وليس بالضرورة أن نكون نحن من بين أولئِك الذين سيُمكنهم الدخول، لأن دخول الباب يتطلّب جُهداً. لذا، علينا الإنشغال بأعمال الله، وأعمال الله كُشِفَت لنا بجلاء في يسوع المسيح.
علينا أذن أن نستحِق مسيحيتنا، لا في أن نأكل ونشرَب مع الربّ فحسب، بل أن ندع أفخارستيتهُ تُقدّس حياتنا، وتُغيّرنا لنكون نحن "أفخارستيا للذين هم حولنا". مسيحيتنا ليست "بطاقة تعريف": "هوية" فحسب. مسيحيتنا ثباتٌ وجهادٌ في أعمال الله، وسيلاقي المسيحي بسبب مسيحيتهِ مخاطِر جمّة، وتهديداتٌ بالموت: "اخرج من هنا فإن هيرودس يُريد قتلَك". مسيحيتنا تتطلّب إستعداداً وجهوزية ولن تقبلَ بالتراخي أو أنصاف الاختيارات، أو أن نعيش مسيحية المناسبات. الملكوت يُؤخَذ عنوةً، وقد يكون الثمنُ باهضاً: حياتَك، مثلما فعلَ ربّنا يسوع. ومَ، يثبُت إلى المنتهى فذاكَ يخلُص.
الاحد الثاني من الرسل
مَن هو يسوع: مُعلمٌ أم نبيُّ الله (لو 7: 36 – 50)
تأثرَّ بعضُ الفريسيين بشارة ربنا يسوع المسيح، ورأؤوا فيها مُعلّماً قديراً، وأحبّوا التقرّبَ إليه. هذا ما دفعَ سمعان الفريسي ليدعوه من أجلِ أن يتناول الطعامَ في بيته من دونِ أن يخافَ إنتقادَ الفريسيين. ولكن، يبدون أن سمعان لم يُظهر لضيفهِ كل ما يلزم من واجباتِ الضيافة، والتي فضحتها امرأة دخلت المشهد من دونِ مُقدماتٍ، لتعوضّ النقصَ الذي أظهره سمعان تجاه ربّنا يسوع المسيح. ولكن، ومع أنَّ المبحة التي أظهرتها هذه المرأة تجاه ربّنا يسوع المسيح كانت صادقة ومُعبّرة، إلا أنَّ قساوة قلب الفريسي منعهُ من أن يتوبَ ويُغيّرَ مواقفهُ، ويُرِد أنه مهما فعلَ فهو بحاجة إلى إلتفاتةٍ رحومةٍ ومُحبةٍ من الله فيقبلهُ غافراًٍ له نقائصهُ. بل على العكس، نراهُ مُتصلّباً أكثر في مواقفهِ، فراحَ يُفكر: هل أنّ ربّنا يسوع مُعلمٌ قديرٌ فحسب، أم أنه نبيُّ الله ليعرِفَ حقيقةَ هذه المرأة؟ موقفٌ عبّرَ فيه الفريسي: بأنني لستُ بحاجةٍ إلى غفرانكَ يا الله لأني قادرٌ على أن اُثبِتَ لك بأن أستحقُّ المبحة!!! بادر يسوع وفاجأَ سمعان الفريسي وبيّنَ أنه أكثر من نبي: لأن ربنا يسوع المسيح يعرف هذه المرأة، وهو يعرف أفكار سمعان حتى وإن لم ينطقها، وربّنا قادرٌ على قبول المرأة من جديد وإحيائها. شعرت المرأة بحاجتها العظيمة إلى الله، فأحبّت كثيراً، وأظهرت هذه المحبّة بشجاعة عالية متجاوزةً كلَّ الأعراف والتقاليد، ولم تُبالي بنظراتِ الإحتقارِ التي وُجهتَ لها، بل تقدمت نحو ربّنا وسجدت