الأحد السابع من الدنح
رحمة الله: دواء شافٍ من أمراضنا الروحية (متى 7: 23- 8: 13)
تجرأ أبرصٌ أجبره المرض على الإنعزال بعيداً عن الناس، وتقدّم نحو ربّنا يسوع متجاوزاً المحرمات وسجدَ أمامه قائلاً: "إن شئتَ فأنت قادرٌ على أن تُطهرني!" توسلٌ نابعٌ عن إيمانٍ عميقٍ بربّنا يسوع المسيح الذي جاء ليُقرّبَ الإنسان إلى الله ويُزالَ كل ما يُعيقُ هذا التقرب إن مرضٌ جسدي أو روحي. كان على الأبرص أن يتحمل مرضهُ والعقاب الذي حلَّ به، فهو محكومٌ عليه بالتهميش المؤبَد، فحُرِمَ من مخالطة الناس، وحُرِمت الناس من مخالطتهم. أمام هذا الإيمان مدّ ربّنا يسوع يدهُ ولمسَ الأبرص، وهو فعلٌ مُحرمٌ عليه أيضاً ليقول له: "لقد سَمِعَ الله صُراخَك"، وشئتُ أن تبرأ. ربّنا يسوع سمع ولاحظَ صُراخ وألم الآخر، ولأنه محبّة لا يُمكنه أن يبقى بعيداً أو غيرَ مُبالٍ لما يختبرهُ المتألِم، بل يقترِب مُتجاوزاً كل الحدود لأنه يُحِب. وقُربهُ يتطلّب حضورَ الإنسان وقُربهُ أيضاً. ربّنا يرى في الإنسان الأبرص، وفي الإنسان الخاطئ، صورةَ الله. لا يراه من خلال مرضهِ (خطاياه)، بل يره بعيون الله الآب، فيتحرّكَ تجاهه بخطوة لا يتوقعها الإنسان: سخاء في العطاء المُحِب.
أقدَم الأبرص وقائد المئة على خطوةٍ تطلّبت إيماناً راسخاً، من أجل التقّرب من ربّنا يسوع مؤمنين أن حامل بشارة الله، فلا يُمكن للناس أن يمنعوهم من التقّرب منهم، ولا الإمتيازات الشخصية والمناصب التي نحن فيها. لقد زرعَ الله إيماناً في قلبِ هذا الأبرص ووهبَ له الشجاعة ليتركَ مكانه متحملاً توبيخات الجماعة، وذهبَ ليلتقي ربنا يسوع مؤمناً أن له القُدرة على أن يُبرأهُ. ووهبَ الإيمان أيضاً لقائد المئة فوقَفَ أمام ربنا يسوع طالباً الشفاء لفتاهُ غير مُبالٍ بما سيقولهُ الناس عنه هو الذي يأمُرُ ويُطاع، فجعل نفسه تحت أُمُرة الله. فمِن أجل شفاء خادمهِ كان مُستعداً للذهاب أينما تطلّبَ الأمر ليحصلَ على ذلك. محبتهُ عنايةٌ وإلتزامٌ جعلتهُ يتركَ مهامهُ وإمتيازاتهِ ليحظى ببركات لقاء ربّنا يسوع، وكشفَ عن إيمان راسخٍ ومتواضعٍ في ذات الوقت: "يا ربُّ لستُ مُستحقاً أن تدخلَ تحتَ سقفي ولكن قُل كلمة فقط فيبرأ فتاي". إيمانهُ جعلَ المعجزة ممكنة وليس العكس، فالمعجزات ليست سببا للإيمان بل علامات له. أعلنَ ربّنا يسوع أنه جاء ليُعلِنَ الخلاص والتحرر لكل مأسورٍ، هذا الإعلان يعني التقّرب منهم وخدمة حاجاتهم، فرحمة الله ليست تعاليمَ تُدرَس، بل مواقف مُلتزمة تبدأ بلمسِ الخاطيء ومحبتهِ ليتحرر من خطاياهُ، ويقفَ شاكراً الله على هذه الرحمة التي نالها نعمةً.
إذا تأملنا حياتنا في ضوء كلمة الله فسنجد أننا مُرضى من دون أن نشعُر بأمراضنا الروحية، وهذا هو المرض الأخطر في مسيرة الإيمان. صِرنا نشعُر بأننا لسنا بحاجة إلى محبّة الله ورحمتهِ. نحن قادرون على أن نتولّى أمرَ حياتنا ونتعايش مع آزماتنا. ليس فينا الحماس والشجاعة لنُحدِث ربّنا يسوع عمّا نٌعانيهِ من قلقٍ وخوفٍ. صِرنا نشعُر أن "واقعنا" هو ظاهرة مقبولة، بل أن مَن يعيش بخلاف هذا الواقع يُرفَض ويُهَمَش، وهذه شكلٌ من المساومة التي ستكون وباءً قاتلاً لأنها تُسبب تأكل في روحيتنا، وسيُصيبُنا الإنهيار الروحي لاحقاً.
ربنا يهَبُّ لنا فرص نعمة وبركة، تجعلنا نواجه أمراضنا الروحية ونضعها تحت أنظار ربّنا يسوع الشافي وهو مُستعدٌ ليلمُسها بمحبتهِ ويُطلقنا أحراراً منها. فلنفتح أبواب قلوبنا ليدخل الله فيها ويهبَ لها القوّة والشجاعة لتجاوز ما يُعيقُ عمل الشفاء. يقول البعض: أنا غفرتُ لهذا خطيئتهُ ضدي ولكنني لا أقدر أن أسمامحهُ على ما فعل! كرامتي لا تسمح لي بأن أغفرَ له وتركتُ أمره بيد الله! لقد جرحني بشكلٍ مُؤلِم ولا أستطيع نسيان ما حصل! سامحتهُ ولكني لا أرغب لقائهُ! ... وغيرها كثير من هذه العبارات التي تُبيّن أننا مازلنا محبوسون في أمراضنا والأتعس أننا أبقينا الله على أبواب قلوبنا ولم نسمحُ له بعدُ ليدخل خوفاً من أن تُطالبنا رحمتهُ بالتغييّر. ليبقَ السؤال: إلى متّى سنُبقيهِ واقفاً؟ أوليستَ هذه كلها أمراض بحاجة إلى لمسة الله الشافية؟ كيف ستُشفَى إن لم نُقدمها لربنا لنتخلّص منها؟
إنجيل اليوم يتحدّانا لنواجه أمراضنا الروحية، والتي تجعلنا ننعزل بعيداً عن الناس وهمومهم، أو نحبُس انفسنا في همومنا فلا نشعر بما يختبره القريب من ألمٍ. نحن مُصابون بأمراض روحية نتيجة الغضب والإستياء والقلق والحزن الذي يملأ قلوبنا. أمراض تُجبرنا على الابتعاد عن الناس، وأحيانا نلبسُ أقنعة مزيفة لنختبئ ورائها ونُخفي عن الآخرين، عن ربّنا، أمراضنا هذه. نحن محبوسون بإنجازاتنا وطموحاتنا ومُصابون بمرض "المنافسة" القاتلة التي تُربك حياتنا وتجعلنا مهووسون بالإنجازات الشخصية، فلا نشعرُ بألمِ القريب ولا نُبالي بما يختبرهُ من ضيقٍ وألمٍ، ويبقَ القلبُ مُغلقاً أمام رحمةِ الله التي تُريد أن تشفينا من كل هذه وتجعلنا نُدرِك أن لا معنى لكل هذا التنافُس القاتِل. ربّنا يسوع لم يتجسّد ليقولَ لنا مَن هو الله الآب، بل ليعيش هذه الأبوة محبة وحناناً ورحمةً.
فلنسمَح لكلمة الله، ربّنا يسوع المسيح، أن تُنير ظلمات القلبِ وتُحرره من مخاوفهُ. الصوم الكبير على الأبواب وهو فرصة أخرى لتُشفّى قلوبنا وتستعد للخروج مع يسوع الحامِل صليبهُ إلى الجُلجلة طاعة لله الآب وحُباً بنا.
الأحد السادس من الدنح
ربّنا يسوع المسيح: عطيّة الخلاص من الله إلى الإنسان (يو 3: 22- 4: 3)
قدّم يوحنا المعمذان، وهو يُمثل "نبؤات العهد القديم" شهادات عديدة أمام الجموع وأمام تلاميذه تكشِف عن هوّية ربنّا يسوع: هو حمل الله الحامِل خطايا العالم. هو عطيّة الخلاص التي يهبُها الله إلى الإنسان. هو العريس الذي سيُبهجُ الرعية. ربّنا يسوع المسيح هو هبّة الله لنا، عطيتهُ وعلينا أن نقبل هذه العطية بإيمان مسؤولٍ، فنعمل على أن يكبرُ الله فينا ويتعظّمُ اسمهُ دوماً من خلالنا: "ليروا أعمالكم الصالحة فيمُجدوا آباكم الذي في السموات".
إنجيلُ اليوم يحكي لنا قصّة يوحنّا المعمذان الذي أختبرَ الخلاصَ الذي أنعمَ الله به على العالم بيسوع المسيح، ورأي فيه يد الله المُخلصِة. عندما جاء تلاميذ يوحنا يشكون إليه نجاح يسوع في رسالته، طلبوا منه تفسيراً، فلم يسمعَ لشكواهم وشكوكهم، بل قدّم لهم تعليماً وكشفاً إلهياً. كلُّ شيءٍ هو من الله فلا داعي للخوفِ. ونجاحُ ربنا يسوع هو فرحٌ يوحّنا، إذ إكتمَلت كل النبؤات، وفي ذلك درسٌ لنا، نحن أبناء حضارة التنافس الحسود التي أتعبتنا وجعلتنا في تيهٍ من أمرنا، بل الأتعسُ من ذلك كلّه، هو أننا مراراً نُضيّع هويتنا المسيحية في خضمٍ هذا التنافس البطّال والذي يملأنا حسداً وغضبا كلّما نجح القريب في مهمّة أو إنجاز, لطالما أقلقنا "نجاح الآخرين" وغيّر أسلوب حياتنا وصيّرنا خائفينَ منهم عوضَ أن نكونَ للربّ شاكرين. إذا حصلَ القريب أو الصديق على نجاح أو شهرةٍ أو مال أو مكانة عالية، تغلغلَ الحسدُ فينا وسمحنا للمُجرّب أن يهمُسَ في آذاننا غاضباً ويقول: أنت أفضلَ منه! أنت أذكى منه! أنت تستحقُ هذا النجاح! وهكذا ترانا نتراكض هنا وهناك في تنافس رديء لنُبرهِنَ للجميع: أنني أفضل من هذا وذاك، ولربّما نحاول الاساءة إليه وإلى سمعته وكرامته بين الناس.
