المواعظ
 المطران بشار متي وردة

المطران بشار متي وردة

عيد رأس السنة؛ عيد الختانة

السلام بركة من الله (متّى 1: 18- 25)

مع إحتفال الكنيسة اليوم بأول أيام السنة الميلادية، بدءُ زمن الخلاص الذي صارَ لنا بيسوع المسيح، تدعونا أمنا الكنيسة للتأمل في كلمة الله من خلال الإصغاء إلى قصّة الميلاد حسبما رواها لنا متّى الإنجيلي، وفيها نلتقي يُوسف إبنَ داود وهو في حيرةٍ من أمرهِ خائفٌ لا يعرف ما الواجِب عملهُ أما سرّ حبل البتول مريم. هو مثلنا في ختام كل سنة، حيارى في كل فصولها بسب أزماتها ومشاكلها، وخائفونَ من السنة الجديدة وما تحملهُ لنا من مفاجأت فلا نعرِف أين التوجه. صرنا بحاجة إلى صوتٍ من السماء يقول لنا: "لا تخف"، فأنا إلى جانبِك ولن أترككَ؛ أنا إلهُك، عمانوئيل: الله معنا. وهذه هي بشارة الله لنا اليوم؛ أنا معكَ. فتدعونا أمّنا الكنيسة أن نضعَ ختام السنة وبدءَ سنة جديدة تحت رعاية كلمة الله والعملَ مؤمنينَ أن كلَّ شيءٍ هو تحت تدبيرهِ، مثلما صنعَ يوسُف.

نبدأ العام الجديد إذن مع يُوسُف الذي أخرجهُ الله من حيرته ومخاوفهِ لا من خلال التوقف عندها وشرحِ مضمونها وتبريرها، بل أعطاه مهمّة جديدة، وزنةً أخرى ينتظر منه أن يكون أميناً في المتاجرة بها. إلهنا له أسلوبٌ مميّز في التربية لاسيما في التعامل مع حالات القلق والخوف مثل حالة يوسف، فهو لا يتوقّف عند حيرتهم ومخاوفهم ليشرح لهم أسبابها، بل يدعوهم ليكبروا وينضجوا من خلال تكليفهم بمسؤوليات أعظم من ذي قبلُ. لو كُنا في مكان يوسف لأعترضنا مثلما أعترضَ موسى والأنبياء: "لستُ قادراً على ذلِك، فكيفَ لك أن تُكلفني بما هو أعظم". ويأتينا الجواب مثلما قِيلَ لإيشوع بن نون: "كما كُنتُ مع موسى أكون معكَ، لا أُهمِلُكَ ولا أتُركُكَ" (إيشوع بن نون 1: 5). إلهنا لن يُهمِلَ عبده أو ينساهُ فيُباركهُ بما يلزَم لإتمام المهمةِ، ولن يتركهُ في سكونٍ وراحةِ بال، بل يُطالبهُ بالمزيد. وفي ذلك تعليمٌ لنا نحن الذين كثيراً ما نتراخى ونتراجع أمام الصعوبات ونشعر بثقلها وكأننا عاجزون عن مواصلة المسيرة. بعضنا لربّما صلّى البارحة مع نفسه: "ما الذي أنجزتهُ هذا العام حتّى تهبَ لي سنة أخرى يا الله؟ ألاَّ يكفيني ما تحمّلتهُ من صعوباتٍ؟ هوذا الربُّ يمنحنا عاماً جديداً، لنبدأ من جديد مؤمنين أننا بمعونتهِ قادرون على صنعِ المُعجزات. فالله يهبُ النعمة والرسالة معاً، فإذا كانت السنة الماضية سنة فشلٍ وخطيئة، هوذا الله يمنحنا سنة جديدة يُريد فيها لنا النجاح، ويُطالبنا بالقداسة.

في مثل هذه الأجواء يختُم ربّنا معنا سنة ويبدأ معنا سنة ليُؤكِد فيها أنه معنا: "عمانوئيل: الله معنا" بيسوع المسيح الذي يذكر إسمه في قراءة الإنجيل أربعُ مرات ليُبارِك بحضورهِ فصول السنة الأربع. إنها لنعمةٌ كبيرة يمنحها الله لنا إذ يختُم معنا سنة ويبدأ معنا سنة جديدة إسم يسوع: "المُخلَص". يسوع الذي جمعنا اليوم حولَ مذبحهِ، يسوع المسيح الذي به نلنا الخلاص، والخلاصُ هو: "أننا لسنا وحيدونَ في هذا الطريق بل أن الله معنا، فلما الخوف؟ "يسوع" المُخلِص هو معنا، بكرُنا، أي الذي يتقدمنا في الطريق، فلا يُمكن التوقف عند مشاكلنا وأزماتنا، فهذه كلّها مضيعةٌ للوقت، والوقت هبةٌ من الله. إلهنا بارك الزمن لمّا صارَ إنساناً فصار الزمن إلهياً وأضحت كل لحظة فيه خطوة للإتحاد به. علينا مواصلة السير في إصغاء لله ومعنا أحلامُنا وطموحاتنا ومخاوفنا وهمومنا التي نُصلّيها لله ليُبارِكها، فمن دونِ ذلك يغدو من المُستحيل أن ننالَ السلام والآمان.

اليوم ونحنُ نحتفلِ بأول أيام السنة بإحتفالنا بختانة يسوع، أي بإعلان إنتمائه لشعبِ الله المُختار، للجماعة المُخلَصَة والمُفتداة، تدعونا أمنا الكنيسة لأن نسمعَ إرميا النبي الداعي إلى "ختانةُ القلب" من خلال إزالة الخطيئة والعمل بالحق والبِر، العودة إلى الله لنيل الشفاء فالخلاصُ منه وفيه (إرميا 3: 19- 4: 4)، بمحبّة الله والقريب. نحن نؤمِن أن الله هو الذي يمنح لنا السلام الحقيقي عندما يُختَتَن القلبُ، لا الجسد، من "الإيمان العامِل بالمحبة" (غلا 5: 6)، مثلما علّم بولس كنيسة غلاطية التي إضطربّت حول موضوع ختان الجسّد. هذا السلام بركة يُنعِم الله بها على الإنسان، وخيرُ ما نتمنّاه للإنسان القريب هو أن ينالَ السلام، وهذا يكون إذا رضيَّ الله عن الإنسان فأضاءَ بوجههِ عليهِ، مثلما أوصى الله موسى أن يوجه هاورن والكهنة أن يُباركوا الشعب قائلين: ""يبارِكُكَ الرَّبَّ ويَحفَظُكَ، ويُضيءُ الرَّب بِوَجهِه عَلَيكَ ويَرحَمُكَ، وَيرفَعُ الرَّبّ وَجهَه نَحوَكَ. ويَمنَحُكَ السَّلام!" (عد 6: 24- 26). ونحنُ نؤمِن أن إلهنا نالَ وجهاً إنسانياً بيسوع المسيح مُخلصنا، فصار هو سلامنا (أفسس 2: 14).

اليوم ونحنُ نختُم هذه السنة نقفُ شاكرين الله على محبتهِ إذ أنعمَ ببركاتٍ وأفراحٍ جمّة، ونُصلّي له ليُطيّب أحزانَ السنة الماضية وهمومها بحنانهِ، ونسألهُ الرحمة والغفران عن كل فرصةٍ وهبها لنا ولم نستغلّها لتمجيدِ إسمهِ، مؤمنينَ أنه سيمنحُ لنا المزيد من الفرصِ في السنة الجديدة. أنر يا ربُّ بوجهِك علينا وامنحنا سلامَ، وهبَ لعبيدكَ يا ربَّ نعمة الشُكر لك دوماً في كل ما نقول وما نفعل.

الأحد الأول من الميلاد

الطريق إلى النجومية (متّى 2: 1- 23)

في ليلةِ ميلاد ربّنا يسوع المسيح أعلنَ الملاك للرعاة أن الطفلَ المولود ليس مُخلصا لشعبِ إسرائيل فحسب، بل هو للعالِم أجمع (لوقا 2: 10). فبدأ حُكماء من الشرق، مجوسٌ يتبصرون في الفلك، مسيرة حجٍ وبحثٍ من أجل لقاء ملك اليهود وتقديم الإكرامِ الواجِب له، فجاؤوا وسجدوا له لأنه الملكُ والإله. هم مثلُ الرُعاة الذين كانوا يبحثونَ عن الله وينتظرون مجيئهُ، لم يكتفوا بأنهم عَرفوا أن "المُخلَصً" قد ولدَ، بل أرادوا ن يكونوا بقربهِ، مهما كلّفهم الأمر من تعبٍ وجهدٍ، فاللقاء يستحق كل هذه الجهود، فهذا الملَك ليس كباقي الملوك، بل هو المُخلّص، هو كلمة الله ووجه رحمتهِ.