وأذرفت دموعَ الندامة وهي تقبلُ غفرانَ الله شاكرة المحبّة التي أختبرتها بربّنا يسوع المسيح، ولن تعودَ إلى الخطيئةِ، بل تنعمُ بسلامِ الله الذي جاءَ لها نعمةً. كانت خطاياها كثيرة ولكنَّ إيمانها كان أكبر، ومحبّتها أعظم. هنا يُبيّن ربّنا يسوع المسيح موقفهُ المُحب من كلِّ الناس لأنه أُرسلَ لخلاص ِالإنسان، فقبلَ توبة المرأة الخاطئة مثلما قبلَ دعوة الفريسي ليأكلَّ في بيتهِ، ويُقدّم للكنيسة إراشاداً وتوجيهاً: كيفَ علينا أن قبلَ شعبَ الله! فالخطيئةُ ليست سبباً نرفضُ من خلالهِ الإنسان، الإنسان الذي أحبّه الله جداً حتى بذلَ إبنه الوحيدَ لكي لا يهلَكَ. موقفٌ لم يتمكّن الفريسي من أن يُبيّنه فراحَ يدينُ المرأة رافضاً منها كل مُبادرة للتوبة وقبولِ غفرانِ الله، وبقيَّ مُتشكياً في قساوة قبلهِ، ولكنّ ربّنا لم يتركهُ بل توجّه إليه ليتركَ أحكامهُ المُسبقةَ، وينفتحَ حياته ويشهد محبةَّ الله التي صالحتَ هذه الإنسانةِ وقبلتها، وأطلقتها للحياة بسلامٍ لم تختبره من قبلُ. كان الفريسي يُفكّر بأن على الإنسان أن يُطبّقَ بنودَ الشريعة كلّها حتى يقبلهُ الله، وإذا لم ينجح الإنسان في إظهارِ هذه المحبّ’ فهو ليس مُستحقاً أن يقترِبَ من الله أو من الجماعة. أفكارُ الفريسي ونظريّاتهِ صارت هي التي تُحددُ مَن هم في داخلِ الجماعة ومَن هم في خارجها، وهو بذلك يتناسى أن الله هو سيّد الجماعة وخالقها، وهو الذي يقبلُ الإنسان غافراً، وعلى الإنسان أن يُظهِرَ مُحبةً تُبيّنَ فرحتهُ بأنه مقبولٌ من قبل الله على الرغمِ من كثرة خطاياه، لتكونَ هذه المرأة إنوذجاً لكلِّ إنسانٍ يشعرُ بضعفه وقوةّ حضورِ الله المُحب في حياتهِ، فيعودَ شاكراً الله على نعمة غفرانهِ، وهذا الذي أرادَ ربّنا أن يُعلّمهُ له. فهل سنسمحَ لهذا المرأة أن تُعلّمنا كيف يكون التقرّبُ من يسوع؟ وكيف علينا أن ننقفَ أمام الله بتواضعٍ مُحب لا يحبُسَ الآخرين ويُميتهم، بل ننهلَ من محبّة الله ورحمتهِ قوّة تُحررنا من ضيقِ أفكارنا التي تُفسد قلوبنا حيث يسكن الله إلهاً مُحباً. عَرفَ أحد المعلمينَ أن الشيطان راح يُبدد رُهبانهُ بكثرة الثرثرة الرخيصة التي قبعت على قلوبهم وفرّقتهم، فجمعهم أمامه وأعطاهم كيساً وطلبَ منهم أن يأخذوا البطاطةَ من المطبخ ويكتب كل واحد إسمَ الشخص الذي يكرههُ ويضعهُ في الكيس وحملهُ معه أينما ذهبَ ولمدة أسبوع، فوافقَ الرهبان على طلبِ مُعلّمهم. ولكنَ، وبعد مرورِ أياماً بدأت رائحة العفونةِ تفوحُ من الكيسِ، فصارَ حملهُ ثقيلاً، وأرادَ الرهبان التخلّص من الكيس ولكنه لم يقدروا لأنهم وعدوا الطاعةَ لمعلّمهم. فرحوا جداً عندما إنتهى الأسبوع، فجمعهم المعلم وسألهم عن هذا الأسبوع فبيّن الجميعُ أنه كان إسبوعاً مُقرفاً بسبب كيس البطاطة المعفنة. فعلّمهم قائلا: لم تتحملوا حملَ البطاطة العفنة لمدة أسبوع، فكيفَ تُريدون حملَ الكراهية واحدكم ضدَّ الآخر طوالَ الحياة. فلنشكرَ الله على نعمة يسوع المسيح الغافرة بيننا لاسيما في كل قُداس نحتفلُ فيه، ونسألهُ أن يُقوينا النظهرَ له كمالَ المحبّة من دونِ غشٍ أو تقصير أو عوزٍ أو خوفٍ. فربّنا يفرح بعطايانا، ولكنه يفرح أكثر بطيبِ توبتنا وصدقها. صدقُ يظهر عندما نقبلُ فرحينَ غفرانَ الله ونمنحهُ بفرحٍ لكلِّ مَن يُسيءُ إلينا فتكون صلاتنا صادقة: أغفر لنا خطايا كما نحن نغفرُ لمَن أساء إلينا".
عيد العنصرة (الأحد الأول من زمن الرُسل)
وحدة وتنوع وإتفاقٌ وسلامٌ(1 كور 12: 1- 27)
كتبَ بولس رسالتهُ إلى كنيسة كورنثس التي كانت متأزمة بالخلافات ما بين أعضائها، ليُذكرهم بحقيقة الروح الواحد الذي جمعهم وجعلَ منهم كنيسة واحدة؛ الروح القُدس. هذا الروح الواحد وهبَ لأعضاء الكنيسة مواهبَ مُختلفة لخير الكنيسة: الكرازة والنبؤة وتمييز الأرواح والنُطق بالألسنة وشرحُ كلمة الله ... هذه كلّها مواهبُ الروح الواحد الذي يُريد كمال الكنيسة جسدا المسيح ووحدتها، فهذه المواهب ليست لضعِف الكنيسة بل لتقويتها وتثبيتها، فالروح القُدس هو مبدأ وحدة الكنيسة، وسببُ تنوعها وجمالها وإختلافها أيضاً. هو مثل المطر الواحد الذي ينزل على غابة ليبعث الحياة في نباتات متنوعةـ هكذا يُعطي الروح لكل إنسان النعمة بحسبِ ما ينفعهُ.
هذه المواهب هي مجّانية وهي لخدمة الكنيسة، فهي ليس لتقديس الشخص الموهوب فحسب، بل هي في خدمةِ الجماعة. ففي حين أن النعمة تُمنَح للجميع وهي تريد كمال الإنسان، تُعطى الموهبة لخير الآخر؛ القريب والكنيسة. فلا يقصد الروح أن يمنح َالإنسان الموهبة لينغلِق بها على ذاته، ويسير الحياة مفتخراً: بأنه موهوبٌ، بل ليُغيّره أولاً من إنسان خائف ومتردد ومتشكك ومضطرِب إلى مُبشرٍ بالسلام والفرح مثلما حصلَ مع الرُسل اليوم. الرُوح القُدس هو رفيقُ الكنيسة، كنيسة ربّنا يسوع المسيح، لاسيما في الأوقات الحاسمة في حياتها، في أوقات الشّدة والإضطهاد، في أوقات الأزمات والخصومات، ليجعلها كنيسة الأخوة، وبالتالي كنيسة قوية في مواجهة الإضطهادات.