كشفُ يوحنا اليوم هو شهادة وتوبيخٌ لحضارة التنافس المُتعجرف التي تتحدانا اليوم. جاء تلاميذهُ ليُجرّبوه قائلينَ: أنت مُعلّمنا، وها هو ينجح اكثر منك وتزداد شعبيّتهُ!!! فأعلنَ يوحنا: رسالتي كانت: أن ادعو الناس إلى التوبة وأعدّ طريق الرب، ليعودا إليه تائبين ويقبلوا حضورهُ بينهم، وهذا هو فرحي: نجاح رسالة يسوع المسيح، لأن نجاحهُ هو تحقيق لرسالتي ورغبةُ مَن أرسلني: الله الآب، وهذا هو الأمرُ الأهم: أن تكمُلَ إرادة مَن أرسلني. هو الماشيحا وهذا ما أعلنتُه منذ البدء، وما أنا إلا صديقهُ، صديقُ العريس وعليَّ أن أُعِدَّ كل شيء، وأتأكد من أن العُرس سيكون على أفضلِ شكلٍ ممكن. جئّتُ ليعرِف العالم مَن هو المُخلِص، يسوع المسيح ونجاحهُ لن يكون سبباً للحزن أو النزاع أو المُخاصمة، بل داعياً للفرح. نجاح الآخر هو فرحي. مثل هذا الكشفٌ ليس مقبولاً بالنسبة لنا لأننا معتادونَ على الحطِّ من نجاح الآخرين والإستخفاف بهم، وحتى إهانتهم ومحاولة البحث في الماضي العتيق لنقول للجميع: هو فاشل ... هي فاشلة ... هو لا يستحق هذا الإنجاز ... يوحنّا يقترح علينا اليوم تصرفاً آخر: عوضَ أن تجعل نفسكَ منافساً للآخر، كُن صديقه، وافرح لفرحه، وستنعم بحياة أبدية.
كما كشَف لنا يوحنّا أيضاً عن أن ربّنا يسوع هو العريس. إلهنا وملكُنا بادرَ بالخلاص فتجسّد وكان حضوره مع الإنسان حضور العريس مع عروُسهِ، حضور فرحٍ. و"العريس" هو أحد الألقاب التي اتَّخذها الله لنفسه ليكشِف عن عظيمَ محبتهِ للإنسان. هذا الحُب الذي يبرز من خلال مشاعر الحنان والمودة والرحمة التي يكنها الله لشعبه. حبٌ غيور على شعبهِ، فيغضب عندما يبتعد الشعب عنه، ويعدها خيانةً وزنى. وأشارَ أنبياء العهد القديم إلى أن الله هو العريس الذي اختارَ شعبهُ من بين كل الشعوب وباركهُ وزينهُ بكل النعم ليكونَ شاهداً له بين الأمم، لكنَّ الشعبَ، عروسهُ، حادَ عن الطريق فتركَ الله وراح يذبح ويتعبّد لآلهةٍ أخرى من صنعِ يديه، أو مخلوقات خلقها الله، مما استدعى غضبَ الله على خيانة الشعب. إلا أن محبتهُ هي التي انتصرت على خطايا الإنسان وخياناتهِ، لأنها محبةٌ أبدية أمام زمنية الإنسان. حَملَ العريس خطيئة العروس وعارها على نفسهِ وغفرَ لها خياناتها المتكررة، فأعادَها إلى بيتهِ وزيّنها بكل ما فقدته هي بالخطيئة وأعادَ لها المجد والكرامةَ. فمحبة الله أقوى من موتِ الخطيئة، وهذه المحبة كفيلةٌ بأن تخلقَ في الإنسان قلباً جديداً يحمل حُباً وولاءً لله.
فالله إذ يُطلِق على نفسه لقبَ العريس، فانما ليُعبّر عن محبتهِ للإنسان، بل أن ما يُميّز الزمن المسيحاني هو أنه زمنُ محبة الله المُخلِصة، وهذا الزمنُ بدأ مع ربّنا يسوع المسيح، هو العريس الذي جاءَ ليُحرر شعبَ الله، مثلما أعلنهُ الأنبياء. فشهِد يوحنا اليوم أن ما يحصل على يد ربّنا يسوع هو عطيةٌ من السماء، فالله أعدَّ لنا عُرساً بيسوع المسيح. يسوع، عهد النعمة الأبدي ما بين الله وشعبهِ، وتحقيقٌ لوعدِ الله في الأنبياء. فبشارة إنجيل اليوم هي أننا مدعوون بربّنا يسوع ومعه إلى عُرسٍ، وهذا العُرس صارَ لنا نعمةً بيسوع المسيح، عطيّة الآب. علينا أن نقبلَ البشارة فحسب، بل أن نُظهِر في حياتنا اننا فرحونَ بهذه الدعوة، وحياتنا تشهدُ على هذا الفرح.
لنشكر الله خالقنا على عطيّتهِ، ربّنا يسوع المسيح. لنُصلِّ إليه لنتمكّن من أن نحمل هذا الفرح في حياتنا، ونتقاسمهُ مع الآخرين حُباً وخدمة واعتناءاً ولطُفاً وسلاماً، فهذا هو فرحُ ربّنا يسوع المسيح: "قُلتُ لكم هذا ليكونَ فرحي فيكم ويكون فرحكم كاملاً" (يو 18: 15- 18). لنشكرَه إذ بادرَ وأحبّنا واختارنا لنكون كنيسة يسوع المسيح، أصدقاء يسوع. والصديق معنيٌّ بكل ما يلزم لنجاح عُرسِ صديقه، وهذا يعني أن صداقتنا ليسوع ليست لنا مبعثَ افتخار، بل تحمل لنا واجبات ومسؤوليات علينا أن نعمل جاهدين ليفرحَ العالم بحضور الله فيه.
صوم الباعوثا
الرحمة والخطيئة والتوبة
"كانت كلمة الربَّ إلى يونان بن آمتاي قائلاً: "قُم آنطلِق إلى نينوى المدينة العظيمة، ونادِ عليها، فإنَّ شرّها قد صعِد إلى أمامي". تفتح كلّمة الله لنا هذا الزمن المُبارَك في حياتنا، زمنُ التوبة والذي فيه نتذكّر كيف ترأف إلهنا بشعبِ نينوى، فأيقظهُم بمناداة يونان فأصغوا إليه وتابوا عن خطاياهم، جاعلين حياتهم كلّها تحت أنظار الله الرحوم.
