الأحد الثالث من تقديس البيعة
طهّر ضمائرنا وقدّسنا بذبيحتهِ (عبر 9: 5- 15)
"فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ!" (عبر 9: 14). وجّه كاتب الرسالة إلى العبرانين تأملهُ لجماعة إعتاد تقديم الذبائح في الهيكل، وكانت تترجى دوماً غفران الله من خلال هذه الطقوس. دعاهم إلى التأمل في تأثير هذه الذبائح على حياتهم اليومية، وسألهم: "كم بالأحرى ذبيحة المسيح يسوع؟ لذا، حرضّهم ليسلّكوا أمام الله ومعه مثلما فعلَ هو، فيقدموا حياتهم تقدمةَ شُكرٍ لله الذي قدّم حياتهُ ذبيحة محبّة لهم، لأن الذبيحة في جوهرها الروحي هي فعلُ محبةٍ. وهذه الذبيحة هي "إرسالية" (مُعدية) في طبيعتها: "وأنا أقدّس ذاتي من أجلهم، ليكونوا هم أيضاً مُقدسين في الحق" (يو 17: 19).
في هذا الأحد من آحاد تقديس الكنيسة نسأل: كيف تتقدّس كنيسة ربّنا يسوع؟
هل بأعمالنا الصالحة؟ نعم، ولكن، هذه الأعمال الصالحة يجب أن تُفَهَم بأنها جوابٌ للنعمة التي صارت لنا بيسوع المسيح، الذي قدّم ذاتهُ في فعل طاعّة تامّة لله، ليُشرِكنا في آلوهيتهِ، وهذه هي إرادة الله الآب المُحِب. صارَ هو الهيكل الذي لم تصنعهُ أيادي البشر بل محبّة الله. ذبيحة ربّنا يسوع المسيح لم تكن ليتطّهر الإنسان في سلوكياتهِ الخارجية؛ فلا يسرق أو يزنِ أو يقتل أو يشهد زوراً، بل ليُطهِرَ ضميره ويولَد من جديد، فيُحِب مثلما أحبهُ الله، ويخدُم الآخرين مثلما يخدُمهم نفسه. ذبيحة يسوع هي ذبيحة مُصالحة وسلامٍ الله مع الإنسان، إذ، ووخلافاً لكل الذبائح التي تُقدم في الهياكل، ومنها هيكل أورشليم، والتي تُريد تهدئة غضب الألهة، قدّم الله ذبيحة إبنه لتهدئة عدوانية الإنسان وعنفهِ، ويهديهِ للعودة إلى أبيهِ السماوي. فجاءت ذبيحة سلام ومُصالحةٍ، وإتحادُ المحبة كاملاً.
ربّنا يسوع يدعونا في كل قدّاس نحتفل به: "خذوا كلّوا هذا هو جسدي ... خذوا إشربوا منها كلّكم هذا هو دمي". هو يدعونا أولاً للإتحاد به، فيوحدنا جميعاً في "أفخارستيه"، ويصهَرنا معاً لنكون "جسده". لذلك، نحتفل بكلمة الله اليوم في إنجيل يوحنّا والتي تدعونا إلى أن نقبلَ "هيكلَ جسدهِ"، لا أن نُطهِر أجسدانا (هياكلنا) من الخطايا. تطهير الهيكل جاء بعد أن دخلهُ ربّنا يسوع، وعندما يدخله يغمره بحضوره المُحِب ويوحولّنا إليه. يعتقد البعض منّا متوهماً أنه وبتجنبهِ الخطيئة يتمكنّ من أن يُصبِحَ طاهراً، وهذه ليست القداسة التي دُعينا إليها.
قداستنا تكمُن في "قُداسنا"، أفخارستيا ربّنا يسوع المسيح الذي يُقِدم نفسه مأكلاً ومشرباً، لنتحّد به. هو حاضرٌ اليوم لا للمُشاهدة بل للوحدةِ به، ومنه ننال وُحدتنا، لأنه حضور فاعلٌ يُحقق قداستنا، فنحن لا نقبلُ الآخر ونُحبهُ كقريبٍ لنا إلا بيسوع المسيح، الذي يدعونا إلى أن نتبعهُ في طريق الخدمة، فنخدمَ القريب بمحبةٍ ويدعونا في ذات الوقت إلى خدمتهِ لأنه يُعرّف نفسه بالقريب الذي نلتقيه يومياً: "بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ" (متّى 25: 40).
الذبيحة في المفهوم الطقسي تُعبّر عن تقدمة تامّة لله، وهذا لم ولن يحصل معنا عادة، لأننا في أحسن حالاتنا نبقى نبحث عن كلمة إطراءٍ، أو مكافئة في السموات إزاء الخير الذي نُقدمّه للقريب. وحده ربّنا يسوع قدّم نفسه لله كلياً، فكان وجه الله المُحِب والذي ترحمَ على الخاطئين وأشفقَ على الحزانى. نزعاته وإندفاعاتهِ ومشاعرهِ هي كلّها لله، فكان تقدمُة تامّة، فلم يحيا لنفسه، بل عاشّ لله وللإنسان، وهكذا فتحَ لنا "طريق القديسين" الذين ساروا خلفَه حاملين حياتهم تقدمة شُكرٍ لله، لأنهم عرفوا أنهم نالوا كلَّ شيءٍ من الله. وعندما نُقدّم تقدمَة منقوصة، مثل إنسانيتنا الهشَة، يُقبلها الله ويُعيدها إلينا مُقدسة، تماماً مثل الخبز والخمر الذي يقبلهُ منّا في القداس ليُعيده إلينا مُقدساً: جسده ودمهُ. ندخل الكنيسة خاطئين ومنقسمين فيُباركنا بالرحمة والغفران وسلام القلب.
اليوم نسمعُ بشارة الرسالة إلى العبرانيين: "يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ!" ويسأل كل واحد منّا أن يفحص ضميره تحت نور بشارة ربّنا يسوع ويعترِف بالأعمال الميّتة التي فينا، وأولها محاولاتنا في جعل مسيحيتنا طقوساً خارجية لا تمُس كياننا العميق، ولا تُغيّره ليكون هيكلاً لله. كم منّا يتمنّى أن يبقى الحديث على ضرورة تغيير السلوك من دون الرغبة الحقيقية في تغيير الضمير والانفتاح إلى عمل الروح القدس؟ هل تسألنا عن جذور حُب المنافسة والصراع على الأمكنة الأولى والتي يذهب ضحيتها القريب، وتُقسِم الجماعة وتصنفهم مثلما حصل في الهيكل أيام يسوع: فقراء وأغنياء، يهود ووثنين، أصلاء وغرباء، رجال ونساء؟ هل فينا الشجاعة للإعتراف بأخطائنا أم أن تكبرنا يحعلنا متعجرفين نرفض الاهتداء؟
فليس المهم تطهير الهيكل (خارج الكأس)، المهم هو الإرتباط الشخصي بربنا يسوع المسيح، الدخول إلى هيكل جسدهِ الذي سيُقيمهُ في ثلاثة أيام، مسيرة الفصح طاعة لإرادة الله الآب، وهذه المسيرة كفيلةٌ بأن تُطهر ضمائرنا.