بشّر الملاك الرُعاة بولادة المُخلِص فأنطلقوا للقاء الطفل وعندما وجدهُ أخبروا عنه ما قيلَ لهم، فحولّهم هذا اللقاء إلى مُبشرين بالمُخلص. أظهرتَ السماء نجمة الملِك للمجوس وحولّـتهم إلى نجوم توجه الناس إلى الملِك الأوحد. كانوا مؤمنين فإنطلقوا بحثاً عن الملِك، وكانوا شجعاناً لا يُبالونَ بمخاطِر الطريق وصعوباتهِ، وكانوا متواضعين في بحثهم فسألوا كل إنسانٍ إلتقوه عن المَلِك، فعبروا بذلك عن متطلّبات اللقاء بيسوع: الإيمان والشجاعة والتواضع

كشفوا عن إيمانهم عندما آمنوا أن الله يُرشدهم إليه بطرق وأنواع شتّى، فالخليقة كلّها تتحدّث بمجده. شاهدوا النجم فما اكتفوا بالإعجاب بل كان هذا علامة من السماء لبدءِ مسيرة للقاء الملك. لم يكن ظهور النجم فرصة للإسترزاق والحصول على مكاسبَ مالية مثلما يفعل البعض، بل علامةً لما هو أهم: الله. عرفوا ان الطريق للقاء الملك لن يكون سهلاً وواضحاً دوماً، فعندما أضاعوا النجم لم يتراجعوا بل واصلوا الطريق، فكان إيمانهم سنداً لهم وقتّ الشّدة. كُلنا مثلهم نشعر في أوقات أن حماس الإيمان خفُتَ، وليس فينا غيرة الإيمان التي كانت تسندنا، وينقصنا وضوح الطريق. تساؤولات مُحيرة تُقلقنا وهمومٌ تُجبرنا أحيانا للتوقف عن الصلاة، لأننا نشعر وكأننا نسير وحدنا في ظلمةٍ مُخيفة ولا يوجد مَن يسمعَ صلاتنا ويُصغي إلى ألمنا. ولكن، علينا مواصلة المسيرة مثلما واصلَ المجوس، حتّى لو جُربّنا بأن نسأل الشخص الخطأ. نحن نؤمِن أن إلهنا لن يتركنا وحدنا، هو الذي وعدنا بأن يكون معنا حتّى إنقضاء الدهر، ومَن يثبُت إلى المنتهى فذاك يخلُص.

شجاعتهم كانت واضحة، فقد حملوا هداياهم وساروا البراري غير مُبالين بقطاع الطُرق والسراق. وعندما وصلوا إلى أورشليم وسألوا وعرّفوا أورشليم كلّها بولادة ملِك اليهود، لم يضطربوا حتّى في إضطراب المدينة العظيمة. لربما إستهزأ البعضُ عندما سمعوا ما يقولهُ المجوس: كيف يُمكن لكم أن تقطعوا كل هذه المسافات البعيدة والمُخطرِة خلف نجمٍ إختفى فجأة؟ مجانين. ولربما يستهزاء البعض بنا: هل ما زلتُم تذهبون للكنيسة؟ بماذا تنفعكُم؟ بالنسبة للمجوس، ويجب أن يكون الحالُ معنا أيضا، لقد مسّنا الله برحمتهِ وأقتربَ منّا فلا يُمكن البقاء في سكونٍ بل بدءُ طريق العودة إليه ولقائه مهما كانت أراء الناس وانتقاداتهم ومواقفهم. وعندما حظي المجوس بلقاء الملك لم يعد مهماً لقاء أي ملِكٍ أرضي، فلم يبالوا بما سيفعله هيرودس أو جنده عندما تجاهلوا أوامرهُ وشدوّا الرحال إلى بلادهم. مَن إلتقى بيسوع لا يُمكنهُ أن يكون مُطيعاً لأي شخصٍ أو حدثٍ في العالم، لذا، حملوا معهم هذا اللقاء ونسوا هيرودس وأوامرهُ بضرورة العودة إليه.

تواضعهم تجلّى في ضرورة بدءِ هذه المسيرة للقاء الطفل الملك، لم ينتظروا ليُصبح ملكاً حتّى يذهبوا ويُقدموا له الإكرام، بل شرعوا في الرحلةِ غير مُبالينَ بحقيقة أنهم الحُكماء والكبار والعارفون قراءة علامات السماء، سيذهبونَ للقاء طفلٍ. حكمتهم لم تجعلهم يتكبرون على الآخرين، هم اعترفوا بأنها حكمة بشرية محدودة وعليهم البحث والتساؤول. تواضعهم دفعهم لأن يسألوا ويستفسروا من الجميع فلا عيبَ وحرجٍ في مواصلة التعلّم، ولكن التعلّم الحقيقي يجد كمالهُ في البحث عن الله من خلال التأمل في الكتاب المُقدس كلمة الله التي تُعطي معنى لهذا البحث كلّه. كلمة الله التي كانت للبعض فرصة للدرس والوعظ، أما بالنسبة لهم فكانت فرصة البحث عن الحقيقة، للسعي للقاء المُخلِص الذي يُنير طريقنا، فالطفل هو الذي يوجّه النجم وليس العكس: "وإذا بالنجم الذي رأوه في المشرق يتقدمُهم حتّى بلغَ المكان الذي فيه الطفل وقفَ فوقهُ" (متّى 2: 9).

دعانا إلهنا وملكنا وعلى لسان بولس الرسول في رسالتهِ إلى أهل فيلبي لأن نكون "نجوماً" تُنير ظلمة هذا العالم (فيلبي 2: 15) المُبتلّى بأمراض "هيرودسية". هذه النجومية والتي صارتَ اليوم طموحاً في حياة كثيرين لا تأتي من خلال القوّة والعنف أو البحث عمّا يُعجِب الناس، بل البحث عن الله، ومَن يبحث عن الله ويهتَم بشؤونهِ سيهتَم بالناس وشؤونهم، وسينال النجمومية من خلال الإيمان والشجاعة والتواضع، وهي تُخالِف مبادئ وأعراف عالمنا الهيرودسي.


%AM, %26 %329 %2016 %09:%كانون1

عيد تهنئة العذراء مريم

عيد تهنئة العذراء مريم

عندما تلّقَت أمنا مريم بُشرى الملاك بالحبل الإلهي أجابت وبطواعية تامّة: "ها أنا خادمةُ الربَّ"، وعندما باركها الروح القدس على لسان إليصابات أنشدّت تُعظمُ نفسي الربَّ، فما أسعدها يوم ولادة الكلمة، ربّنا يسوع المسيح. نظرَ إليها الله ودعاها لتدخُل مشروع الخلاص، فقالت: "نَعَم"، وكّرست له كل الحياة، ولم يغَب عن بالها يوماً، مؤمنةً أن كلَّ ما صارَ لها هو نابعُ من محبّة الله التي ترحَم فتخلقُها من جديد. فبمريمِ باركنا الله بيسوع المسيح، فأخذ من جسدها الطاهِر جسداً صارَ هيكلاً لله فصالحنا إلى قلبهِ بتقدمةِ حياتهِ على الصليب. لذا، جئنا اليوم لنُهنئها على اختيار الله لها، ولأنها قَبِلَت بإيمان بشارةَ الملاك وسارَت بتواضعٍ أمام الله، وشاركت في مشروع الله الخلاصي، عارفةً أنها إنسانةُ فقيرة ومحدودة، لكنّ الله ملأها بمحبتهِ نعمةً. إيمانها وتواضعها أعطى لنا يسوع ربّاً ومُخلّصاً، وفيه ومنه صارت لنا كل النعِمَ.

في نشيدها "تُعظُم نفسي الربَّ" كشفَت عن إيمانها وعن تواضعها أيضاً. صلّت وفي صلاّتها كان الله هو الأهم، فأنشدّت عظائمهُ ومجّدت أمانتهُ للعهد وحنانهُ تجاه الحزانى والجياع، ورحمتهُ تجاه الخطأة. فكان نشيدٌ وكان صلاةٌ. نسيت نفسها أمام الله وأمام الشعب، فعلّمتنا كيف تكون الصلاة، لأننا عندما نتقّدم إلى الله في الصلاة تراناً ننسى الآخرين، بل حتّى ننسى الله، ونبقّى نتحدّث عن حياتنا وحاجاتنا وهمومنا وألمنا ومشاكلنا وصعوباتنا فحسب، فتُصبح صلاتنا حديثا عن أنفسنا مع أنفسنا. وهذا هو أسلوبنا مع الناس أيضاً، فلا يعد هناك مجالٌ للآخر. مريم أمنا تُعلّمنا كيف لنا أن نُصلي إلى الله عندما تُعظمُ الله في حياتها، وتُمجد شاكرة تدبيرهُ الخلاصي، فتنسى نفسها وتفتكِر "بمشروع الله الخلاصي"، لأنها تُريد أن تكون جزءً من هذا المشروع، وتضعَ نفسها خادمةً من دون أن تطلُب لها إمتيازات خاصّة أو دوراً سيادياً. الله هو السيّد وهو الأهم، لذا، عندما باركتها إليصابات، قَبِلَت التهنئة وقدّمتها مع تهنئتها الخاصّة لله. فمَن نحن من دون نعمةِ الله؟ هو الذي يستحقُ البرَكة، هو مَن يستحقُ التهنئة.