إلهنا محبّة ومحبتهُ تغفر لمَن يفتح قلبهُ له حتّى لو كان مُلطخاً بالخطايا. إلهنا لم يرغب هلاك نينوى فأرسل لهم نبياً، يونان، يُنادي بينهم: "خطاياكم تدمر حياتكم" إلهنا محبّة ولا يُريد هلاكَ الإنسان، وعندما يرى الإنسان يُدّمر حياتهُ بعبثية قراراتهِ، يُوقظهُ ليتنبّه ويعودة إلى نفسه ويهتدي إلى الله أبيهِ. وهو يُواصِل يوميا ًتنبيه الإنسان، تنبيهنا، ليستيقظ ويرى تبعات الشر الذي يصنعهُ بأخيه الإنسان، فهذه الخطايا وهذا الشر يُحزِن قلبَ الله لأنه يُؤلِم أحباء الله، ونحن نعرِف أكثر من غيرنا ما نتائج الشر الذي حصلَ في نينوى اليوم، فلقد دمّر حياة مئات الآلاف من الأبرياء، وشرّدهم مُهجرون بيننا.
أيام الباعوثا الثلاثة وقفات نبوية لنستيقظ لنداء الله بالتوبة والعودة إليه من خلال التأمل في قصّة الله مع نينوى، والتمعّن في تفاصيل حياتنا نحن اليوم الذين لا نختلِف في شرورنا عنهم. نحن خطأة مثل كل إنسان يولَد على الأرض، ولكننا خطأة بشكل شخصي أيضاً. ففي هذه الأيام لن نتأمل في الخطيئة، وخطيئة الناس، بل في خطايانا الشخصية. في هذه الأيام الثلاثة نذكر في صلاتنا وتأملاتّنا وقراءاتنا ثلاثُ حقائق إيمانية: رحمة الله التي تُمكّن الإنسان من أن يتوب عن خطاياهُ ويهتدي إليه. الرحمة والتوبة والخطيئة. هذه الحقائق تُشكّل كل إيماننا المسيحي، ولا يُمكن الحديث عن واحدة منها من دون الأخرى.
نبدأ في التأمل في خطيئة الإنسان، خطيئتنا تحت أنوار كلّمة الله.
تتحدّث الصفحات الأولى من الكتاب المُقدس عن الله المُحِب والذي بمحبتهِ أبدعَ لنا هذا الكون لنحيا فيه لا ككائنات تأكل وتشرب وتتزاوج، بل لنكون شُركاء لهُ فنواصِل عمل الخلقة الذي بدأه لنا، ونضمنُ حياة كريمة للجميع. إرادة الله كانت منذ البدء أن يكون مع الإنسان: عمانوئيل، وأن يكون معه مُحباً بسخاء، فلم يحتفِظ لنفسه بشيءٍ، بل أعطى للإنسان كل شيءٍ. خلقهُ على صورتهِ كمثالهِ. نحن مدعوون لا لنكون بلا خطيئة، بل مدعوون أن نعيش البنوّة، لأن نكون قديسين. هذا ممكن إن آمن الإنسان بالله وبإرادتهِ المُحبّة وواصل الحياة مُصغياً إليه فيتحرر من "أناهُ" ليكون مُطيعاً للذي خلقهُ: "أما الذين قبلوهُ وهم الذين يُؤمنونَ بإسمهِ فقد مكنّهم أن يصيروا أبناء الله" (يو 1:12)
فالإنسان لم يرغَب بهذه الشراكة وفضل العيش وحيداً لأنه سمِعَ إلى همس الحية: المُجرب والتي يقول عنها الكتاب المُقدس: "أحيل جميع حيوانات الحقول" بمعنى: أكثرهم خبثاً. المُجرِب علّم أبوينا: إنكما لستما بحاجة إلى الله. الله ليس إلهاً موثوقاً به. هو لا يُريد لكما الخير. أنتما قادران على أن تكونا آلهةً من دون الله فتقرران ما الخير وما الشر. أصغى أبوينا الأولين إلى هذه الهمسات الخبيثة، ليجعلا من أنفسهما منافسين لله. بمعنى آخر: رفضا أن يقبلا وجودهما كـ"مخلوقين على صورتهِ ومثالهِ"، وهكذا أفسدا العلاقة مع الله، ثم سيُفسدان علاقتهما مع بعضهما البعض. لقد زرع المجرّب في الإنسان الشّك بالله: الله لا يُريد لكما أن تعرفا كل شيءٍ. الله يُريد أن يحافِظ على إمتيازاتهِ. الله ليس جديراً بالثقة وعليكما أن تعيشا حياتكما بعيداً عنه وإذا حاولَ أن يتدّخل فأعرفا أنه يُريد أن يسلبُ منكما الكرامة. ولم يعرفا أن الله دعاهما ليكونا آلهة ولكن به ومن خلالهِ، في الشِركة معه.