الأحد الثاني من تقديس البيعة
المسيح يسوع رئيس أحبارنا (عبر 8: 9- 10)
بُنيت كنيسة ربّنا يسوع على صخرة الإيمان، إيمان بُطرس مُطيعاً الذي سيقبَل الألم والموت الذي كُشِفَ له كونهُ مُبشراً بيسوع المسيح، الذي يقول عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين بأنه رئيس أحبارنا. نحن نعِرف أن ربنا يسوع لم يكن كاهناً، ولم يدخل يوماً قُدس الأقداس ليُقدِم الذبيحة في يومِ كيبور. لكننا نؤمِن بأنه هو "رئيس أحبارنا" الجالس عن يمين الجلالة، ربّنا يسوع المسيح. فكيف لنا أن نفهم هذا الإيمان؟ وما أثرهُ في حياتنا اليوم؟
مهمّة الكاهن الأساسية كانت مُصالحة الله مع العالم وليست تقديم الذبيحة، وذلك من خلال توجيهِ العالم ليكونَ وفقَ إرادة الله، فيكون للإنسان تعبدٌ صحيح، والعبادة الصحيحة هي: أن يحيا بنّفس الله الذي أعطى للإنسان الحياة: "وجبل الرب الإله الإنسان ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسا حية" (تك 2: 7). من هنا كان آدم أول كاهنٍ عرفتهُ البشرية قبلَ أن يُخطأَ، إذ حظيَّ بصداقة ومودة الله يقول عنها الكتاب المُقدس: "أنها كانا يتمشيان في المساء، عند نسيم النهار" (تك 3: 8-9). كان على آدم أن يجعل العالم كلّها فردوس عدنٍ، ولكنه، وبسبب الخطيئة ضلَّ الطريق وأبتعدَ عن الله.
ولأن الله محبّة فلم يترَك الإنسان في ضياعهِ بل جائه في شخصِ يسوع المسيح ليُعيد الشِركةَ من جديد، أن يكونا معاً، وأن يعمل الإنسان على جعل العالم كلّه ملكوتا لله من خلال تعبدٍ صحيح للإنسان. والتعبد الصحيح يكون في إصغاء الإنسان وطاعتهِ التامّة لكلمة الله، فلا مجال لما أفكِر به وأريده، بل لما يُريده الله.
نحن نعيش في عالم خاطيءٍ، وفي الخطيئة نبتعدُ عن الله ونتيهُ عنه، ولأن العودة إليه تكون مؤلمةً دوماً، لذا، أوصى الله موسى بأن يُقدِمَ ذبابح تكفيرية تُعلِن: "أننا في عهدٍ مع الله، وأننا بالخطيئة كسرنا هذا العهد، ووجبَ أن يكون مصيرنا مصير هذه الذبيحة المُقدَمة على هذا المذبح. لذا، كان رئيس الأحبار يدخل قُدس الأقداس مرّة كل سنة في يوم عيد التكفير ليُقدِم الذبيحة ويرش على الجدران، ثم يأخذ من دم الذبيحة ويرشه على الشعب، ليؤكد الله من خلالها: أنه متضامن مع الإنسان الخاطيء حتّى يعودَ إليه. فقدس الأقدس يُشير إلى السماء، وهذا الدم آتٍ من السماء، من الله.
ربّنا يسوع صارَ عظيمَ أحبارٍ لا من خلال تقديم لذبائح حيوانية، بل من خلال تقديم حياته كلها لله في فعل طاعة تامّة حُباً بالإنسان. هذه الحبوانات لم يكن له إرادة فيما يحدث لها، أما ربّنا يسوع فسارَ إلى الموت بإرادتهِ الحُرة فصارَ هو الذبيحة وهو الكاهن في نفس الوقت. ذبيحة المسيح يسوع لم تكن من أجل تطهير الجسد من نجاسة الخطيئة، بل من أجل أن ينفتح القلبُ لشريعة الله: "أجعل ناموسي في ضمائرهم وأكتُبهُ في قلوبهم"، فالله هو الذي عاهَد الشعب وهو أمينٌ في مواعيدهِ. ذبيحتهُ ليست كفارة عن خطايانا فحسب، بل ليُصالح العالم إلى الله.
كنيسة يوسع المسيح، لن تكون كنيسة الذبائح الحيوانية وليست كنيسة مُشترعات وقوانين، بل كنيسة المحبة والإيمان بالله المحبّة، والذي يُنعِم بالرحمة على الخاطيء فيغفر له ويتجاوزها، وهو يُريدنا أن نكون مثلُ الله الآب: رُحماء، لذا، يقول ربّنا يسوع اليوم: "أريد رحمةً لا ذبيحة". وهذه الكنيسة ستتقدّس بمقدار تمثلّها بيسوع المسيح، المُطيع حُبا لله حتّى الموت.
ولكن ما نفعُ ذبيحة يسوع المسيح بالنسبة لنا؟
ذبيحة يسوع المسيح فتحت لنا الطريق إلى الله. فلم يعد الله محبوساً في قُدِس الأقداس الذي يدخله رئيس الأحبار مرّة في السنة، بل أعادَ إلينا الحياة الفردوسية الأولى، إذ دعانا لنكون معهُ، ونعمل على أن يتحوّل العالم كلّه إلى الفردوس الذي يُريدهُ الله، ملكوتهُ. من خلال الإصغاء والطاعة له، فهذه أهم من ذبائح وتقادُم خارجية لا تمُس قلوبنا وضمائرنا البتّة. ذبيحة ربّنا يسوع جعلت الله في مركز عبادتنا من جديد، بعد أن صارت الطقوس والذبائح هي الأهم، فالذبائح لن تُطهّر الإنسان من الخطيئة، وحده القلب النقي، المملوء من المحبة هو الذي يجعل الإنسان في ألفةٍ مع الله، لأن الله محبّة. هذه القلبُ الذي مسحه الروح القُدس.
اليوم، ونحن نحتفل بأفخارستيا ربّنا يسوع علينا أن نتذكّر أننا دٌعينا لا للمُشاهدة بل للمُشاركة فيها، بل لنكون في شِركةٍ معه، هو الذي جعل منّا "مملكة كهنة وأنبياء". هذه الشِركة تجعلنا "مسيحياً" لمَن هم من حولنا، فبالعماذ مُسحنا لنكون على مثال ربّنا يسوع المسيح: الحبر (الكاهن) والنبي والملِك. أن نعملَ على أن نُعيد الألفة ما بين الله والعالم، ونعمل على جعل العالم فردوساً.
الأحد الأول من تقديس البيعة
المحبّة تُقدِسُ الكنيسة (1 قور 12: 28- 13: 13)
في الأحد الأول من أسابيع تقديس البيعة تدعونا أمنا الكنيسة لنتأمل في كلمة الله التي اختارتها لنا فنقرأ في رسالة بولس إلى كنيسة قورنثية المُضطربة بخلافاتٍ داخلية بين أعضائها أن المحبة تعوزهم كثيراً. خلافاتٌ جاءت نتيجة تفكير خاطيءٍ حول المواهب التي أنعمَ بها الله على الأعضاء فراحوا يتنافسون فيما بينهم حسداً وبُغضا فكان الشقاق والتحزبُ، وهذه علامة واضحة على أنها جماعة خالية من المحبة، لأن المحبة تبني الكنيسة ولا تًفرِقها، وأولى مفاعيل الروح القُدس هو وحدةُ مَن يُحِب. ولم تكن المحبة في المسيحية يوماً تعليماً بل كانت وصيةً وأمراً من ربنا يسوع: "بهذا أوصيكم أن يُحِبَ بعضكم بعضاً كما أنا أحببتُكم" (يو 15: 12).
دبّر الله الآب بمحبته الكنيسة من خلال المواهب التي أنعمَ بها على أعضائها، فالموهبة ليست لشخصي أنا مثلما يعتقد البعض ليمضي متفاخراً بها، بل هي لخدمة الكنيسة، لبُنيان جسد المسيح، مثلما أن كل تكليفٍ أو أختيار ليس للإفتخار بل للرسالة، ولرسالة مسؤولةٍ. إلهنا، ولأنه أبٌ محُبٌ وهبَ للبعض أن يكونوا رُسلاً، وللآخرين أنبياء وغيرهم معلمون، فالمواهب على إختلافها هي من أجل بُنيان الكنيسة، ولكن الأهم، أن تكون كلّها متجذرة في الله، المحبة، لتكون نعمةً على الآخرين. فالكنيسة تتقدس بمحبة أعضائها لا بمعارفهم وأعمالهم ومنجزاتهم. هذا ما نتعلمهُ في الأحد الأول من تقديس الكنيسة.