إلهنا وملِكُنا ينظُر إلينا من خلال أمنا مريم، ويقول لنا: هي إنسانةٌ مثلُك، محدودةُ مثلُك. فقيرة مثلُك. تتألم مثلُك. تقلَق مثلُك. تُحبُ مثلك. هي قالَت: "نَعم" وحَملتَ كلمتي لك: يسوع المسيح، فعرِفتَ مَن أكون: محبّة. أنت موجودٌ الآن في هذه الكنيسة لأن مريم قالَت "نعم" وكانت أمينةٌ في وَعدِها. هي جعلَت إبني يسوع يُولَد طفلاً صغيراً، ويبقَى معكَ دوماً في قُربانةٍ صغيرة. هي أعطتَ له جسداً فسارَ على الأرض إنساناً وعندما رفضوه وصلبوه سمِعتَ غفرانهُ من على الصليب، لتعود إليه تائباً، لأنه قد غُفِرَ لك قبل أن تطلُب الغفران. فكل شيءٍ صارَ لي ولك بسبب "نعم" مريم. فإذا تمكنّت مريم من أن تفتح بابا قلبها لي، لكَ أنت أيضاً القُدرة لتصنّع مثلما عملت هي، إن كُنتَ تُحبها كأمٍ لك، فالذي يُحِب قادرٌ على أن يصنع المعجزات. 

يروي أحد الكهنة يوماً عن طفلٍ صغيرٍ ذهب دخل الكنيسة وركِعَ أمام الصليبُ مُحدثاً يسوع قائلاً: "أعرِف أنت تتألَم الآن على الصليب، ولكني ذهبتُ إلى الصيدلية لأشتري دواء لأمي التي أحبها كثيراً، فقال لي الصيدلي أن دواءك هو عند يسوع"، فأرجوكَ ساعدني وأعطني الدواء! ولم يسمع الطفل أي جواب من يسوع. فعاد َليُصلي: "لو كنتَ تُحب أمّك مثلما أنا احبُ أمي، ساعدني وأشفي، وأعدُك بأنني سأساعدُك وأنزلكُ من على الصليب وترتاح من هذا الألم". هنا تدخل الكاهن وطلبَ من الطفل زيارة أمهِ، فوجدَ أن حالة الأم في تحسنُ، فقالَ للطفلِ: "يا أبني أن ربّنا يسوع يُحبُ أمهُ ويُحبُك ويُحب أمّك أيضاً"، وهو يستجيبُ لمَن يُصلي له بمحبةٍ.

صلاتنا اليوم لمريم هي: "كيف لي أن أوفيكِ كل هذا؟ ونسمع أمنا مريم تقول لنا: "مهما قال لكم فآفعلوه" (يوحنا 2: 5)، مثلما فعلَت هي يومَ بشّرها الملاك فأعلنت: "أنا أمةُ الربَّ فليكن لي بحسبِ قولِكَ" (لوقا 1: 38)، وفي حياتها كلّها: "فعلَت كل ما قالَ لها الله". لذا، لها محبّةٌ خاصّة عند الله وعند البشر. إكرامُ أمنا مريم وتهنئتُها إذن ليس أن نُخصص لها هذه الساعة فحسب، بل هي تفرَح عندما نعمَل ما يقولُه الرّب لنا، هذا هو فرحها: أن يتمجّد فينا ومن خلالنا الله فهو القدير بمحبتهِ

عيد الميلاد

"هلُّمَ بنا إلى بيتَ لحمَ، فنرىَ ما حدّث"

 يجمعنا ربّنا يسوع، كلّمةُ الله، اليوم لنحتفِلَ بعيد ميلادهِ، إذ زارنا راغباً في أن يكون قريباً منّا، بيننا: عمانوئيل، وفي قُربنا منه سنكون أكثر قُرباً من الإنسان أخينا. ميلادُ دعوةٌ  للنهوض من "المكان" الذي نحن فيه، والذهاب إلى حيثُ الطفل، وفَهِم الرعُاة هذه الرسالة فتحدّثوا فيما بينهم قائلين: "هلُّمَ بنا إلى بيتَ لحمَ، فنرىَ ما حدّث". هذا القيامٌ ممكن لمَن يعرِف السهَر والتيقظ وإنتظار الفجرِ، إنتظار الله والذي لم يُعد في غاية الأهمية في حياة الإنسان. نحن لسنا مثلهم، فالله لا يحتل عادة مكانة مهمّة في حياتنا، وليس له المكان الأول، فالأمكنة الأولى مشغولة بأشياء وقضايا دنيوية زائلة. نحن مشغولون ومنشغلونَ بأمورٍ كثيرة، والحاجة هي إلى واحدٍ، وحاجتنا الأهم هي: الله، وهذا ينقُصنا. الكراهية والحقد الحروبٌ والصراعات والعنف والخطيئة كلّها إشاراتٌ واضحة على أن الله مُغيبٌ عن عالمنا، وكلّما أرادَ أن يقترِب ويكون إلى جانبِ الإنسان، لن يسمح له الإنسان بذلك ولن يُعطيه المكان الكافي. لذا، تأتينا البشارة اليوم: "ها أنا اُبشركم بفرحٍ عظيمٍ يكون للعالِم كلّه، وُلِدَ لكم اليوم مُخلصٌ".

فرح الخلاص الذي دُعي إليه الرُعاة اليوم هو: في الله خلاصنُا. الله هو سلامنا، هو حاجتُنا الأهم. العالم اليوم بحاجة إلى الله، إلى المحبة، إلى الحنان، إلى الرحمة، إلى الغفران إلى المُصالحة. عالمُنا يصرخ متوجعاً من هول العنف والحروب والتشّرد والتهجير. يتألم ويصرُخ من شّر الخطيئة، لذا، تأتينا دعوة الملائكة اليوم لتوجهنا إلى ربّنا يسوع المسيح، كلمةُ الله، الذي بشّرنا أن خلاص العالم وفرحهُ هو في محبّة الله وغفرانهِ. هذه المحبّة وهذا الغفران يبحث اليوم عن قلوب الناس المُحبّة ليسكُنَ فيها ولا يجد الله مكاناً، فالأبواب مُغلقة والقلوب منشغلةٌ، وعندما لا يجد الله مكاناً في قلب الإنسان، لن يجد الإنسان مكانا ًلأخيهِ الإنسان.

ليس لهذا المُخلص جيوش مُرعبةٌ، ولا يُمكن لطفلِ المذود أن يُثيرَ في الآخرين مشاعرَ الخوف والعداوة والخصومةِ حتّى يحذروهُ ويخافوا منه أو يتجنبّوه. إختارَ الله، كلّيُّ القُدرة والمحبة في زيارتهِ لنا أن يكونَ طفلاً صغيراً فيجذبنا إليه في فقرهِ وتواضعهِ متضامناً معنا. هو يُريد محبتنا لأنه محبّة، ومحبتهُ لنا جعلتهُ صغيراً، طفلاً َ يُمكن لنا أن ننحني نحوهُ ونقبلهُ ونحبهُ ونحتضهُ لأنه طفلٌ لا يُخيف، فالله يُريد في زيارتهِ اليوم أن يجمعَ حولهُ كل العالم. فرحُ اليوم ليس لنا فحسب، بل هو للعالم أجمع، عالمُنا المُبتلَى بالحقد والحسد والكراهية والنزاعات والحروب لأن المحبة تنقصهُ. يأتينا طفلاً بحاجة إلى أن يُحَب، ليقول لنا: أن ما يحتاجهُ الإنسان، كل إنسان هو المحبة، فقدموا المحبة لتنالوا السلام، سلامُ القلب وسلامٌ مع الله. لذا، فإلهنا لا يتعبُ من أن يُولَد ولا يملُ من دعوتهِ لنا للإحتفالِ بميلادهِ، لأنه يعرِف أننا نؤمِن بميلادهِ مع أننا نستصعبُ تحقيقهُ واقعاً في حياتنا، لأن عيدُ الميلاد ليس دعوة للإحتفال فحسب، بل دعوةٌ للتوبة وللإهتداء. لأن نسمحَ له بأن يُولِدنا من جديدا.

إخوتي وأخواتي،

عيد الميلاد هو عيدُ الخلاص والفرحٍ: فالله آتٍ إلينا، ولكن هذا الفرحُ لا يتحدد بالتهاني التي نُقدمها وبالهدايا التي نُعدّها، بل بالخلاص الذي نقبلهُ في حياتنا. بالمحبة التي نتقاسمها مع الآخرين. بالرحمة التي يُبارِكنا بها الله نعمةً ونُقدمها لإخوتنا فعلُ شكرٍ لله. إنظروا كيف حوّلنا زيارة الله هذه إلى قصةٍ جميلة نرتاحُ لسماعها، وحدثٌ ننتظره من أجل التهرّب من ما يُريدهُ الله، فننشغلُ بتحضيرات الميلاد وبالتهاني الدنيوية، والحال، أن الله أرادً في زيارتهِ أن يُحدِث تغييراً جذرياً فينا لنترِك مكاننا ونذهبَ لنلتقيهِ. هو يُقدِمُ الخلاص، وهذا الخلاص يتطلّب أن نقوم من الأمكنة التي تعودّنا عليها، لنذهَب إلى المكان الذي يُريدنا الله أن نكون، مثلما دعا الرعاة اليوم، فلبوّا النداء على عجلٍ: "هلُّمَ بنا إلى بيتَ لحمَ، فنرىَ ما حدّث". لم يذبحوا عجلاً إحتفالاً بولادة المُخلص، بل قاموا على عجلٍ تاركينَ مراعيهم وأسرعوا حيثُ الطفل ومريم ويوسف، وعادواً ليكونوا مثل الملائكة مُبشرينَ بما قالَ لهم الملائكة وما شاهدوهُ.