صدقَ أبوينا همسَ المُجرِب، مثلما نُصدقه نحن يومياً. إنسان اليوم مازال يحاول نفس التجربة: "يُريد أن يكون إلهاً يُعبَد من دون نعمة الله وعونهِ". خسر الإنسان صداقةَ الله وكانت النتيجة أن الإنسان بدأ يتهرّب منه خوفاً من المحاسبة، ويختبأ من الله خوفاً من العقاب، فلقد إنكشَفت الخدعة والكذبة، وإنتصر الخوف من الله ومن الآخر. كلّما أراد أن يُنصبَ نفسه إلهاً يُعبَد ينشر الرُعب والخوف والموت بين البشر. حياة الإنسان البعيد عن الله: خوفٌ وموتٌ، وعندما يرفضُ الإنسان الله، سيبدأ برفض القريب: "حواء: ليست العون الذي أريدهٌ في حياتي". قايين: "أنا لستُ حارساً على أخي". وهكذا دخلت الخطيئة بعصيانِ شخص واحد وإنتشرَت حتّى تُهلِكَ العالم (الطوفان 6: 13- 15). لقد رفض آدم أن يكون بقُرب الله. رفض أن يكون إبناً لله من خلال رفض أبوّة الله والعيش بعيداً عنه (لو 15: 11- 13): "لا أريد أن أكون في بيتِك، لا أريد أن تكون أبي، أعطينى الورث فأنت ميّت بالنسبة لي". هذه هي الإهانة التي يُوجهها الإنسان إلى الله في كل خطيئة يقترفها.
الإنسان إذن هو الذي قاطعَ الله، ولا يستطيع أن يُصالِح الله أو يعوّض عن الإهانة التي اقترفها ضدّ الله. ففي الإنسان إمكانية مقاومة الله ورفضه (الخطيئة الأصلية)، ورغبةٌ في الإنفصال عن الله، وعليه أن يسعى جاهداً ليتحرر من أثرِها وتأثيراتها ليكون حُراً لله، وهذا ما عجزَ عنهُ دوماً بنفسه فكان عليه أن ينتظر رحمةِ الله. ولأن الله محبّة، ومحبتهُ أبدعَت الحياة وخلقت الإنسان، ستغلبُ هذه المحبّة على خطيئة الإنسان بالرحمةِ التي يفيضها عليهِ ليحفظ له الحياة فلا يهلَك الإنسان بخطاياهُ. لا يُمكن للإنسان أن يعوّض عن الجرح الذي حصل في علاقتهِ بالله، وليس بمقدوره أن يُحقق هذه الشِركة، المجروح والمُهان هو وحده قادرٌ على أن يُعيد للعلاقة بهائها الأول بالغفران الذي يمنحهُ، شرطَ عودة الإنسان إليه لينعَمَ بهذا الغفران. فيُضحى الإيمان (الطاعة) شرطاً لإبقاء العلاقة وديمومتها. وسيقبلُ ربّنا يسوع المسيح الصليب ليُكشِف عن طاعةٍ تامّة لله بخلاف عصيانِ آدم، ويمنح من على الصليب غفرانهُ لمَن لا يطلبهُ.
محبّة الله أنقذت نوحَ وعائلتهُ من دمار الخطيئة، وعادَ الله واختارَ إبراهيم ليُبارِك به ومن خلاله جميع عشائِر الأرض. محبة الله تجاوزت للإنسان عصيانهُ وشروره، ووقفَ الله يقرعُ باب قلب الإنسان القاسي ليفتَح له الإنسان، وأعطى الله الإنسان الوصايا (الشريعة) بموسى ليُساعده ليضبُط إندفاعاتهِ وغرائزه فلا يتمادى في الشر، بل يعرِف كيف يُحافِظ على حقِّ الآخر في العيش كريما. وهكذا سيتمكّن من تحرير حياتهِ لكن يقومَ ويفتح الباب، حتّى يُنعِم الله على الإنسان بالسُكنى عندهُ. لن تكون الوصايا والشرائع سبب التبرير، بل وسيلة مُساعدة له ليتمكّن من القيام من الأسر الذي جعلَ نفسهُ فيه ويُحرر حياتهُ من القيود التي كبّلتهُ فيفتح الباب وينعم بالشِركة مع الله من جديد.
ولكنّ الإنسان أعترَف بأهمية وجود الإله في حياتهِ، ولكن أرادهُ إلهاً تحت سيطرتهِ، فيقول لنا الكتاب المُقدس أن بنو إسرائيل صنعوا عجلاً من ذهبٍ وسجدوا له. ذبحوا له الذبائح ليهدأ غضبهُ على الإنسان، عوضَ أن يُكملِ الإنسان إرادة الله ويقبَل صداقتهُ. وهي خطيئة أخرى: محاولة السيطرة على الله وإشراكُ آلهةٍ أخرى معه من صنعِ الإنسان نفسه. وهي رفضٌ لله من جديد، وتحريفٌ في هوية الله الذي ينتظر عودة الإنسان. فإلهنا ليس إلهاً ذبحُ له ليهدأ غضبهُ، بل هو إلهُ قدّم حياة إبنه يسوع المسيح لنهدأ نحن عن فوضويتنا ونعود إليه.
رفض السماع لله يعني لا يوجد حق ولا عدالة ولا رحمةٌ على الأرض، لأن الإنسان يرفض أن يعرِف الله ويعترِف به إلهاً أوحد: نشر الأكاذيب، التغاضي عن النهب، الفساد في القضاء، شهادة الزور، الرياء. الزنى وعدم الأمانة، القتل واغتصاب الحقوق، فلا حياة كريمة على الأرض، لأن الإنسان، كل إنسان يُريد أن ينصِب نفسه إلهاً. لذا، وقفَ الأنبياء ليدافعوا عن حقّ الله في الوجود إلهاً أوحد، وليُعيدوا إلى الإنسان الكرامة السلوبة بالخطيئة. كل خطيئة يرتكبُها الإنسان ستُدمّر حياتهُ لأنها تجرحُ قلبَ الله وتُهلِكَ حياة مَن يُحبهم الله؛ الفقراء والمساكين والمُستضعفينَ الذين يقعون ضحية شرّ الإنسان وقسوة قلبهِ (أوريا إنموذجاً). ربّنا يسوع يقول: من قلب الإنسان تنبعثُ مقاصد السوء: الفحش والسرقة والقتل والزنى والجشع والخبثُ والغشُ والفجور والحسد والنميمة والكبرياء (مر 7: 21- 23). وعلى الإنسان أن يسعى ليُحرر نفسه منها ليكون كلّياً لله. نفهمُ إذن لماذا قالَ ربّنا يسوع: "ما جئتُ لأبطِلَ الناموس بل جئتُ لأكملِ" (متّى 5: 17)، فكمال الناموس هو في محبّة الله ومحبة القريب.