دعا ربّنا يسوع المسيح الرسول بُطرس ليكونَ صخرةً يبني عليها كنيستهُ، وهذا ممكن إذا كان مؤمنا (أميناً) في تباعته ِلمعلمه الذي سيُعاني العذاب والموت محبة لله وللإنسان. فلا يُمكن الفصل بينهما، رئاسة بُطرس للكنيسة تتطلّب منه بالضرورة إيماناً مُخلصاً لربنا يسوع ومحبةٌ قُصوى له، هذه هي أفكارٌ الله، بل تدبيرهُ. محبة تطلب من الإنسان أن يعطي كل ما لديه، حتّى القليل الذي يعتقد أنه كفافهُ للحياة، تماماً مثل أرملة صرفةً التي طلبَ منها إليها النبي أن تخبُزَ له الطحين القليل الذي كان سيُديم عليها الحياة أياماً، لتتفاجأ بما سيكفي لها لسنواتِ (1 مل 17: 7- 16). إلهنا يطلُب منّا أن نُعطي القليل الذي لنا، ليُباركنا بالمزيد منه نعمةً، شرطَ أن نُعطيه بمحبةٍ.
ولكن ما هي طبيعة هذه المحبة وكيف لها أن تبني؟
يُجيب مار بولس قائلا: "الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا وَلاَ تَحْتَدُّ وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (1 قور 13: 4-7). هذه المحبة هي محبة أعمال لا تعاليم. محبةٌ تسعى لخير الآخرين ومنفعتهم، لذلك لا تدينهم ولا تحكُم عليهم، أو تحطَّ من كرامتهم، فمثل هذه الدينونة مرفوضة: "لا تدينوا لا لئلا تُدانوا" (متى 7:1)، بل أن ربّنا يسوع يُشبه فعل الدينونة بالخشبة التي هي أعظم من خطيئة القريب (القذى). ففي اللحظة التي نتوقف فيها عن دينونة الآخرين، في تلكَ اللحظة يسري الروح القُدس فينا ويُنعِش حياتنا فنرى أنفسنا مسؤولون عن بناء الكنيسة وتقديسها، لا من خلال التفاخُر بما لنا من مواهب وإذلال الآخرين، بل من خلال الإلتزام بما أُعطينا من مسؤولياتٍ والعمل على أن تكون في خدمة كل مَن يضعهُ الله في طريق حياتنا. ويُعلّمنا مار بولس اليوم، أننا مسؤولون عن بناء الكنيسة، فكل واحدٍ منّا مسؤولٌ عن ما كلّفهُ الله به، ويُمكن له أن يعرِف مسؤوليتهُ إن أحبَّ مَن هم من حولهِ. فيُعاملهم بلطفٍ ويحترِمهم ويُبارِك بمواهيهم ويشكرُ الله ويشكرهم على حرصهم، ويُفكِر في خيرهم الروحي والزمني ويفرَح لفرحهِم. كلّها مواقف عملية وليست تعاليم نظرية.
فالكنيسة جماعة المحبة وتتقدس بمحبة أعضائها، وبسبب كونها جماعة محبّة إنتشرت في القرون الأولى. لقد عبّر المسيحيون الأوائل عن محبتهم من خلال مُشاركة الآخرين بكا يملكون، فلا يكون بينهم محتاج: "وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعاً وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ" (أع 2: 44- 45). لم يكن القصد أن يُصبحوا كلّهم فقراء، بل أن لا يكون بينهم محتاج. فكانوا يتقاسمون كل شيءٍ فيما بينهم. يُعطعون القليل الذي عندهم بمحبةٍ.
فإذا أردنا أن نُساهِم في بناء جسد المسيح وتقديسهِ، علينا أن نُحب الله ونشكره دوماً على أنه أختارَ مركبنا، مثلما اختارَ مركب بطرس الذي أعلنَ أنه رجل خاطئٌ لا يستحقُ (لو 5: 8)، ليجعل منه صخرة للكنيسة.
الأحد الثاني من موسى
لا تخف في حضرة يسوع (لوقا 8: 40- 56)
لقدّم قُدِمَت لنا هاتان القصّتان معاً، ولم نسأل أنفسنا: لماذا لم يفصل الإنجيلي القصتين فيُنهي واحدة ويبدأ بالآخرى؟ ما علاقة قصّة الصبيّة بقصّة المرأة المنزوفة؟ فرئيس المجمع يقفُ اليومَ حزيناً لأنه يرى إبنته تتصارع مع الموت الذي جاء ليخطِفَ حياتها، وهو عاجزٌ عن فعلِ شيءٍ أمام هذه المٌصيبة، والمرأة المنزوفة تتصارع مع المرض الذي أتعبها وأبعدها عن الحياة، وجعلها عاجزة عن مواصلة الحياة. يحضر ربّنا يسوع ليهبَّ السلام للصبية وللمرأة، من خلالِ إيمانها. "لا تخف آمن فقط" هذه هي بُشرى ربّنا اليوم ليوؤارش ولنا. فكثيرة هي المواقفُ التي تُخيفنا وتحاول قتلَ بذرةِ الإيمانِ فينا، وثقيلة هي الهموم التي تُحيطُ بنا فتجعلنا أسرى الخوف والحزنِ. أما يوؤارش والمرأة المنزوفة فإيمانهما الثابت أخرجهما من حُزنهما ويأسهما، ليبحثا عن يسوع ويلتقيانه ولو للحظاتٍ، وحتى لو لمسوا طرفَ رداءه.
إيمانهما جعلهما متواضعينَ في تقدّمهما إلى يسوع، عارفين أن معه وفرّة الحياة، الحياة التي بدأت تتوقّف، وأشرفت على الموت. فصبيّة بعمر الإثني عشرة سنة، كلُّ الحياة أمامها، وكان على أهلها تحضيرها للزواج في تلك الآيام، وإذا بالمرض والموت يُفاجأها، فليس أمام والدها إلا يسوع ليُيعد لها الحياة. ما يُلفت إنتباهنا هو رعاية الأب لأبنته والتي تجعله يطرق كل الأبواب من أجل حياة أفضل لها. هو يُذكرنا جميعاً بمسؤوليتنا أيضاً، آباء وأمهات، على ضرورة التفكير جدّياً بكل من شأنه إنعاش حياتهم بالطُرق الصحيحة. إهتمامنا يجب أن يكون على كل الأصعدة، فليس بالخبز وحده حيا الإنسان، وليس بالمال ينتعش الأبناء، بل بمتابعتهم ورعايتهم.