إحتفال الميلاد لا يحتاج إلى هدّية، بل يحتاج إلى قلوبٍ مُفرَغةَ من الخطيئة لتستقبلهُ بفرحٍ، فيكون الله هو "الأهم" في حياتنا. الميلاد بحاجة إلى سهرٍ الرُعاة وشجاعتهم للتجاوبِ مع دعوةِ السماء.

الميلاد بحاجة إلى يقظةِ المجوس وحماسهم وإستعدادهم للقاء الملِك حتّى لو كان لوقت قصير. الميلاد بحاجة إلى التأمل في الكُتب لأن الله لم يُقرر صُدفةً أن يكون معنا، فهذه هي إرادته منذ البدءِ والتي لم يتعب من أن يُعلنها دوماً بلسانِ الأنبياء في العهد القديم، وأرادَ اليوم أن يوجزها ببساطةٍ: "أنا إلهُكم. أنا هو فرحُكم، اقبلني إلهاً أوحد في حياتك لتتمكّن أن تقبلَ قريبَكَ أخاً، وهكذا يُولدُ السلامُ في القلب وتشعُ المُصالحةُ بين الناس.

الميلاد بحاجة إلى قبول خلاص الله للتحرر من الخوفِ والحسد والغضب والكراهية والعداوة والخصومةِ والخطيئة، فرحمةُ الله أعظمُ من خطايانا، ومحبتهُ ترحمُ قساوة قلوبنا ويُطهرها من أنانيتنا ويُزيل عنها الغضب والحسد والغش والنفاق والكذب ونمدُ يد المُصالحة الصادقة إلى الآخرين. فلنسمح لله بأن يولَد، ففي ولادتهِ نعمةُ السلام لقلوبنا المُضطربة، فهذا الطفلُ جاء ليُزيّن قلوبنا بالمحبة والتواضع والمُسامحة والغفران والمصالحة والصدق والأمانة والمودة واللطف.

اليوم يدعونا ربّنا يسوع لنستقبلهُ فرحةً وُهِبَت لنا نعمةً، ويُريدنا أن نُشارِكَ الآخرين، لاسيما الفقراء والمهمَشين هذه الفرحة. ربّنا علّمنا قائلاً: "إذا صنعتَ وليمةً لا تدَع الذين يدعونَك بدورِهم، بل أدع الذين لا يدعوهم أحد والذين لا يُمكنهم أن يدعوكَ بدورهم (لو 14: 12- 14). لذا، أود أن أدعو الجميع إلى التوجه إلى مُخيمات المُهجرين قسراً من الموصل وسهل نينوى، ويدعو إلى فرحةِ العيد عائلة تقضي معهم النهار، فنعيشَ معاً فرحةً الميلاد، فرحة زيارة الله لنا. إلهنا نفسهُ خصص لنا وقتاً بل صارَ واحداً منّا لا لنحتفلَ به مرّة في السنة، بل ليكون هذا أسلوبَ حياتنا. إلهنا عرّف عن نفسهُ منذ الأزل أنه مع الجائع والعطشان والمُهَمَش والفقير والمريض.

فلنطلُب منه أن يُبارِك ميلادنا هذا بالمحبّة التي نتقاسمها فرحاً مع إخوتنا وأخواتنا جميعاً. 

الرابع من البشارة

يوسف: الأبُ البار (متى 1: 18- 25)

ما الذي كان على يوسف أن يفعلهُ وهو يرى خطيبتهُ مريم حُبلّى قبل أن يتعارفا؟

وفق ما تعلّمه الشريعة وحسبما جرت العادة في تلك الأزمنة، كان على يوسف، وفي أحسن الأحوال يتخلّى عنها لأنها لم تكنّ وفيّة له، ولكنه أختار القرار الذي يحفظَ لمرَيم حياتها: "أن يُخليها سراً". تدّخل ملاك الله، مثلما بشّرَ أمنا مريم ليُعلِنَ له في الحُلم: "يا يوسف إبنَ داود، لا تخَف أن تأتي بآمرأتِكَ، مريم إلى بيتِكَ، فالذي كوِّن فيها هو من الروح القُدس، وستلِد إبناً فسمهِ يسوع". المولودَ منها هو الله الذي أرادَ منذ البدء أن يكونَ معنا": عمانوئيل. لم يستسلِم يوسف إلى شرِّ الظنون السيئة، ولم يسمح للشكوك أن تُجربهُ وتأسرهُ. أرادَ أن يفهَم فأصغى إلى الله، ورفعَ إليه حيرتهُ وأزمتهُ، ونالَ منه التوجيه والإرشاد، وتمكّن من أن يرى مريم بعيون الله، عيون المحبة والحنان والرحمة، وهكذا كشفَ عن نفسهِ أنه إنسانٌ بارٌ، لا يُريد أن يُشهَر مريم بين الناس، لأنهُ جعلَ شريعةَ الربَّ هواهُ، وبيّن ذلِك في فعلِ الطاعة الذي قدّمهُ إذ أخذ مريم خطيبتهِ إلى بيتهِ لأن الربَّ امرهُ بذلِك، واثقاً بتدبير الله له حتّى لو لم يفهَم طبيعةَ هذا التدبير في حينهِ. "برُّ يوسف" كان في سعيهِ إرضاء الله لا إرضاء الناس، وتتميمِ إرادتِه، فغاية الشريعة خلاص الإنسان.

يُوسف إنسان صامتٌ وصمتهُ ساعده ليكون مُصغياً لله. فالصامت إنسان مُستعد ليُصغي إلى الآخر الذي يأخذ أهميةً أكبر منه. الصامت يسمح للآخر بأن يكون في المركز ليختفي هو، فالآخر هو الأهم، ويوسُف أعطى الأولوية لله في حياتهِ، فكبُر الله وصغُر هو. صلّى إلى الله في أزمتهِ. تقدّم نحو الله ومعه قرار إخلاء سبيل مريم سراً، ليرحمها من الإهانة والعقوبة، ويخرُج هو من حياتها، وينسحِب بعيداً عن كل هذه الأجواء. فإذا بالله يدعوهُ ويكشِفَ له تدبيرهُ الخلاصي ويسألهُ أن يكون خادماً في تدبيرهِ الخلاصي. نالَ التعزية ونالَ نعمةَ الأبوة، أي: مسؤولية أن يكون الحارِسَ الأمين على الطفل يسوع وعلى أمهِ، وعليه أن يُريبهِ ويحميهِ. ونالَ ربّنا يسوع، ومن خلال يوسف، النَسَب لبيت داود.

أطاعَ يوسف وقَبِلَ هذه المسؤولية والخدمةَ، ففعلَ في اليوم التالي كما أمره الملاك من دون إبطاءٍ، فدخل في مشروع الله، مثلما قَبِلَت أمنا مريم المهمّة: "ها أنا أمةُ الربِّ، فليكن لي حسبَ قولِك". برُّ يوسف كان في قبوله تدبير الله الخلاصي، تماماً مثل إبراهيم الذي لبّى دعوة الله، وآمن بكلمتهِ فحُسِبَ له ذلك برّاً. وفي مثل هذا البيت تربّى يسوع، مع مريم ويوُسف اللذان قبلا دعوة الله لهما بطاعة تامّة. دعا الله يُوسف إلى الدخول في سرّ تدبيره الخلاصي، وعهِدَ إليه مسؤولية تسمية الابن المولود: "إيشوع: الربُّ يُخلِص"، وخلاصُ الربِّ كان بغفران الخطايا، إي: تصحيح علاقة الشعب بالله. فالله نفسه جاء ليُصالِح الإنسان بيسوع المسيح. كلمة الله الأخيرة لم تكن كلمة دينونة وعقابٍ، بل غفرانٌ وسلامٌ ومُصالحة. فيُصالِحَ الله الإنسان إلى قلبهِ، ليتمكّن الإنسان المغفوُر له من أن يُصالِحَ أخاه الإنسان فيعُم السلام بين البشر.

بشارة إنجيل اليوم تُعلّمنا كيف نستعد لاستقبال كلمة الله المتجسّد في ميلادهِ. هذا الإستعداد لن يتحدد بما سنُنفقه من أموالٍ في تحضيراتنا لزيارة الله لنا، بل في موقف الإصغاء والطاعة لكلمة الله، وأن نتحمّل مسؤولية دعوتنا فنكون حُراس الكلمةَ، والتي فيها خلاص العالم. نحن نؤمِن أن خلاص ربّنا يسوع ليس لنا وحدنا، بل هو للعالِم أجمع، فهو أبنُ داود ومن نسلِ إبراهيم، إبراهيم الذي دُعي ليُبارِكَ الله من خلالهِ الشعوب كلّها. هوذا الله المحبّة يبدأ المسيرة من جديد، بل يتعهّد للإنسان بأنه سيكون معهً دوماً: عمانوئيل: الله معنا، ويختُم متّى إنجيلهُ بنفس البُشرى عندما يُبارِك ربّنا يسوع تلاميذه ويُرسلهم إلى العالم مؤكداً لهم: "ها أنا معكم طوال الآيام إلى نهاية العالم" (28: 20).