ولأن الله محبّة فلا يستطيع أن يرى الإنسان يُدمّر ذاتهِ بنفسهِ، لذا، يُرسِل كلمتهُ من خلال أنبيائه ليُذكر الإنسان بضرورة التوقف عن الشر الذي يعملهُ ليعود إلى الله الذي يُحبه ومحبتهُ تغِفر له. توبة الإنسان ممكنة لا لأن الإنسان قادرٌ على التعويض، بل لأنه مؤمنٌ ومُؤَمنٌ بمحبة الله التي تُعينهُ على العودة وطلب صداقة الله من جديد. أن يقبَل أن يكون الله إلهاً أوحد، وأن يكون الإنسان عبدهُ ذي القب الجديد، قلبٌ آمينٌ يُصغي إلى كلمة الله ويعملُ بها، ليس لأنها مكتوبة على لوحين من حجرٍ، بل لأنها مكتوبة في القلب المُطَهَر بمحبة الله. محبّة الله ستجعلهُ يبحث عن الإنسان الضائع بعيداً عنه ليحملهُ ويعود به إلى الحظيرة ويستمتِع بالآمان مع الجميع تحت رعاية الراعي.
العودة إلى البيت الأبوي ضرورة للتنعمُ بالغفران الذي وُهِبَ للإنسان. يُبشر ربّنا يسوع بأن الطاعة لله ولما يُريده هو السبيلُ للتنعمُ بحياة أفضل للإنسان، بل أن الطاعة تصنع المعجزات مثلما حصل مع يونان وأهل نينوى، تابوا وجاءت توبتهم مثمرة. محبّة الله أمينةٌ مع الإنسان ولن تتغيّر بتغيّر الإنسان. خطايانا لا تُسيّر قرارات الله، لأن الله أرادَ أن يكونَ في شِركة مع الإنسان منذ البدء. إلهنا يستخدِم الخطيئة، وهي سلاحُ المجُرب، ليكشِف عن عظيمَ محبتهِ للإنسان، وفي ذلك يُجرّد المُجرّب من أسلحتهِ. محبّة الله تجعل التوبة ممكنة، وعلى الإنسان أن يُؤمِن بهذه المحبة ويعود إلى بيت أبيهِ ليستمتع بفرح البنوة من جديد. التوبة (العودة) ممكنة لأن الإنسان عارفٌ بأن الله سيغفِر له إذا سأل الغفران منه. التوبة تعني: وصلتُ إلى حقيقةٍ أنني لا أستطيع العيش كريماً من دون الله. كرامتي كإنسان مُرتبطة بكوني مخلوقُ الله ومحبوبهُ: "هذا هو إبني الحبيب عنه رضيتُ" (مر 1: 11). التوبة تعني أن أعيش هذه البنوة من خلال أسلوب حياة مُميّز: "يرون أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (متّى 5: 16).
فلا ينتظر الله منّا فعل التوبة والإهتداء إليه فحسب، بل العيش "أبناءً له، أحبائهُ". التوقف عن الخطيئة هي الخطوة الأولى، فهناك محبّة تنادينا، الإهتداء والعودة إلى الله الرحوم هي الخطوة الثانية لأن الله أعدّ عُرساً، الإستمتاع بفرحِ العودة هي الخطوة الثالثة والمُكمِلَة فالغلبة هي لله وليس للخطيئة. فصوم الباعوثا ليس لنُكمِل وصية الكنيسة فحسب، بل لنتوقّف عن الطريق الذي فيه ومن خلاله سنُدمّر حياتنا، ونعودَ إلى الله أبناء أحباء، ليُعلَن فينا ومن خلالنا إنتصار الله.
الأحد الخامس من الدنح
ولادة من الروح القُدس (يو 3: 1- 21)
إعتاد معلمو الشريعة والرهبان والنُساك أن يقضوا الليل في التأملِ في كلمة الله، مثلما تعوّد ربّنا يسوع أن يقضي الليل في الصلاةِ. هوذا نيقوديموس، أحد علماء الشريعة، إختارَ الليلَ ليأتي عند ربّنا يسوع المسيح، كلمةُ الله، ليُحدّثهُ عن علاقتهِ بالله والتي تحددت بمعرفته من خلال تطبيق لكل ما تُوصي به الشريعة. وإذا عرفنا أن ربّنا كان يقضي ليلهُ في الصلاة، فمعنى هذا، أن لقاء نيقوديموس كان لقاءَ صلاةٍ إلى الله إيضاً.
كانت علاقة نيقوديموس بالله علاقة معرفية من خلال إلتزام أسلوب حياة رصين ومتميّز (تطبيق لما تأمر به الشريعة) وعبّر عنها قائلاً: "نحن نعِرف" ولم يقل "نحنُ نؤمِن"، والحال أن إلهنا يبحث عن أكثر من معرفة الكُتبِ وكلام الأنبياء، وينتظر منّا طاعة الإيمان، طاعةٌ تتجاوز طاعةَ الأبن الكبير لأبيهِ الحنون (لو 15: 29). إلهنا يبحث عن لقاءٍ شخصي لأنه اختارَ أن يكون "إنساناً" بيسوع المسيح. ربّنا يبحث عن تباعةٍ وتلمذة صادقةٍ، فكلّمهُ عن الولادة الجديدة بفعل الروح القُدس. وهذا ما يجهلهُ معلّم الشريعة الذي صرّحَ في بدءِ الحديث: انه يعرِف. لذلِك، حدّثَ ربّنا يسوع المسيح نيقوديموس لا كشخصٍ بل كشعبٍ شاخَ ورفضَ التجدد والتغيير والإيمان بكلمة الله، يسوع المسيح، الذي أرسلهُ الله لا لليهود فحسب، بل خلاصاً للعالمِ أجمعِ.