بدء العام الدراسي الجديد فهل فكّرنا أن نُرافقَ أبناءنا ونسأل عن مواظبتهم ومرافقتهم لتكون هذه السنة مُثمرة؟ أم أن تفكيرنا ينصبُ فقط على الحاجيات المادية؟ يحتاج أباؤنا إلى محبّتنا لا إلى أموالنا؟ فلا ننسى أننا مُطالبون مثل يوؤارش إلى أن نطلب من ربّنا يسوع أن يدخل بيتنا ويُباركَ أبناءنا، فحضوره في بيوتنا بركة عظيمة للبيتّ. وتأتي المرأة المنزوفة لتحكي قصّتها. فلقد عاشت بالخفيةِ طوال 12 سنة، وعندما أرادت المجيء إلى ربّنا يسوع، جاءت بالخفيةِ أيضاً، فلا إسمَ لها، ولا نعرِف عن حياتها إلا ما ذُكرَ عن سنواتِ مرضها الطويلة. هي تشعر بأنها لا تستحق أن تُوقِفَ ربّنا يسوع عن مواصلة طريقهِ نحو بيت يوؤاش، وهي تعرف أيضاً أنها غير مؤهلةٍ لأن تختلطَ بالجموعِ كونها مريضة، ولكنّها تؤمن أن لمسَ طرفَ رداءه كافٍ لها لتُشفى. لكنَّ ربّنا أرادَ ربّنا أن يمنحَ لها التحرر الكامل، فجعلها تحكي قصّتها للجمعِ لتعودَ إليهم مُعافاة مُحّرّرة. هكذا كان لقاءها مع يسوع لقاءً شفاء تامٍ. الآن صارَ لها فرصةُ العودة إلى الجماعة كلّها لتكونَ بينهم بعدما كانت مرفوضةً منهم بسبب مرضها. لقد نالت الشفاء والتطهير الكامل. بالطبع لنا أن نتسأل، مثلما تسأل بطرس: "يا مُعلّم، الناس كلّهم يُزاحمونكَ ويُضايقونَكَ وتقول مَن لمسني؟" فما معنى سؤال ربّنا: مَن لمسني؟ ربّنا يعرف أن يُميّز ما بين أُناس تتواجد حول يسوع ولكن من دون أن يكون لها لقاءٌ شخصيٌ مع يسوع، وبين أُناسٍ تُؤمنُ به، وتقتربُ منه تريدُ لقاءه.
كُلنا حاضرون حولَ ربّنا الآن، ولكن كم واحدٍ منّا يختبر حضورَ يسوع الشافي في حياته؟ كم من سنواتٍ أنفقنا جميعاً في طُرقٍ نعتقد أنها شافية ومبعثُ راحةٍ؟ كم من جهدٍ خسرناه في مواقفَ أهلكتنا في إعتقادنا أننا فيها آمنون؟ طُرقٌ وجهود بعيدة عن يسوع، وبالتالي يبقَ الحال كما هو عليه: إنسان مُتعبٌ منهوكُ القوى. وحده التقرّبَ من ربّنا يسوع يشفي هذا الأنينَ والبحثَ عن الشفاء التام. فليسَ المهم أن نتواجد حول يسوع، وحتى لو نُزاحمهُُ، بل المهم أن نقتربَ منه شخصياً، ونسمح له بأن يمُسّكََ بنا شخصياً. إلهنا وملكنا حاضرٌ دوماً للقاءنا، ولكننا نحن الذين ننشغلُ عنه.
التواجد حول يسوع لن يُغيّر فينا شيئاً، فالنزيفُ باقٍ، والتيهُ ما بين نعتقد أنهم أطبّاء سيُتعِبُنا، وعجزنا وفشلنا ليس إلا فرصة للقاء ربّنا الذي ينتظرنا. وحده ربّنا يسوع، يستطيع أن يُوقِفَ فينا هذا النزيف، وحده ربّنا يسوع قادرٌ على أن يبعثَ السلامَ فينا، ويُعيد البسمة غلى قلوبنا. فلنتشجّع، ولا نخف من التقرّبِ إليه. يكفينا أن نكونَ خلفهُ، يكفينا أن نلمُسَ طرفَ رداءه.
الأحد الأول من موسى
الغفران محبّة تامّة (2 قور 1: 22- 2: 17)
يُحدثنا بولس اليوم عن خبرة الغفران التي عاشها مع كنيسة قورنثس، الجماعة القريبة إليه، والتي سببت له ألماً كبيراً عندما أنقسمت الجماعة وتحزبتّ وتصارعت. كتبَ بولس لهم ثلاث رسائل فقدت واحدة وما زلت الكنيسة تقرأ إثنتين وتتأمل فيهما. فلقد وصل إلى مسامع بولس أن إنشقاقا كبيراً حصلَ في هذه الجماعة، وهناك شخصٌ كان وراء هذا الشقاق، ولكنه عادَ وندِم وتابَ، فغفرَ له بولس مرّة وطلبَ من الجماعة أن تقبلهُ وتغفر له بل لتشملهُ بالمحبة، لأن رفضهُ في الكنيسة يعني أن الشيطان سيأخذه إليه وتكون العاقبةَ مؤلمة أكثر، لأن الشيطان مُخادِع وسيُنادي دوماً بضرورة تحقيق العدالة وإنزال العقوبة بالمُخطئ، ولكنه في سيعمل على تبديد الجماعة بإسم العدالة، فمَن منّا لا يُخطئ؟ وإن أخطأ الجميع وتم معاقبتهم ومقاطعتهم، فمَن سيبقَ في الكنيسة؟
لم يرغب بولس في أن تتجمّد الكنيسة بسبب إساءة شخص (أو مجموعة أشخاص)، وتفقد موهبة الروح، بل، أرادَ أن يتحرروا من هذه الخطيئة، ويغفروا ليواصلوا المسيرة تحت إرشاد ِالروح الذين ختموا به: "الَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي الْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ اللهُ. الَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا" (2 قور 1: 21- 22)، ومَن مسَحهم الروح بختمهِ عليهم أن يُظهروا ثمارَ الروح، وثمار الروح هي: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ. وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ" (غلا 5: 22- 23).
علّم بولس أن المحبة هي جواب لتساؤولات الناس عن المسيحية: لماذا تجسّد الله؟ لأنه يُحبنا؟ لماذا تألمَ؟ لأنه يُحبنا؟ لماذا أرسل روحهُ القُدوس إلينا؟ لأنه يُحبنا؟ لماذا يدعونا إلى أن نؤمِن به ونكون أبنائهُ؟ لأنه يُحبنا. لذا، يأتي السؤال له: لماذا علينا أن نغفر لمَن أساء إلينا وإلى الكنيسة؟ لأن الله أحبنا وغفرَ لنا إساءتنا الموجهة إليه. هو لا يُحب أفعالنا السيئة ولكنه يُحبنُا. هذه المحبّة هي محبة أبوين يُعاقبان، وبدافع المحبّة، أولادهما على أخطاء يرتكبونها، ولكن العقاب لا يُقللِ من محبتهم لهم. هم يحوّطون أخطاء أولادهما بالمحبّة لا بالكراهية أو العقاب، فتكون المحبة البلسم الشافي لجروحاتٍ مؤلِمة. وهي دعوة لنا أن نُغلِبَ المحبة دوماً، فعدم الغفران يعني أن نسمحَ للشيطان بأن يواصِل ألعيبهُ وخُبثهُ، ويجعلنا ندور كلّنا في حلقة العنف والشر.
لذا، يُوصي بولس الكنيسة بأن تكون كنيسة المسيح، كنيسة المحبّة، كنيسة الغفران التي تتوقّف عند خطايا أعضائها ولا تنكرُها، بل تدعوهم إلى أن يتطهروا منها، ويواصلوا المسيرة بالغفران المُحِب الذي يختبرونه فيما بينهم. ولكي يكون الغفران حقيقياً علينا أن نتذكّر حقيقتان أساسيتان بالنسبة لنا: وهي أننا بحاجة إلى غفران الله الدائم لنا، وإلى أن تأتي ندامتنا وتوبتنا بثمارٍ تليقُ بها. فلا يكفي أن أتأسف وأعتذر ما لم يكن هناك تغييرٌ حقيقي في سلوكياتي وتصرفاتي. وهذا ما حصل في كنيسة قورنثس، وعليه طالبَ بولس الجماعة بضرورة الغفران. الغفران المفعمٌ بالمحبة (الرحمة)، فلا غفران من دون محبّة. غفران فيه عدالة إذ نُحاسُبُ المُخطأ على خطاياهُ، وهو مفعمٌ بالمحبة إذ نتجاوز له خطاياهُ التي ندِمَ وتاب عنها، فلا نسمح للكراهية أن تدخل قلوبنا، فنحبُس الناس في خطاياهم، تماما مثلما يُعامِلنا الله الآب. فلا مجال للكراهية والإنتقام أو الثأر الشخصي، فهذا من حقوق الله: "لي الإنتقام" (تث 32: 35)، ويقول أيضاً: "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، وأحبب قريبك حبك لنفسك" (أح 18:19).