يدعونا ربّنا يسوع اليوم إلى أن نُكرِم يُوسف البار لأنه كان الحارِس الأمين الذي حافظ عليه وعلى أمهِ مريم ولم يسمح لهيرودس أن يمُسهما، ووفّر كل ما يلزم ليكبُر يسوع سليمَ الجسد وعلّمهُ "النجارة" ليكون له مهنةٌ يسترزِق بها. تابعه وبحث عنه عندما تاه عن أنظاره. كان مثالاً للأب المُصغي إلى كلمة الله ومُعلماً حكيماً، حتّى أن القديس لوقا الإنجيلي قالَ عن ربّنا يسوع: "وكان طائعاً لهما ... وكان يتسامى في الحكمِة والقامة والنعمة" (لو 2: 51- 52). لقد جاهَد يوسف ليكون بيتهُ مسكنُ الله فربّى يسوع على الإيمان وقبولِ تدبير الله مثلما قبلهُ هو طائعاً. فالأبوّة مسؤولية نعيشها نعمةً إذا كانت لنا صداقةٌ مع الله. الأبوة المسؤولة ليست أن يوفّر الأب الحاجات المادية للبيت فحسب، بل هي أولاً أن يعيش أبوّة الله في بيتِه، فمن خلال إنموذج حياة الأب، سيتعرّف الأبناء على أبوّة الله المليئة حناناً ورحمة.

فلنُصل جميعاً ليُبارِك الله بكل الآباء ليكونوا على مثال يوسف، خُدام تدبيره الإلهي، وحُراس الكلمة، ورُعاة صالحين في بيوتهم. 

الثالث من البشارة

ما عسّى أن يكون هذا الطفلُ؟ (لو 1: 57- 80)

حلَّ الروح القُدس على زكريا فأنشدَّ متنبأ نشيدَ تمجيدٍ لله الآب وفرحٍ بولادة يوحنا، مُعلناً أن ولادتهُ علامةٌ على وفاء الله لعهدهِ، وبدءُ تدبير الخلاص الذي حققهُ بيسوع المسيح. فكلَّ شيءٍ صارَ بفضلِ رحمة الله: "أظهرَ رحمتهُ لآبائنا ... تلكَ رحمةٌ من حنان إلهنا". زيارة الله لشعبهِ، وحسبما يُعلنُ الروح القُدس بلسان زكريا هي زيارة رحمة نابعة من حنانهِ ومحبتهِ لشعبه فأقام لهم مُخلَصاً قديراً: ربّنا يسوع المسيح. فيوحنا هو في خدمة تدبير الخلاص الذي حققهُ ربّنا يسوع لنا.

يُعلّمنا زكريا أيضاً في نشيدهِ، أن كل طفلٍ يُولدُ في العالم إنّما هو رسالةُ حُبٍ من الله للإنسان، علينا أن نقبلها بشكرٍ وإمتنانٍ، فنرعاهُ ليتقوّى ويتشدد ويأخذ دوه في الحياة. علينا الإهتمام به لا بتوفير ما يحتاجهُ مادياً فحسب، بل بأن يكون قريباً من الله، الآب الذي وهبهُ لنا، مثلما سيقول ربّنا يسوع لأمه مريم وليوسف اللذان بحثا عنه فوجداه في الهيكل: "ولِمَ بحثتُما عنّي؟ ألم تعلما أنه يجب أن أكونَ عند أبي؟" (لو 2: 49).

بشارة إنجيل اليوم توعينا أيضاً على حقيقة أن كل طفلٍ هو "لحظةُ إندهاشٍ وتعجّب": "ما عسّى أن يكونَ هذا الطفلُ؟" هذا ما قالهُ جيران زكريا وأقربائهم. لذلك، إستعدّ زكريا لإستقبال إبنهِ تسعةَ أشهرٍ قضاها مُصلياً ومتأملاً بصمتٍ الرحمة التي صارت له حتّى ينالَ الصلاة التي وهبها الروح القُدس له. زكريا مثلنا لا يُحسنُ الصلاة، لذلك كان عليه أن يصمُتَ طويلاً حتّى يتعلّم الإصغاء إلى صلاة الله فيه. وفي صلاتهِ ذكرَ كل تاريخ الخلاص، تاريخ الله مع الإنسان، وهو تاريح رحمةٍ إذ غفرَ لنا خطايانا. الصلاة ليست لحظة مُنقطعة من الزمان، بل تواصلٌ لصلاةٍ بدأت قبلَ أن نكون. صلاةٌ بادرَ بها الله وهو أمينٌ في محبتهِ ليواصِل معنا الصلاة.

"سَمِعَ جيرانُها وأقاربُها أنَّ الله غَمَرها برحمتهِ، ففرحوا معها". بيت زكريا وإليصابات صارَ بيت الزيارات الانسانية الحقيقية والصادقة. ففي الأحد الماضي تأملنا كيف زارت أمنا مريم وكانت زيارتها وقفة تمجيد الله القدوّس صانعُ العجائب في المرأتين: مريم وإليصابات. زيارة اليوم كانت من جيران وأصدقاء وهي زيارة فرحٍ حقيقي بعيداً عن المُجاملات التي تُسيطر عادة على زياراتنا. زيارة كانت فرصة أخرى لتمجيد الله والسؤال: "ما عسّى أن يكونَ هذا الطفلُ؟" زيارة لم يتمكّن شيطان الحسّد من التغلّب عليهم، فالجميع فرِحَ لإليصابات العجوز. وعندما أرادوا أن يُسموا الطفل أحب جيرانهم وأقربائهم أن يُخلّدوا هذه اللحظة بـإسم زكريا (الله يتذكّر)، مؤمنينَ أن إلهنا لم ينسنا وتذكّر وعدهُ، ففاجئ إليصابات وزكريا الجميع بإسم جديد: يوحنا. هذا الطفل هو علامةُ حنان الله ورحمتهُ، وهما، أي زكريا وإليصابات، قبلا بطاعة الإيمان هذه العطية. وأنشد زكريا نشيده والذي فيه سلّمَ الطفل لله مثلما قبلهُ منه، مؤمناً أنه حارسٌ على أمانةٍ عليه أن يُحافِظ عليها. هذا الطفلُ، مثل كل أطفال العالم، هو مُلكُ الله، أودِعَ إلى عنايتهِ، وعليهِ أن يسهرَ مُصلياً لكي ينمو وتتشدد روحهُ بالربِّ.

وقفُ زكريا وإليصابات ليُمثلاَ مسيرة ما ندعوهُ بالعهد القديم كلّه. فحينَ أرادَ جيرانهم وأقربائهم تسمية الطفل بـ"زكريا"، رغبا في أن يُعلنوا: أن الله لم ينسَ شعبهُ مهما طالَ الإنتظار. أما الله، فسمّى الطفل يوحنّا، لأن كلمتهُ الأخيرة في العهد القديم، والأولى في بدءِ عهدٍ جديد لم تكن: مُحاسبة الإنسان ومعاقبتهِ على خطاياهُ، بل كانت كلمة رحمة لأنه حنون ورؤوفٌ. فصارَ الجميع شاهداً على ذلك، وعندما سألوا عن هويةِ الطفل: "ما عسّى أن يكونَ هذا الطفل؟ أجاب زكريا: هو نبيُ الله، هو مَن يستحضرهُ في حياتهِ. هو مَن سيُعلَّم الناس طريق العودة إلى الله الآب. رحمة الله أكبر من خطايانا وستكون هي الدافع إلى عبادة صادقة من دون خوفٍ. فيكون يوحنا شاهداً لهذه الرحمةِ العظيمة التي غمرنا الله بها، ويدعونا زكريا لنكونَ في حياتنا شهوداً لرحمةِ الله فنعبده دونِ خوفٍ أو مصلحةٍ شخصيةٍ.  

يدعونا ربّنا اليوم، ونحن نحتفل بإفتتاح سنة الرحمة في الإيبارشية إلى أن نفتح له أبواب حياتنا وقلوبنا وعوائلنا ونطلُب غفرانهِ. سنّة الرحمة سنةٌ نعمةٍ ولها بركاتٌ خاصّة إن قَبلنا رحمة الله لكي نولَد إنساناً جديداً. كلّنا يعي أن المُجرَّب يسعى دوماً إلى أن يسرِق منّا النعمة من خلال توجيهِ أنظارنا بعيداً عن دعوةِ الله. فحين وُلدَ يوحنّا إنشغلَ الجميع بالطفل متناسين: ما تدبير الله من هذه الولادة، وحدهُ زكريا وبوحي من الروح القُدس، نبّه الجميع على أن هذا الطفل يُمثّل علامة حضور الله الرحوم، وعلى الجميع الإستجابة لهذا الحضور بفعل التوبة. فالأهم هو الله المُعطي لا العطية التي يهبُها. وعندما تُعلِن الكنيسة الدعوة إلى سنّة الرحمة يوجّه المجرّب أنظارنا إلى أعمال الرحمة الخارجية، ومع أهميتها كشهادة صادقة للرحمة التي قبلناها، إلا أن الأهم هو: كيف نسمح لهذه الرحمة لتخلقنا إنساناً جديداً؟ 

عيد العذراء المحبول بها بلا دنس

العذراء أم الحنان (يو 2: 1- 12)

أختار البابا فرنسيس هذا اليوم ليبدأ سنة يوبيل إستثائية في مواجهة العنف والخطيئة التي تغزو العالم، إيماناً منه، بأن الرحمة هي الدواء الذي يحتاجهُ العالم اليوم، وأن الله يُريد أن يرحمَ الإنسان لأنه محبّة. هذه إرادتهُ منذ البدء، وعيد أمنّا مريم اليوم علامة على أنه هيأ وأعد خلاص الإنسان والذي تحقق بـ"نعم" الإيمان التي أعلنتها أمنّا مريم، فوهبَت لنا وجه الرحمة، ربّنا يسوع المسيح. ولأنها قَبِلت بطاعة الإيمان أن تحمل للعالم المُخلّص أضحت هي نفسها وجه رحمةٍ وحنانٍ، فأسرعت تخدُم إليصابات، ورافقت إبنها يسوع حيثما رحل، وتصلّبت تحت الصليب تبكي خطيئة قسوة قلب الإنسان التي غُفرَت له من على الصليب دون أن يسأل الغفران، وقَبِلَت أن تكون أم الكنيسة فرافقت الرُسل بالصلاة.