مواهب الروح القُدس إذن هي علامات للأزمنة المشحانية، حيث يملُك الله من خلال إنتصار الحق والعدالة لصالح الفقراء مثلما يُبشر به إشعيا النبي: "وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ فَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ وَلاَ يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ. بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ" (إش 4: 2- 4). فخلاص المسيح يسوع موجهّة كبُشرى سارة إلى الفقراء، وإلى منكسري القلوب، وأسس الكنيسة على أساس علاقته ِالخاصّة بالله الآب وبالروح القُدس، فلا كنيسة خارج هذه العلاقة. والكنيسة تحيّا بعطية ربّنا يسوع المسيح في الروح القُدس الذي يهبُ النعمة للكنيسة (أعضاءً وجماعة) من خلال قناتين: الأسرار لتقديس أعضائها، والمواهب لتقديس الكنيسة.
ولكن كيف لنا أن نعيش مواهب الروح القُدس التي يُنعِم بها الله علينا؟ بالتأكيد من خلال تباعةٍ أمينة لربنا يسوع المسيح، وأول المواقف هو: "الطاعة"، وطاعةُ ربّنا يسوع كانت أمينةً حتّى في وقتِ الممات. فمَن نالَ موهبةً عليه أن يعرِف هذه الموهبة هي لخدمة كنيسة يسوع المسيح، وليس بحثاً عن إنجازٍ شخصي. مؤسسوا الرهبانيات كانوا موهوبين بضرورة التجديد، ولكنهم عملوا ذلك بطاعة وصمت ضمن الكنيسة. فالموهبة من دون جماعة تُصبح فوضى، والجماعة من دون موهبة تصير جامدة. لذا، يُذكر بولس الكورنثيين بضرورة الحفاظ على وحدة الكنيسة والإبتعاد عن الفوضى والشقاق. إتفاق الكنيسة ووحدتها شرطٌ أساسي لحضور الروح القُدس مثلما يقول سفر أعمال الرُسل عن جماعة التلاميذ: "كانوا مثابرين على الصلاة بقلب واحد" (أع 1، 14)؛ وركيزة الاتفاق هي الصلاة معاً بقلبٍ واحدٍ.
ثم يحتاج الموهوب فضيلة التواضع لكي يعرِف أن لا يمتلِك كل المواهب، بل له موهبة واحدة فقط من مواهِبَ عديدة، وما يمتلكهُ هو عطية الروح وليس إنجازاً شخصياً. فهو بحاجة إلى جميع الأعضاء: "وَلَكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعْطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ" ( 1كو 12: 7)، فلا يوجد مَ، يمتلكُ كمال المواهب، كمال المواهب هي في الكنيسة التي لها ملءُ الروح: وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" (أفسس 1: 22- 23). هكذا لن يبحث الموهوب على ضرورة السماع إليهِ وتنفيذ أوامره، بل يركنُ إلى الصلاة والحوار مع الأخوة والأخوات، ليكون التوافق في الكنيسة والإنسجام بين أعضائها. ففي العنصرة زال الخوف والانقسام والتباعد، وولدت الوحدة والتفاهم والسلام، وهذه هي عطية الروح القُدس.
وأخيراً يحتاج الموهوب إلى فضيلة المحبة، أي أن يكون مُحباً من أجل العمل على وحدة الكنيسة، فلا تكون موهبتهُ سبب شقاق وإنفصال وفوضى، بل عاملاً على بيان جمال عمل الروح في الكنيسة. فـ" الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ وَلاَ تَنْتَفِخُ. وَلاَ تُقَبِّحُ وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا وَلاَ تَحْتَدُّ وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ. وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً" (1 كور 13: 4- 8). فالمواهب تنتهي، أما المحبة فتبقى. الموهوب الذي يتعلّق بموهبتهِ ولا يُحبُ الكنيسة، إنما هو صوتٌ للمجرّب الذي يُريد تجزئة الكنيسة وضعفها. الموهوب الأصيل هو مَن، يُحبُ الكنيسة ويجعل كل شيءٍ في خدمتها، حتّى حياتهُ. لأن المحبة تعمل على تثبيت موهبة الإنسان، بل تجعلها موهبة الجميع.