نقرأ في أولى صفحات الكتاب المُقدس كيف أن الله دانَ قايين لمقتل أخيه هابيل، ولكنه وضعَ عقاباً مُضاعفاً لكل مَن يقتل قايين: "فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ اضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلامَةً لِكَيْ لا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ" (تك 4: 15). فيكون الغفران تمامُ المحبة. كيف؟
الخاطئ يعرِف أنه وبسلوكهِ المُخطيء سببَ ألماً وجرحاً سيبقى أثره في حياة الناس، ومع أنه قدّم فعل ندامةِ حقيقي من خلال توبةٍ صادقة، إلا أنه يبقى ينتظر غفران الآخر، الضحية، ليعود إلى الحياة مُعافىّ. فيكون الغفران نعمةً ومحبة، بل تمامُ المحبّة وفعل إحسانٍ بإمتيازٍ. ولأننا دُعينا لأن نكون أبناء الله، فعلينا أن نتشبهَ به، هو الذي يغفر لنا يومياً زلاتنا، فنغفرَ للآخرين زلاتهم، ونتحرر من قبضة الغضب التي تأسرُنا وتقتل كل ما هو صالحٌ وخيرٌ فينا. إلهنا يعرِف ما في قلوبنا من أفكار ورغبات وأمنيات وتطلعات، ويعرِف أننا نُخطئ في قلوبنا أكثر مما في سلوكنا، فإذا كان يُسامحنا يومياً عن هذه كلّها، فمَن نحن لكي لا نمنح الغفران لمَن تندَمَ بصدقٍ عن خطاياهُ؟
الأحد الرابع من الصليب
المحبة تبني الكنيسة (1 قور 14: 1- 25)
اختبرت الجماعة المسيحية الأولى في مدينة كورنثس الكثير من المشاكل والأزمات والتي سببت إنقساماً وصراعاً بين أعضائها سبب ألماً كبيراً لبولس نظراً للمحبّة التي كان يكنّها لهم. كان بولس بمثابة الأم التي ولدتهم في الإيمان، ولأنه الأم كان مثل الطبيب الذي شخصَّ المرض الذي أصابهم وهو: غيابُ المحبّة بينهم. هذه الكنيسة، كنيسة قورنثس، لا ينقصها ما تحتاجهُ من مواهب، فالروح القُدس أنعمَ عليهم بالكثير منها، حتّى برجال ونساء مستعدين لأن يُحرقوا أجسادهم من أجل الآخرين، ولكنَ يعوزهم: المحبة، فمن دون المحبّة لا يُمكنهم بناء الجماعة أبداً. فالمحبة تُخرِج كل ما هو صالحٌ في الإنسان من لطفٍ ومودةٍ ورحمة وسلامٍ وغفران، وهي خبرة مُعدية إذ تحفّز الآخرين ليكونوا مُحبين. فقوّة الكنيسة ليست بكثرة أعضائها، بل بالمحبة التي تربطُهم، وهذه المحبة ستكون سبباً في زيادة عدد أعضائها لاحقاً.
أكدَّ بولس لكنيسة كورنثس أن محبّة الله الأبوية لا يُمكنها أن تترك الجماعة من دون عونٍ وسندٍ لذا وهبَ لها ديمومة الحياة من خلال الهبات التي يُنعِم بها على أعضائها، شرطَ أن يعي هؤلاء أن ما وُهِبَ لهم هو لأجل خير الجماعة، لا من أجلهم. المسيحي مدعو على مثالِ الربِّ يسوع أن يُقدِسَ حياتهُ لأجلِّ الآخرين. المحبة هي ما يُقوي الكنيسة، ومتى فُقدِتَ كان لزماً على بولس، على النبي، أن يتحسس لهذا الخطر، ويُعلِن جهاراً ومن دون محاباةً: أين هو الداء وما هو الدواء؟ ما الذي تُعاني منه الجماعة؟ ما الذي ينقصها؟ لذا، يقول بولس، ليس المهم أن تُعلِم وتُنشِد وتُرشِد، الأهم أن تتنبأ، أي أن يكون لك الُقدرة لترى أثارَ الخطيئة وتفضحها، لا أن تفضح الخاطئ.
هذا ممكن لمَن هو غيور على أعمال الله وتدبيرهِ، فالنبي ليس مُلكَ نفسه، بل هو مُلكُ الله كلياً، ووضعَ حياتهُ ليستخدمهُ الله مثلما يشاء، لذا، فهو، أي النبي، مُستعد ليعمَل كل شيءٍ من أجل الله. وعندما يُرسلهُ الله ليفضحَ واقع الخطيئة الي في الشعب (الكنيسة) يرى بكل تواضع حقيقة حياتهِ هو فيتعرِض أمام الله: لستُ أهلاً، فأنا أول الخاطئين. روح النبؤة الذي يحلُّ عليه يجعله يرى حياتهُ هو لا نقائص الآخرين. إنتقاده يتوجّه أولاً نحو ذاتهِ هو: مَن أنا أمام الله؟ الخاطئ الأعظم. لذا، نجد أن أنبياء الله يترددون كثيراً قبل بدءِ الإرسالية ولسان حالهم يقول: يا ربُّ، أنت تُرسل مَن ليس أهلاً لهذه المسؤولية، فأنا المُحتاج إلى جمرةٍ تُطهِر شفتاي قبل أن أنطقَ بكلمةٍ، وقوة تسند ضعفي وصغري.
عندما نسمعَ كلمات بولس اليوم ونقرأها في ضوء نورِ إنجيل ربّنا يسوع، نجد أنها كلمة موجهةٌ لنا. فنحن مراراً ما نرفع الصلاة إلى الله ليُقوي الكنيسة ويجعلها تنتشِر وتملءِ الأرض كلّها. نتفاخر بما لدينا من إمكانيات ومواهب ومؤهلات. نتميّز عن باقي الشعوب بتاريخ شهدّ لخبراتٍ إنسانية متنوعة. ولكننا لا نمتلكُ أنبياء يقولون لنا: أن ما يعوزنا هو المحبة أيضاً، لأن الحسد والغيرة يضرب أُسس كنائسنا ويُدخلِنا في صراعاتٍ ومتاهاتٍ تُبعدنا عن هويتنا الحقيقية وعن رسالتنا في العالم: أن نُبشِر بإنجيل الله: ربنا يسوع المسيح. ليس فينا أنبياء ينتقدون الخطيئة ويفضحونها والتي هي: عوز المحبة. فالمحبة تُطالبُنا بأن نهتمَّ بخير واحدنا الآخر، وعندما نلحظُ ما يُسيءُ إلى البشارة علينا أن نتعامل مع الحدث بمحبة أخوية. يُمكن لنا أن ننتقد، ولكن هذا لا يعني فقدان الإيمان بالله، فأشعيا وأرميا وحزقيال بشروا بخلاص الله الذي يُنقِذ الإنسان من واقعه الخاطيء، ويفتح باب الخلاص لهم. نحن عادة ننتقد لأجل الإنتقاد فقط، وننتقد يائسيين (من دون رجاء) وكأن الله غير موجود. بل صرنا ننتقد كل شيءٍ، ولا نلحظُ أعمال الله وتدابيره العجيبة بيننا ولنا. يروي لنا آباؤونا الروحيون عن رعية أتعبتَ المطران كثيراً إذ لم يتمكّن كاهن من خدمتها لسنةٍ كاملة بسبب عدم تعاون الرعية معهم وحُبهم للإنتقاد. أخيرا حظي المطران بكاهن روحاني ورعوي بإمتياز وكلّفه ليخدم الرعية وقبِل المهمةَ بفرحٍ. بدء عمله بزيارة عوائل الرعية من أجل الإصغاء إليهم. قرر يوماً أن يأخذهم في مخيم روحي وثقافي إلى جزيرة قريبةٍ، فهمَّ بتهيئة وتحضير كل شيءٍ بنفسه.