نُريد اليوم أن نـتأمل في هذا الوجه الحنون من خلال التأمل في قصّة عُرس قانا الجليل الذي حضرته بمعية ربّنا يسوع وتلاميذهُ. إذ تقول القصة أن حرجاً كبيراً حصل أثناء العُرس لمّا نفذت الخمرة مما يعني أن العُرس سيبطُل وسيُغادر المدعوون وسيكون هناك خزي وحرجٌ لأهل العُرس الذين لم يُحسنوا التدبير.

إنتبهت أمنا مريم لحالة العٌرس من دون أن يُخبِرها أحد، وهذا هو معنى "الحنان"، الإنتباه لحاجة الإنسان المعوّز من دون أن يسأل حاجتهُ، فطلّبت من إبنها التدخل سريعاً. مؤمنةً أنه قادرٌ على ذلك، فتأمُر الخَدم بأن يفعلوا ما يأمرهم به، فكانت تلك الساعة ساعة ظهور (ميلاد، كشف) يسوع للعالم والتي يُعبّر عنها الإنجيلي بقوله: "هذه أولى آيات يسوع، صنعها في قانا الجليل. فأظهرَ مجده، فآمن به تلاميذهُ" (11). أمه تعرف أن الساعة قد حانت، مثلما تعرف أن ساعة الولادة قد حانت أيضاً، من خلال تحركات الجنين في بطنها، فهذا العُرس هو فرحة الولادة. فكانت أول المؤمنين به. قوّة إيمان مريم هو الذي الذي جعل ربنا يسوع يُولد للناس: هذه أولى آيات يسوع، صنعها في قانا الجليل. فأظهرَ مجده، فآمن به تلاميذهُ" (11).

في هذا العُرس تُصبح مريم إم الله لأنها أول مَن آمنت بيسوع، كلمة الله. هي مَن يلد يسوع للناس، لأنها تشعر بيسوع، وهي أكثر من ذلك، تدفع يسوع للإرسالية ليُظهر مجد الله، فتكون بذلك أم يسوع وأم الكنيسة التي رأت العلامة وآمنت، وهكذا يصير الإيمان بيسوع ممُكناً بمريم.

وعليكم أخواتي أن تُجددوا عهد َالتكريس له اليوم في عيد أمنا مريم المحبول بها بلا دنس أصلي، وهو عيدٌ عظيم لرهبانيتكم التي تحمل هذا الأسم الرائع. وفي هذه السنة يدعونا الأب الأقدس لنشهَد في حياتنا على محبّة التي ترأفت بنا. محبة غفرت لنا خطايانا فكانت رحمةٌ عظيمةٌ، وتحننت علينا إذ تضامَن معنا وأخذ إنسانيتنا ليرفعنا إليه بيسوع المسيح. ولأن كل مُكرس مدعوٌ إلى أن يتحّد بيسوع المسيح، وجه رحمة الآب، ولأن هدف التكريس هو: إتباع يسوع والعيش في حياة مطابقة له ليُصبح المكرس إبناً في الإبنِ المتجسد فعليه أن يعمل على "مسحنة حياتهِ": مسحنة الفكر والنظر، وهذا ممكن من خلال حياة الشِركة الحميمية مع يسوع. على المُكرس أن يتجلّى للعالم "وجه رحمةِ الله الآب"، مثلما تجلّى الإبن، فالمُشاركة في إنسانية الإبن تُعطي المُكرس فرصة للمُشاركة في آلوهيتهِ متحداً مع الثالوث نظراً لإتحاده بالإبن. المُكرس يرغب أن يكون "مسيحياً" يخدُم، ويرى في كل إنسان "مسيحياً" يُخدَم. بذلك، يُعبّر الله من خلال موهبة "الحياة المُكرسة" على تضامنه ِالتام مع الإنسان: حبيبهُ.

هكذا تجعلون حياة ربّنا يسوع المسيح واقعاً اليوم، بل تستبقونَ الملكوت الذي بدأه لنا، وتكونون علامات الإنتظار الأمين له.

صلاتنا مع أمنا مريم لترعاكم بناتُ الحنان مثلها لتكونوا منتبهاتٍ لعوز المحتاجين، فتقدمون ما قبلتموه نعمةً: ربّنا يسوع المسيح. حاجة العالم أبداً. 

الثاني من البشارة

بشارة مريم: بشارة الخدمة (لو 1: 26- 56)

لمّا لم يعرِف الإنسان كيف له أن يتحّد بالله خالقهِ، إنحنى الله نفسه نحو الإنسان ليجعل هذا الإتحاد ممكناً. هذا هو معنّى عقيدة التجسّد، فالله لم يتجسّد ليُظهِرَ نفسه للإنسان قديراً جباراً، بل صارَ إنساناً بيننا، بشرٌ مثلنا ليكشِف لنا عن عظيمَ محبتهِ، وليُمكننا نحن أيضاً من أن نعيشَ هذه المحبة إن كان فينا طاعةُ الإيمان. طاعةٌ إيمان مثل طاعةِ إمنا مريم التي سمِعَت بشارة الملاك: "السلامُ عليكَ يا ممتلئةً نعمةً الربُّ معك"، ووضعت حياتها كلّها في خدمة هذه الكلمة، وراحت تخدُم، وفي طاعتها فهِمَت معنى البشارة. لم تبحث عن براهين، بل خرجت تبحث عن إليصابات، فوجدت أن الروح القُدس هيأ لها تحيّة أخرى: "مُباركةٌ أنت بين النساء، ومُباركةٌ ثمرةُ بطنِك، من أين لي أن تأتي أن تأتيني أمُ ربّي". فقدّمت أمنا مريم نفسها مثالاً للكنيسة التي يُريدها الله في العالم: كنيسة تُصغي، كنيسة تخدُم وكنيسةُ تُمجّد. ومثلُ هذه الكنيسة لن تقوى عليها أبواب الجحيم. 

كثيرون منّا يعتقدون أن أول ما يطلبُه الله منّا هو أن نتجنّب الخطيئة والابتعاد عن المُحرمات لنكونَ صالحينَ ويجازينا الله على طاعتنا. لذا، يخافُ الإنسان الله ويسعى ليُرضيهِ وليتجنّب غضبهُ. وحدها المسيحية تُبشرنا بأن كلمة الله الأولى هي: "لا تخفَ يا زكرياً" ... "أفرحي يا مُمتلئة نعمةً". كلمة الله الأولى كانت "بُشرى فرحٍ وإطمئنان" ليرتاحَ قلبُ الإنسان المُضطَرِب ويهدأ، حتّى يعرِف كيف يُصغي لأن الله يطلُبُ أولاً قلباً مُصغياً ثم تقدمةَ حياةٍ تامّة له: "أنا أمةُ الربّ، فليكُن لي بحسبِ قولِكَ"، وشهادة حياة لحضور الله المُنعِم في حياتنا وإستعداداً للخدمةِ، ففي هذا سنكونُ مُباركينَ. الإستعداد لخدمة الله يعني الذهاب حيثُما يُريدنا الله، وقدّمت أمنا مريم شهادة حيّة لمعنى زيارة الله لها من خلال زيارتها للآخر المُحتاج، فخدمةُ الآخرين تجسيّد حي لمعنى زيارة الله لنا، فهو جاء ليخدُمَ لا ليُخدَم. يروي لنا آباؤونا الروحيون عن تلميذٍ سألَ معلمهُ الروحي: "يا مُعلم هل عليَّ أن أهتمَ بالحاجات الروحية أم بالحاجاتِ المادية؟ فأجابَ المُعلمُ: إذا كانَ الأمرُ يتعلقُ بكَ، فاهتم بالحاجاتِ الروحية، وإذا كان الأمرُ يتعلّقُ بالقريبِ، فأبدأ إذن بحاجاتهِ الماديةِ. 