أظهرَ نيقوديموس معرفةً ولكنّها معرفة يعوزها الإيمان، لذلِك دعاهُ ربنا يسوع إلى أن يلبَس الإنسان الجديد، أن يُولَد من جديد. أن يتركَ معرفتهُ جانباً وينحني متواضعاً ليؤمِن أن لله طُرقا ًليس كطُرقنا وتدابير ليست مثلُ تدابيرنا. لقد إعتادَ نيقوديموس أسلوبَ حياةٍ وتفكير باتَ يرى من الصعب عليه جداً أن يتغيّر ويقبلَ جديد الله، مثلنا نحنُ قد إعتدنا أسلوب حياة وطريقة تفكير، بل ألفنا خطايانا، فيصعُب علينا الإنتقالِ نحو حالةٍ جديدة، على الرغم من معرفتنا للحقيقةِ. لذا، طلبَ ربّنا يسوع من نيقوديموس، ومنّا، أن يتشجّع ويخرجَ إلى النور ليولَد ثانية بفعل الإيمان من دون خوف. فالمعرفة وإلتزامُ الطقوس لن تُقرّبَ الله إلى الإنسان، الله هو الذي نزلَ وتقّربّ من الإنسان، وينتظر الله قبول الإنسان له، وأن يفتح له باب قلبهِ ليدخل (رؤ 3: 20).
ولأن ربّنا يسوع هو "وجهُ رحمةِ الآب"، لم يترك نيقوديموس في حيرتهِ، بل رأى فيه أرضاً طيبةً يُمكن لها أن تُؤتي بثمارٍ حتّى وإن تأخرَ في الإنفتاح لنعمة الله. لقد بحث نيقوديموس عن الله من خلال قراءة الكُتب المُقدسة والتأمل فيها وتطبيق كل ما تأمر به الشريعة، ولكنهُ لم يستطع أن يلاحظهُ واقفاً أمامه في شخصِ يسوع المسيح، لأن قلبهُ لم يُفتَح للروح القُدس بعدُ. جاء نيقوديموس، إلى ربنا يسوع مُبدياً إعجابهُ بتعليمِه ومُقراً بسلطانهِ السماوي، فرأى فيه ربّنا أرضاً طيبةً فزرعَ فيها كلمتهُ وحمّلهُ تساؤلاتٍ ليتأمل فيها ويتخذ على ضوئها قراره الأخير: هل سيستجيبُ للبشارة أم سيرفضها؟ هل سينفتِح لها قلبُه ويؤِمن ويتحمّل كل ما تتطلّبه من مواقفَ، أم سيكتفي بما يعرفهُ هو عن الله ويواصِل العيش مُطيعاً للشريعة وأوامرها؟ لكنّ نعمةَ الله حلّت عليه ولن ترجِع فارغةً، فجذبتهُ، لذا، حضرَ عند الصليب وحملَ جسدَ ربنا وقدّم له الإكرامَ الواجِب غير آبهٍ بما سيقوله زملائهُ علماء الشريعةِ.
ونحن نسأل مثل نيقوديموس أيضاً: كيف تكون هذه الولادة؟ وما المطلّوب من نيقوديموس (ومنّا)؟
ما تتطلّبهُ هذه الولادة هو "الإيمان" بالخلاص الذي صارَ لنا بيسوع المسيح. والإيمان يتطلّب الإصغاء والطاعة: "ها أنا أمةُ الربّ فليكن لي حسبَ قولِك" (لو 1: 38). معرفة الله وحفظ الشريعة وكُتبُ الأنبياء ليس إيماناً، الإيمان هو أكثر من المحافظة على الطقوس. الشرائع والطقوس تُحدد محبة الله لنا وتجعل خلاصهُ مُحدداً بمقاييسنا، والله يُريد منّا كل شيءٍ: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ، وَكُلِّ نَفسِكَ، وَكُلِّ قُدرَتِكَ، وَكُلِّ فِكرِكَ، وَأَحبِب قَرِيبَكَ كَنَفسِكَ. أن تقبلَ خلاص الله بيسوع المسيح الذي جعلَ نفسه خطيئة من أجلنا، فكل مَن ينظر إلى صليب ربّنا سيتذكّر خطاياه التي جعلت يسوع يُصلب، مثلما رفعَ موسى الحيّة في البرية ليُذكِر الشعب المُتمرَّد بخطيئتهِ (عدد 21: 4- 9).
الولادة من الروح القدس تعني الإيمان والإيمان هو قبول الدخول في علاقة شخصية مع ربّنا يسوع المسيح، والسير خلفهُ مهمّا كلّف الأمر والاستعداد للتغيير الذي سيُحدثهُ فينا هذا اللقاء. هذا الإيمان يتطلّب شجاعةً وتفانياً وجهداً صادقاً يدفعنا لأن نقوم من حيثما نحن ونفتح باب قلبنا لله ليُعمذه بالروح القُدس، عطيتهُ التي ستُغيّر كلَّ حياتنا. والصعوبة تكمُن دوماً في رغبة القيام وفتح الباب، لذلك، يبقَ الله ينتظر طويلاً قبلَ أن يُفتَح له الباب. تطبيق الشرائع الإلتزام بالطقوس، يجعلنا في رتابةِ وروتين وهي شكلٌ آخر من أشكال الموت، أما الإيمان فيدفعنا للسير خطوات، لربما تكون جنونية، ولكنها تجعلنا أحياء بالروح القُدس الذي يُنعمهُ الله علينا. فلنُطلب من الله أن يهبَ لنا الشجاعة لأن نفتح أبواب قلوبنا له، ليُعمذها بروحهِ القُدوس، فنولَد فيه وله إنساناً جديداً.