عندما وصلوا إلى الجزيرة إكتشفوا أنهم تركوا أحدهم على الضفة الأخرى، فقرر العودة بنفسه ليُحضرهُ، فعاد ماشياً على الماء أمام أنظار الجميع: فعلّق بعضهم مع بعضٍ قائلين: هذه هي رعاية المطران ومحبته لنا أرسلَ كاهن لا يعرف السباحة!
النبي الحقيقي يرى الحياة بعيون الله، فلا يتكبّر ولا يتعالى على الآخرين، بل ينتقِد ويفضح الخطايا، ولا يعتبرها خطايا الآخرين، بل، ولأنه يُحُبُ شعبهُ ويعبدُ الله بأمانةٍ، بل يراها مسؤوليتهُ الشخصية: أنا المسؤول عنها، مؤكداً لهم أن حُبَّ الله هو النعمة التي ستُخلِص الكنيسة من الخطيئة. لذا، يتجرأ حزقيال لا يُحبك الله لأنك تغيرت وتبتَ إليه، بل يُحبك لكي تتغيّر، حب الله يدعوك للتوبة. من أجل هذا يقول بولس اليوم: نحن بحاجة إلى أنبياء.
الأحد الثالث من الصليب
كيف لنا أن نعيش الفرح (فل 4: 4- 23)
كتبَ بولس الرسول رسالتهُ إلى كنيسة فيلبي من سجنه طالباً منهم أن: "يفرحوا في الربِّ كل حين"، مع علمهِ بأنه سيواجهُ حُكماً قاسياً. فلا يُمكن أن يكونوا "جسد يسوع" وهم حزانى ومنقسمون، فالحزن والإنقسام برهانٌ على بُعد المسيح عن يسوع. هو يعرِف أننا بشرٌ نختلِف بعضنا عن بعضٍ، ويحدث في الجماعة الواحدة خلافاتٌ ونزاعاتٌ وصراعاتٌ تجعلنا ننقسِم إلى فرقٍ وأحزاب، وهذا عائقٌ كبير أمام أن نعيش "الفرحَ بالربِّ". هنا، يؤكد بولس على قاعدة حياتية لن تتغيّر، وأكدها في بدءِ رسالتهِ: " فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً" (2: 5). يعني: المسألة ببساطة هي: مَن له فكرُ المسيح عليه أن يُفكِر أفكاره.
هذا ممكن لمَن إلتقاهُ ربّنا يسوع مثل بولس، وهو يحثُ المؤمنين لأن يتركوا المجال لربّنا يسوع لكي يلتقيهم أيضاً. فهذا اللقاء كفيلٌ بأن يُغيّر حياة الإنسان مثلما غيّر حياة بولس، فتخلّى بولس عن أفكاره وتصوراته وإستسلمَ للمسيح يسوع، فصارَ يُفكِر أفكار ربّنا يسوع، ووجدَ "الفرحةَ بالربّ". المسيحية لم تكن يوماً تطبيق تعاليم أخلاقية سامية، قبلَ المسيح كان هناك فلاسفة ومعلمونَ كُثر أغنوا الإنسانية بالحكِمِ والأمثال ولكن الناس لم تعبدهم. المسيحية لقاء مع ربّنا يسوع منحَ لهم حياةً جديدة. خلاص ربنا يسوع ليس أن تكون سلوكياتنُا الخارجية متوافقة مع التعاليم الأخلاقية السامية، وإلا كان علينا أن نؤمِن بمعلمي الأخلاق الذين سبقوا ربّنا يسوع، وما اختلفَ غير المؤمنين الصالحين عنّا. خلاص ربنا يسوع هو قبولنا دعوة الله لنا في أن نكون أبنائهِ: "أما الذين قبلوه وهم الذين يؤمنون باسمه فقد مكنهم أن يصيروا أبناء الله" (يو 1: 12). إلهنا يُريدنا أبناء احباء له.
هذا اللقاء بربنا يسوع خلّص كل مَن إلتقاهُ من إهتمامهِ بنفسه وسعادتهِ وراحتهِ وحوّل الفكرَ والقلبَ والذهنَ والأفكار نحو يسوع، نحو الله. ليس المُهم أن تكون أنت فرحان، المهم أن يفرَح بك ربّنا يسوع المسيح: "تعالوا يا مُباركي أبي رثوا الملُكَ المُعد لكم منذ إنشاء العالم". الفرح يكون عندما ننسى ذواتنا وننظر إلى الآخر ونجد أن لنا الكثير لنُعطيه له، والحزنُ يكون عندما ننظر إلى أنفسنا ونجد كم ينقصنا من أشياء وممتلكات فائضة، فنبكي حالنا. لذا، يدعونا بولس قائلاً: إفرحوا بالربَّ، والفرح يكون بالمحبة، بالإصغاء إلى حاجات الآخرين، وسنختبر أعجوبة المحبة التي يصنعها الله فينا ومن خلالنا. أذكركم بكل مرّة أعطيتُم بها بسخاءٍ إلى محتاجٍ أو فقير، تذكروا شعور الفرح الذي إنتعشَ فيكم، هذا قبسٌ من محبة الله.
سببُ هذا الفرح إذن: هو ما صنعهُ الله لنا بيسوع المسيح ويواصِل عملهُ من خلال مُختاريه وقديسيه في الكنيسة. ميزة هذا الفرح هو أنه مُؤسسٌ في ربّنا يسوع المسيح، وعلينا أن نتقاسمهُ مع كل مَن يهبهم الله لنا في الكنيسة. لقد وجَدَ بولس فرحُ القلب من خلال لقاء ربّنا يسوع به، وغيّر حياتهُ كلّها. هذا الفرح ليس "عطيةً" لشخصٍ يحتفظُ به لنفسه، بل عليه أن يتقاسمها مع الجماعة، لذا، يقول: "أَخِيراً أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ - إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هَذِهِ افْتَكِرُوا" (4: 8). هذا ما ميّز حياة قديسي الكنيسة، فتحوا قلوبهم لنعمة الله، وآمنوا بهذه المحبة، ولم يحتفظوا بها لأنفسهم، بل خرجوا ليتقاسموها مع الآخرين.