نحن نؤمِن أن الله، بدافع محبتهِ، أخذَ جسداً بشرياً، وقَبِلَ تبعات هذا القرار أي أن يحيا واقعَ الإنسان وطبيعَتهُ، فبارَكَ الحياة الإنسانية بسُكناهُ ليدُلَنا على الطريق إليه. إيماننا المسيحي ليس قبولاً عقلياً للحقائق الإيمانية التي تعلنها الكنيسة، ولا يتحدد بتطبيق وصاياه، ولن يُبارَكنا الله لأننا لم نفعل الخطيئة، إيماننا يعني التقرّب المُحِب من المحتاجين، لأنه عرّفَ نفسه به. الإتحاد بالله فنُسلّم حياتنا له في فعل طاعةٍ مُحبّةٍ، ونُظهِر هذا التسليم من خلال شهادة حياة المحبة التي نعيشها مع إخوتنا وأخواتنا، ففي ربّنا يسوع المسيح صارَ الله إنساناً، وصارَ صديقاً وأخا لنا ليُصيرّنا إخوة وأصدقاء مع الآخرين على حدّ تعبير البابا بندكتُس السادس عشر. 

المحبة هي التي دفعت الله لأن يتحرّك باتجاه الإنسان المعُذَب بفوضوية قراراتهِ واختياراتهِ. الإنسان هو الذي قرر الابتعاد عن الله، ولكن محبة الله رافقت الإنسان حتّى في عصيانهِ: "وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما" (تك 3: 21). محبتهُ أمينةٌ حتّى لو أخطأ الإنسان وإبتعد عنه، ولا يُمكن الله أن لا يُبالي بما يُعانيه الإنسان، حتّى اذا كانت هذه المعاناة نتيجة ذنب الانسان وإرادتهِ الحرّة. فلزِمَ الأمرُ أن ينزل الله ليُصلِحَ ما أفسده الإنسان وليُصالحهُ إلى قلبهِ. الله، ولأنه ثالوث محبةٍ وشِركةُ المحبة، أرادَ أن يُشركنا في طبيعتهِ الإلهية، لذلِك تُرتل الكنيسة ممجدةً محبّة الله: "الأزلي هو الأعظم من الجميع، تواضعَ بمحبتهِ، ليرفعَ الوضعاءَ إلى اسم ربوبيتهِ، ويُصعِد الأرضيين الى درجة لاهوتهِ، ويفتح لهم كنزَ حكمتهِ، ويغتنوا ويُدبروا غناهُ، فيكونَ لهم الفرح من دون خوفٍ، ويملكونَ من دونَ يأسٍ". (مدراش الأحد الأول من موسم البشارة: الطقس الكلداني). 

مسيحيتُنا هي: "شغفُ الله بالإنسان"، وهو قرارُ الله منذ البدءِ، وهذا الشغف يُعطي لحياتنا معنى: "نحن أحباؤهُ" "نحن مَن يُحبهم حتّى أنه بذلَ إبنه الوحيد لكي لا يهلَك كلُّ مَن يؤمِن به". وحينما نتجاوب، بطاعة الإيمان، مع محبة الله لنا، ونؤمن بها في يسوع المسيح، ونقبلها بشهادة حياتنا، حينها يكون لقاؤنا بالآخر، لقاء الروح القُدس المُفرِح، مثلما آلتقت أمنا مريم بإليصابات. أمنا مريم لم تنعَم برؤية مثلما حصل مع زكريا، ولكنها سمعَت، وتحدّثت بأقل ما يُمكن من الكلمات لتسمعَ أكثر مما تتكلّم، وقبِلَت كلمةُ الله في احشائها وفي قلبها بالايمان وستصير هذه الكلمة محور حياتنا وأعمالها. 

لم تتعالى أمنا مريم أمام الجمعِ بأن الله زارها زيارةً خاصّة، ولم تتفاخَر بأن تحمل للعالم المُخلَص، بل راحت تُبشِر به واقعاً، فكانت زيارتها لإليصابات زيارة الروح القُدس الذي رتّل فيها أجمل صلاةٍ. لم تدخل بيت زكريا لتنقل لهم ثرثراتٍ وأقاويل تشوّه سمعةَ الآخرين، ولم تفتح الكلام بسؤال إليصابات عن آخر الإشاعات، بل راحت لتُعظِمَ ما صنعهُ الربُّ في حياتها خادمةً. فلنطلُب منه نعمةَ الزيارة المُبارِكة للأقرباء والأصدقاء والمعارِف، حتّى نشهد لحضورهِ المُحِب بيننا.

الأول من البشارة

لا تخف: بدءُ عهدٍ من جديد (لو 1: 1- 25)

"لا تخف يا زكريا فإن صلاتَك قد سُمعَت وآمراتَك إليشباع تلدُ لك ابنا وتدعو اسمهُ يوحنا"، هذه هي بشارة السماء لزكريا الكاهن الذي حُرِمَ من عطية الأبناء، وكان بإمكانهِ الزواج ثانية إلا أنه فضلَ البقاء إلى جانب آمرأته إليشباع يتحمّل معها هذا الحرمان، ويتقاسمان "العار" معاً على أن يتركها لوحدها، فما كان عليه إلا أن يواظب على الصلاة، ويطلُبَ بإلحاح: "صلّوا ولا تملّوا"، فقال عنه لوقا الإنجيلي: كانا بارين. ولأن الله عوّدَ الإنسان على البدايات الحسنَة والمُبارَكة، هوذا يتدخل في حياة زكريا وإليشباع حنوناً ويمنحُ لهما أكثر من عطية الأبناء، فيُعطيهما إبناً ونبياً بل رسولاً يُهيأ الطريق له، مؤكداً لهما ولكلِ إنسان أنه لم ينسى ولن يُهمِلَ صلاتهما البارّة، ولن يدع حبيبهُ الإنسان يودّع الحياة حزينا.

مع بشارةِ يوحنا تبدأ مرحلة جديدة من علاقة الله مع الإنسان حبيبهُ (تاوفيلوس= مُحبُ الله، صديق الله)، بل مرحلة حاسمة فيها سيعلِن الله ملءَ كلمته. بدءُ عهدٍ من جديد بيسوع المسيح، كلمة الله الحاسمة في تاريخنا الإنساني. في هذه المرحلة سيكون الإتمام: يسوع المسيح. فجوابُ الله على خطايا الإنسان وعصيانهِ لم يكن مُحاسبتهُ وتعذيبهُ وإهلاكُه وإبعادهُ، بل أرسل له "حناناً" ليكون للإنسان فرحٌ وسرور عظيم. فالإنسان أفرَغَ كل ما في جعبتهِ فملءَ العالم، وما يزال، بخطاياه وشرّه. وجواب الله المُحِب كان: الرحمة للإنسان لأنه أخطأ، والحنان لأنه يُحبهُ وسيردّه إليهِ. ولا يوجد مَن هو خارجَ هذه المحبة، فهي تشملُ الجميع، حتّى عمال الساعة الأخيرة، بل حتّى لص اليمين في آخر ساعتهِ: فعادَ وتابَ وأُنعِمَ عليه أن يكون مع ربنّا: "الحقَّ أقولُ لكَ: ستكونُ اليومَ معي في الفردوسِ" (لو 23: 43).

عملُ الله الخلاصي بدأ مع يوحنا وهو ينتظرُ جوابَ الإنسان، وهذا الجواب يفترِض الطاعةَ والثقة بالله أنه الإله الأوحد الذي يستحق منّا التعبّد، تماماً مثلما أعلَن إيليا في نبؤتهِ. إلهنا يعرِف أن في قلب زكريا، مثلما في قلوبنا الكثير من المخاوف والشكوك والهموم لاسيما بعد سنوات من صلاةٍ على نوايا لم تُستجّاب، وطلبات لم تُردَ، لكنهُ يُريدنا أن نكون أمينين كما هو أمين معنا على الرغم من خطايانا وتقصيراتنا. هو العهد من جديد يقطعه الله على نفسه ليؤكِد له أنه يُحبُ الإنسان وهو مُستعد ليبذُلَ نفسه عنه ليبقَ الإنسان مُقدساً طاهراً بلا عيبٍ مثلما يُعلِن الرسول بولس. فالمطلوب هو: أن لا يخف الإنسان في أن يستسلِم مُحباً لهذا العهد، فهو له ومن أجلهِ. ولكن كيف يكون هذا الإستسلام؟ كيف أعلمُ هذا يقول زكرياً؟ 

الإيمان، وهذا الإيمان ليس حصرا ًيومَ الأحد، بل إيمان يُغيّر كيان الإنسان كلّه. إيمانٌ يقلبُ حياة الإنسان: "يُعيد كثيرين من بني إسرائيل إلى إلههم". نحن نتوهَم أن إيماننا هو إحتفالات دينية نحضرها متفرجين، والحال إيماننا إنقلابٌ جذري، إرتدادٌ القلب كلّياً، تغيير تامٌ من عصيانٍ إلى طاعة: "يردُ قلوبَ الآباء إلى الآبناء والذين لا يطيعونَ إلى علمِ الأبرار". لا يكفي أن تقول: "إني أؤمِن"، بل "أرني إيمانَك لاسيما وقتَ الشّدة"، وقت الصعوبات، في الأزمات، هل لكَ أن تثقَ أن الله لم ينساك؟ هل يُمكن أن تواصل الحياة مؤمناً أنه معك حتّى لو سرتَ في وادي ضلال الموت؟ يتأسف الله جداً عندما نحدد كل هذه الوقفات الروحية لتكون "مناسبات صلاة فرضٍ واجبةٍ فحسب، أو إلى "إلتزامات وواجبات دينية"، لذا، كان على زكريا أن يصمُت حتّى يتأمل عجائب الله في زمن لا يعرِف الصمت والتأمل.  