لذا، عندما يُؤكِد بولس من سجنهِ على ضرورة أن يكون الفرحُ بالربِّ علامةً فارقة في حياة كل مسيحي، فهو إنما يُؤكد على أن هذا "الفرح" هو علامةٌ لصدِق الإيمان، ثمرةُ اللقاء بيسوع المسيح. هناك أناس متدينون ولكنهم خائفون ومرعوبون من غضبِ الله الذي يعبدونهُ، المسيحي ليس كذلك، بل هو مؤمنٌ فرحانٌ مع الذي يعبدوهُ، ويخاف من أن يخسرهُ. وأكثرُ من ذلك إن الفرح الأصيل فضيلة مُعدية لا يُمكن إلا أن تُصيبَ الآخرين. مسيحيتنا مسيحية فرحٍ، لذا، فكل مسيحي هو بشرى الفرح، ورسول وشاهد لفرحة القيامة. الفرح هو ما يُوصينا به يسوع: لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون … (يو 14: 28). محبّة يسوع تُنتج فرحاً في حياةِ المؤمن شرطَ أن يتخلّى هو عن أفكارهِ ليكونَ له فكرُ المسيح يسوع، ويكون مواقف يسوع، هو الذي عاشَ إنسانيتنا إلى الملء وفتح لنا الطريق لنعيشَ مثلهُ.
مراراً لا نعيش مسيحيتنا لأننا نُقدم للناس وجوهاً كئيبة وحزينة وبائسة، فلا تجذبهم إلى ربنا يسوع، وتمنعهم من لقاء الله. نبقى في حزننا وفي أنانيتنا وفي مصائبنا ونمنع الله من أن يُحررنا من هذا الحزن والكآبة. لقد حوّلنا بشارة يسوع إلى الآلام وأحزان وكآبة وخوف. جعلناها كشبهنا وصورتنا: حزن وضيق وأنانية وكآبة. ومسيحتنا تُعلمنا أن الله ليس مثلنا، إنه صالح. إنه الخير. إنه المُحب. إنه القيامة التي تغلب الموت لتكون حياة للأبد.
الأحد الثاني من الصليب
أفرحوا في الرب (فل 3: 1- 14)
"أفرحوا في الربّ"، هذه كانت دعوة الرسول بُولس لكنيسة فيلبي، وهي دعوة موجهةٌ لنا أيضا فلا يُمكن أن يكون المسيحي إنساناً حزيناً أو يائساً. بالطبع، لا يتحدّث بولس عن سعادة مؤقتة كتلك التي نشعر بها عندما نُحقق واحدة من رغباتنا، بل يُبشرنا بـ"فرحِ القلب"، وهو فرحٌ أبدي صارَ له نعمةً لأن الربَّ إلتقاهُ، فُولِدَ إنساناً جديداً. كان فريسياً وحرِصَ على أن يُكمِل كل الوصايا التي كانت الشريعة تأمر بها، وغيوراً على إيمانهِ فأضطهدَ الكنيسة، وكان يشعر بالسعادة ظناً منه أنه يُرضي الله بذلك، إلا أنها كانت خبراتُ "فرح منقوص"، فهناك الكثير ليعملهُ لينالَ فرحَ الله ورضاهُ. الله، ولأن أبٌ مُحبٌّ دعاهُ بيسوع المسيح الذي خرجَ للقائه وحملهُ على كتفيهِ وجعلَ اللقاء معه عُرساً فعدَّ بولُس كل شيءٍ خسارة من أجل يسوع الذي افتادهُ. لقد أصبح إنساناً فرحاً لا لأنه أكمل الوصايا، بل لأنه شعرَ ومن خلال لقاء الربِّ به أنه محبوب بشكل مميز من قِبلِ الله بيسوع المسيح، نظرَ إليه ربّنا يسوع، ففرِحَ وأظهرَ هذا الفرح لجميع مَن جعلهم الربُّ في طريقه.
نحن إذن كنيسة الفرح لأننا كنيسة تحمل يسوع المسيح إلى العالم والذي أرسلَ الروح القُدس ليكونَ معنا فأثمرَ فينا فرحاً ومحبة وسلاماً ولطفاً وتواضعا وصبراً (غلا 5: 22- 23)، عندما تظهر هذا الفرحَ في حياتنا نشهدُ للناس من أن الروح فاعلٌ فينا ومن خلالنا، والعكس يصحُ أيضاً. الفرح عطيّة ربّنا يسوع المسيح لنا: "ليكون فرحي فيكم وليتمَّ فرحُكم" (يو 15: 11)، فصارَ سمةُ حياة كل مسيحي وبُرهانٌ على حياة الروح فيه إذن. السؤال هو: كيف لنا أن نكون "جماعة (كنيسة) الفرح"؟ كيف لنا أن نكون "كنيسة الفرح" ونحن نحمل صليب الإضطهاد والتهجير والقلق من المُستقبل الغامض؟
فرح الرسول بولس مُؤسس على لقاء الرب يسوع به، والذي إنتشلهُ على طريق دمشق وجعلَ منه رسول محبّة الآب. لقد عادَ بولس وإسترجعَ ماضيهِ كلّه، لا إنجازاتهِ بل تذكّر مراحمَ الربِّ معهُ والتي كانت معه حتّى في الساعات التي كانت متوهماً فيها أنه يُرضي الله. هو يدعونا لنسترجِع ماضينا ونتذكر بإمتنان تدبير الله المُحِب لنا وبشكل شخصي. هنا، علينا أن نكون صريحين مع أنفسنا، فمراحمهُ غزيزةٌ معنا، ونحن مراراً ما ننساها لأننا نعيش في أحزاننا وهمومنا، شكوكنا وحيرتنا، والحال، الربٌّ عظيمٌ فيما وهبَ لنا. ربّنا إلتقانا على نحوٍ شخصي مميزٍ، ويدعونا لأن نبني على هذا اللقاء. هي خبرة شخصية علينا أن نتوقف عندها بامتنانٍ، كلٌّ بشكلٍ شخصي وهبَ له الله أن يتعرّف إليه.
لذا، قال بولس اليوم: حسبتُ كلَّ شيءٍ خسارة، هباء من أجل معرفة ربي يسوع الذي أريد أن أعرفهُ هو فقط دون غيرهِ. نحن مهوسون بمعرفة ذواتنا: ما نُريدهُ! ما نرغبهُ! ما نتمنّاه! ما نشعر به! ما يُحزننا! ما يُفرِحنا! بولس يدعونا اليوم قائلاً: لا تكن مهتماً بنفسِك فحسب، أترك كل هذا وأعرف المسيح يسوع، فهذه هي المعرفة التي تُخلصكَ وتفديك وتخلقُك من جديد. ربنا لم يلتقينا ليجعلَ منّا "أناساً صالحين"، بل من أجل أن نولَد إنساناً جديداً. تعرف إذن على يسوع. على أفكاره، رغباته ومشاعره هذه هي المعرفة الأهم. ربّنا قال: في تلك الأيام سيقولون لي: نعرِفُك يا ربّ، أما هو فسيقول لهم: أنا لا أعرفكم. هذه المعرفة تجعل يسوع في المركز لا أنفسنا أو الآخرين، فليس المهم أن أعرِف يسوع، المهم أن يعرفني هو. هذه المعرفة تُخلصنا من ذواتنا وتُخرجنا إلى لقاءِ الآخرين ومحبتهم بذات المحبة التي أحبنا بها ربّنا يسوع، والتي أثمرت فينا فرحاً لا يوصَف.
الدعوة إلى الفرح كانت أولى كلمات بشارة الملاك لأمنا مريم: "أفرحي يا ممتلئة نعمة". هذه الدعوة لم تجعل مريم أمنا تجلس ساكنةً تستمتِع بما وهبَ الله لها من نعمةٍ، بل خرجت تبحث عن إليصابات لتهبَ لها فرحُ كلمة الله. فرحنا ليس سكوناً، بل رسالة وإرسالية. تُعلمنا أمنا مريم، أم الكنيسة، كيف لنا أن نكونَ جماعةُ الفرح، من خلال خدمةُ المحبة التي تسيرُ من أجلها الطُرقات لتبحث عن الآخر المُحتاج وتتقاسم معه خبرة فرح حضرور الكلمة فيها، ولتسمعَ وتُسمِعَ كلمة فرحٍ وتعزيةٍ وتُعطي بمجانية. نحن نُعطي، ولكننا نُعطي لنأخذَ أكثر، لذا، لن نستمتِع بفرحِ الله. نحن نتحدث إلى الناس، ولكننا لا نتحدث إليهم بكلمة الله مثلما فعلَت أمنا مريم. نحن نستسلم لتجربة الإحباط واليأس أمام هول الشر الذي نختبرهُ، أما مريم فتنشد "الرجاء" الذي صارَ حقيقة حياة. نحن نتنافس فيما بيننا، ونتفاخر فيما نُنجِز عوض أن نتكامل معاً ونفتخِر فيما حقق الله فينا. تعودّنا أن نتذمّر من قسوة الأيام ومرارتها، وأمنا مريم راحت تُمجّد عظائم الله معها، والتي ستجعلها تتشرّد وتُهجَر إلى مصر وتعود لتقبلَ إبنها يوماً مصلوباً، ولكنها بقيت أمينة تُصلي مع الكنيسة ولأجل الكنيسة.
الأحد الأول من الصليب
أن تتألموا من أجل المسيح (فل 1: 27- 2: 11)
"سيروا سيرة تليقُ ببشارة المسيح ..." وهذه المسيرة هي مسيرة ألمٍ وصليبٍ بالضرورة. هذا الألم ليس عقاباً من الله بل نعمة منه: "هذا وهِبَ لكم من الله، هذا ما قالهُ بولس لكنيسة فيلبي، وهو تعليمٌ وبشارة للكنيسة جمعاء. فكما أن ربّنا يسوع المسيح حملَ صليبَ الألم مرفوضاً من قبل الناس التي أرادتَ أن تنزعَ عن ألمهِ كل مجدٍ وكرامةٍ، فماتَ على الصليب مرذولاً ومُهاناً، هكذا يُدعى كل مَن يتبعهُ إلى أن يتألمَ من أجله، ليكونَ كل مَن يتبعهُ مسيحاً آخر لمَن هم من حولهِ. تباعةُ ربّنا يسوع ليست إلتزامَ تعاليمهُ فحسب، بل الإلتصاق به، هو المرفوض والمتألِم والمائت على الصليب. قرارُ تباعة ربّنا يسوع هو إختياري: أنت حُر يا إنسان في أن تتبعَ يسوع أو أن ترفضه، ولكن التألم من أجل ربنا يسوع ليس اختيارياً البتّة، فلا يُمكن أن يكون ربّنا يسوع مسيحاً ومُخلصاً، من دون الألم والصليب.
في مثل هذا الطريق لا يُمكن للمسيحي أن يعرِف إلا المسيح وحدهُ، لأنه "أنكرَ نفسهُ"، فلا يهتمَ بما يعرِف هو، ولن يُفكِر بما يظنهُ صحيحاً، بل أن الفكر الأوحد والمُطلَق هو ما يُفكِر به المسيح فقط الذي سلكَ أمام الله والناس في "تواضعٍ وطاعةّ تامّة". لذا، لا مجال أبداً للعمل من أجل مجدٍ شخصي، ولا مكان للمنافق أن يكون في الكنيسة، الجميع يعمَل بتواضعٍ ومحبةٍ من أجل تمجيد إسم المسيح يسوع، ناظرين إليه هو الذي تجسّد ليتمجّد إسمُ الآب وحدهُ. التخلي عن المجد الشخصي، والبحث عن مجد الله هو "الصليبِ" بحد ذاتهِ، فالكنيسة مُجرّبة في كل وقتٍ وزمان لتُّثبّت نفسها كمؤسسة عالمية وتسقط في خطيئة السكونَ والاستقرار، والبحث عن المجد الشخصي، ولكن الروح القُدس يُقودها دوما لتخزح منتصرة على هذه التجربة وتستجيب لحضور الله من أجل أن تكون جماعة تحملُ البشارة، بشارة ربّنا يسوع من أنه غلبَ خطيئة العالم.
نسعى مراراً كمسيحيين لأن نُثبّت لأنفسنا وللآخرين أن أسلوب حياتنا هو الأصح مسيحياً، من دون أن نقبلَ بتواضع ومحبّة أن الله هو أعظمَ من أفكارنا ومن أسلوب حياتنا، وهو قادرٌ على أن يجذبَ إلى نفسهِ كل إنسان حيثما كان، فلا حاجة إلى الدفاع عن يسوع، والذي يُؤدي في أحيان كثيرة إلى خلقِ حالةٍ من الشقاق داخل الكنيسة. تباعتُنا لربنا تدعونا لأن نكون مُستعدين لأن نمنحَ الآخرين الغفران، وهو تنازلٌ عن حقٍّ شخصي، وهو صليبٌ بحدٍ ذاته، كل ذلك من أجل بُنيان جسد المسيح، الكنيسة. فطلب بولس من كنيسة فيلبي، ومنّا اليوم، أن نتوجه بأنظارنا نحو الآخر، وأن نُفكِرَ فيما هو ضروريٌ لخلاصه، لا من مُنطلق: أنا أفهمُ من الآخر وأعرف منه بما هو ضروريٌ لخلاصهِ، بل هو أفضلُ منّي: "فليعد بتواضع الضمير كلٌ واحدٍ منكم قريبهُ أفضلَ منه". ومع التواضيع علينا أن نتعلّم الطاعة على مثال يسوع، لا طاعة إلى قوانين فحسب، بل أن تكون طاعتُنا جواباً لمحبّة الله لنا بيسوع المسيح، وهو ما يُميّز طاعة المسيحي عن غيره.
فلكي تعيش كنيسة فيليبي نشيد التمجيد الذي تُنشده في الإفخارستيا: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ. لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ" (2: 6- 11). على أعضائها جميعاً أن يختاروا فكرَ المسيح وأسلوبَ حياتهِ إلتزاماً مُطلقاً، فمن ثمار حياتهم سيُعرفونَ إن كان المسيح "السيّد والرب"، أم أن "سيداً آخر صار معبوداً لهم". فلا مجال للمُفاخرة، ولا يُمكن إستغلال الكنيسة بحثاً عن مجدٍ شخصي، بل يجب أن يُشارِك كل عضوٍ في بناء الكنيسة، جسد المسيح بتواضعٍ ومحبة صادقةٍ، في إتفاق الفكر والقلب.
نحن مُلزمون دوما بأن نكون "مسيحاً" لمَن نعيش معهم ونتقاسم معهم الحياة بكل تفاصيلها. هذا ليس ثمرة ما "صنعهُ ربّنا يسوع من أجلنا"، وإلا فنحن ملزمون إذن بأن نتبعَ كَل مَن يستشهد لأجل قضية إنسانية شريفة. نحن ملزمون بأن "نعيش حسبما يليقُ ببشارة المسيح" لأننا صرنا "في المسيح"، ولذلك نُشاركه الصليبَ والألم من أجل خلاص العالم. فالصليب إذن ليس ألةَ إعدامٍ، بل إشارة إلى ما صنعهُ الله لأجلنا، ودعوة لمُشاركة المسيح يسوع بشارتهُ، فنُفكَر فيما كان هو يُفكِر، ونُحبُّ الآخرين مثلما هو يُحبهم، ونخدمهم مثلما هو يخدمه. أن نسمح له بأن يخدمهم ويُحبهم من خلالنا. وهو تحدٍ لعالم اليوم الذي يسعى لإبراز "الإنجازات الفردية" على حساب الجماعة (الكنيسة). فالأهم هو المسيح يسوع الذي قدّم نفسه للآب في عطاء مُحب تام. هذا هو قانون الحياة الأخلاقية المسيحية: "أن نعيش حياتنا بمحبّة ِالمسيح يسوع".