العهد الجديد الذي يبدأه الله بيسوع المسيح هو حنانٌ من الله الآب المُحِب، هذا الحنان سيختبره الإنسان إرشاداً وتعليماً، شفاءاً وغذاءاً للروح والجسد. في هذا العهد سيختبِر الإنسان رحمةُ الله في غفرانِ خطاياهُ. هذه العهد هو عملُ الروح القُدس فيكون خلاصنا لا ثمرة أعمالنا، بل ثمرةٌ الروح القُدس فينا. الكلمة الأولى في هذه العهد هي: الحنان (يوحنا)، حنانُ الله هو ضمانةُ الإنسان في العودة إليه، فالتوبة ليست مُبادَرة إنسان، بل عودة إنسان إلى بيت الآب واثقاً من أن الله سيقبلهُ إبناً له من جديد، فينتصِر الله في حنانهِ على الخطيئة التي تريد أسرَ الإنسان وإبعادهُ عن الله كلياً. وإذا صارَ هذا الحنان جسداً (بشراً)، فهذا يعني إن بإمكان الإنسان أن يكون حنوناً على مثال الله الآب، وأن تكون فيه مشاعرُ المسيح نفسه الذي أشفقَ على الجياع، وغفرَ للخطأة، ورَحَبَ بالبعيدين. فحنان الله هو مُعدي، يحطُ فينا ليستقرَّ في الآخرين: "وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ". 

يدعونا الملاك من خلال دعوتهِ لزكريا للصمت وإفساح المجال لكلمة الله أن تنشرَ عطرها في حياتنا، ونستوعِبَ معانيها، متأملاً في السؤال: "اين أنا من حنانِ الله؟ كيف أقبلُ هذا الحنان؟ كيف أعيشهُ؟ وهل لي أن أتقاسمهُ فرحاً مع الآخرين؟ علينا أن لا ننسى أن مسيحيتنا نداءٌ نحو مُستقبلٍ بيد الله، الله الذي يُريد أن يكونَ إلى جانب زكريا وإليشباع في ألمهما ومحنتهما، لأنه إله المحبة وباعثٌ الرجاء. إله القيامة.

الأحد الرابع من تقديس البيعة

"كونوا قديسيين كما أن أباكم السماوي قدوسٌ هو" (عبر 9: 5- 15)

نُعلِن في قانون إيماننا: "نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مُقدسة رسولية". وتُوقفنا هذه العبارات لنسأل أنفسنا: كيف أن الكنيسة مُقدسة ونحن أعضائها، وجميعنا يعرِف أننا لسنا قديسيين، بل خطأة وخطايانا أمامنا كل حين، مثلما يُعلِن المُزمّر (51: 3)؟ كيف يُمكن لنا أن نُعلِن "أن الكنيسة مُقدَسة"، وحالنا يؤكِد الضعف وعدم الأمانة لمتطلبّات مسيحيتنا وللدعوة التي دُعينا إليها: "كونوا قديسيين كما أن أباكم السماوي قدوسٌ هو"؟ ونواصِل إعلان الإيمان: " نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مُقدسة رسولية". الكنيسة، وبشهادة أعضائها، ليست مقدسة مثلما أنها ليست واحدة!

فكيف تتقدس الكنيسة؟ ومَن ذا الذي يُقدسها؟ وكيف يقدسها؟ كيف لنا أن نُحقق دعوة الله لنا: "كونوا قديسين كما أن أباكم السماوي قدوسٌ هو"؟

الله هو الذي يُقدِس الكنيسة بيسوع المسيح. فالإنسان إعتاد للذهاب إلى الهيكل ليُشفَى من أمراضه الجسدية، ومن خطاياه (امراضاه الروحية)، وليتعلّم شريعة الله. هوذا ربّنا يسوع يُقدِم نفسه هكيلاً جديداً، هيكلاً روحياً حيث يُعلّم الإنسان ويشفيه من أمراضه الجسدية والروحية. بل أن الله كشفَ في ذبيحة ربّنا يسوع المسيح عن إنتصاره على خطيئة الإنسان وعصيانهِ، فدعاهُ ليُصبِح "إبناً لله"، وقديساً مثلما أنه هو "قدوس". هي "مسؤولية الله"، فيُبادِر بها نعمةً "وتعاون الإنسان". فقداسة الكنيسة ليست في قداسة حياتنا، بل هي في قوّة التقديس التي يقوم بها الله على الرغم من خطايانا وعصياننا وتكبرنا ورياءنا، وهي نعمةٌ، لأنها محبّة مجّانية ليست مشروطة بإحترام الإنسان لبنود العهد، محبةٌ تُعطي حتّى بذل الذات. محبةُ تُعطي ذاتها حتّى لمَن لا يستحقونها أو ليسوا جديرين بها.

وتكون القداسة بـ هدِم الإنسان القديم وبناء الإنسان: "إهدموا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيام". إلهنا، وأمام خيانات الإنسان (خطاياه) لم يُصدِر حُكم الدينونة أو القصاص بالهلاك الأبدي، ولم يُعلِن "إبادة الجنس البشري الخاطئ"، بل تضامَن معنا، وحملَ أثقالنا وسارَ طُرقنا، وطلبَ منّا لا أن نهدُم الهيكل، بل أن نشرَع بالبناء الجديد، الإنسان الخالي من الرياء والمراءة، الإنسان الخادِم والذي لا يبحث عن إمتيازاتٍ ومناصب. إنسان المحبة المجانية لأنه إكتَشَفَ أنه محبوب مجاناً ومن دون إستحقاق. وهذا يتطلّب أن يُقدِم الإنسان ذاتهُ، حياتهُ كلّها في فعل طاعة الله. إلهنا ليس بحاجةٍ إلى ذبائحنا، فهو الخالِق وهو مانحها، وهو لا يُريد أن نُحمّل الآخرين أثقالاً، بل نحمل أثقال الإخرين. إلهنا يُريد قلبَ الإنسان وعقلهُ وقوتهِ، وهو ما فعلهُ ربّنا يسوع، إذ تقدّم نحو الله مُقدماً حياتهُ قرباناً، ذبيحةً مُصالحةً. أنت تُريد كل حياة الإنسان، وها أنا أقدمها لكَ.

تقدمة ربّنا يسوع هي تقدمة المحبة الخالصة التي لا تُريد أن تُدحرِج مسؤولية الخطيئة على الآخرين، بل تأخذها على نفسها، وتتطلُب الغفران للمُسيئين، فكان الغفران أول ما حصلنا عليه من على الصليب: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُون" (لو 23: 34). فجرّد الخطيئة من عنفها ولم يدع لمشاعر الغضب والإنتقام أن تسود عليه فغلَب الخطيئة بالمحبة فوهبَ الغفران. علمّنا ربّنا يسوع أن الحياة التي يُريدها الله للإنسان لا تكون بإفناء بعضنا البعض، بل بتحمّل أثقال بعضنا البعض، فتكون الحياة ممكنة، بل لن يقبل الله بعدَ تجسّد ربّنا يسوع، وصيرورتهِ إنساناً أي ذبائح وتقادُم تُقرّب له، بل ينتظر منّا محبة للقريب نترجمها من خلال فعل الرحمة والصلاح الذي فيه ومن خلالها نتضامن مع الأكثر حاجةٍ. فالعبادة الصحية تبدأ منه وتعود إليه مروراً بالإنسان.

تتقدّس كنيسة ربّنا يسوع إذن بمقدار إلتصاقها بيسوع الخادِم فتعيشَ على مثاله خادمة ومُحبة وصادقة. قداسة الكنيسة مرتبطُ بالله الذي يُنعِمُ علينا بالقداسة، نحن الخطأة ويُواصِل عملهُ "المُقدِس" على الرغم من خطايانا. الله القدوس ينتصِر دوماً على عدم أمانتنا لأنه مُحبةٌ أمينةٌ تُلاقي الإنسان، لاسيما الضال، وتبحثُ عنهُ لتُعيده إليه إبناً محبوباً. فنعمةُ الله تُبقي الكنيسة مُقدسِة، وتُشعلُ القلوب بالمحبة المجانية، لأن العالَم كلّه بحاجة إلى "المحبة"، وهذا الذي دفعَ الجميع من دون تمييز لتحيّة الأم تريزاَ لشهادة حياتها، فدخلَت حيثما أرادت لأنه محبة الله فيها مَهدت لها الطريق للقلوب. فلم تبحث عن مجدها ورفعة إسمها، بل بحثت عن يسوع من خلال خدمتهِ في إخوتهِ المرضى والمنبوذين. فجاءت شهادتها للمسيح صادِقة لأنها شهادة للمحبة المجانية، والتي يحتاجها العالم ولا يجدها إلا في شخصيات فتحت قلوبها لله وكرستَ له حياتها بصدقٍ، وتعرِف وتعترِف أنها الشر سيُجربنا حتّى في أقدس تعابير حياتنا، ولذلك تبقى منفتح ة لله ليشفيها من أمراض الكبرياء والرياء والتعالي على الآخرين، فقُربنا إلى الله يكشِف عن خطايانا أكثر من ذي قبلُ، لتتنقّى حياتنا ونكون أهلاً لتقديمها تقدمة لا عيبَ فيها.