الأحد الرابع من الدنح
"إفعلوا ما يأمركم به" (يو 2: 1-11)
لاحظت اُمنا مريم أن هناك عوزاً في الخمرِ في العُرس الذي دُعيت إليه مع ربّنا يسوع إبنها وتلاميذهُ، فشعرت بالحرج الذي سيختبره أهل العُرس، فما كان لها إلا أن ترفعَ الصلاة إلى ابنها وتعرض المُشكلَة: "لم يبقَ لديهم خمرٌ!" مؤمنةً أنه قادرٌ على إدامةِ الفرحةِ، لأنها هو المسيح، بُشرى الله لنا، فأوصت الخُدام: "إفعلوا ما يأمركم به، فكشفَت لنا عن هوية إبنها: إنه الله الذي يجب أن يُطاع. لقد ولدتهُ للعالم في ذلك العُرس، وعرّفته للتلاميذه، فأظهرَ مجدهُ وآمنوا به، فولدَت الكنيسة بإيمان مريم بقُدرة الله في ربّنا يسوع المسيح. في صلاتها له اليوم، إعترفت به "إلهاً" مؤمنة بأنه قادرٌ على أن يحوّل حياتنا إلى فرحٍ دائم، وستُرافقهُ وتقف عند صليبهِ واثقة من أن الله لن يتركَ الكلمة الاخيرة للخطيئة، لأنه عازمٌ على أن يتدخّل ويُديمَ الحياة لنا، ويحوّل عصيان الإنسان وتمرده إلى فعل إيمان وطاعة، ليكونَ الخلاص شاملاً والغفران نعمةً.
حملتنا أمنا مريم بما فينا من نقائص وعوزٍ وخطايا وجعلتنا في يدي إبنها، وعلّمتنا معنى أن نؤمِن؟ أقبل دعوة الله لك وكُن خادماً أميناً له. سلّم له حياتَك وأطعهُ في كلَّ ما يأمرُكَ به. إلهنا رحوم، ورحمتهُ من جيلٍ إلى جيلٍ لمَن يتقيهِ (لو 1: 50) فكُن مُستعداً لأن يكشِفَ فيك ومن خلالِك رحمتهُ، مهما كانت مُتطلّبة. هذا هو الإيمان الذي نفتقده مراراً كثيرة في حياتنا. إيمانٌ يبدأ عندما نُبالي بألمِ الناس وحاجاتهم، ونشعر بأحزانهم وهمومهم، ويرغب صادقاً في مُساعدتهم، فننسى حاجاتنا وألمنا، ونجعل من حاجات الآخرين أولوية في حياتنا فنرفعها في الصلاة إلى الله أبينا، ونمد أيدينا لنُعينهُ في مساعدة المحتاج. أمنا مريم لم تقف مكتوفة الأيدي أمام ضيق أهل العُرس، مثلما لم تتراجع أمام دعوة الله لها لتحملِ للعالم يسوع المسيح، وجه رحمتهِ، بل آمنت ووضعت نفسها في خدمة الآخرين. وهي تدعونا اليوم لنؤمن وأولُ أفعال الإيمان هو أن يكون لنا نظرةٌ تُبالي بما يُؤلِمُ الناس، ونهتَم بحاجاتهم، ونسعى إلى مُساعدتِهم.
هذا هو فعل الإيمان الأصيل. ربّنا يُريد منّا إيماناً مثلُ إيمانِ أمنا مريم يطلُب المُستحيل. إيمانٌ يُظاهي إيمانَ الخُدام الذين أطاعوا أوامر غريبةً للوهلة الأولى: ملءُ الأجاجين ومناولة رئيس المُتكأ. لم يسألوا عن معنى هذه الأوامر ولم يخشوا سخرية الناس، بل فعلوا ما أمرهم بهِ ربّنا فكانت الدهشةُ عظيمةً.
تقفُ مريم اليوم لتكون حواء الجديدة التي تقودنا إلى إلهنا في فعل طاعةٍ تامّة عارفةً أنه يُحبنا وأن العالم بحاجة إلى نظرة الله الرحومة، وإلى لمسته الحنونة، فحياتنا من دون لمسة الله حياة حزينة فارغة، وسُرعان ما ينفذ الفرح (الخمرُ) منها. حياتنا من دون يد الله حياة لا عيدَ لها لأن فرحتها ناقصة، حياتنا من دون نظرة إلهنا حياة أنانية لا عطاءَ فيها، لذا، فنحن بحاجة دوماً إلى أن نلتفِتَ إلى الله ليُبارك حياتنا، ونُقدم له فراغها ليكونَ فرصةً ليُظهِرَ مجده. وظهور مجد الله اليوم لم يكن مُرعبا أو مُخيفاً، ولم يقف ربّنا يسوع ليوبّخ أهل العُرس على نُقص تدبيرهم، بل مدّ يدهُ ليُبارِك الفرح بمزيد من الحنان، ويُؤكِد للإنسان أن الآب يُؤيد عودة الإنسان إليه ليُبارِك حياتهُ ويُديم الفرح عليه.
يُريد ربّنا أن يكونَ حاضراً بيننا، ويحب أن يُباركَ حياتنا، ولكنه ينتظر مجيئنا إليه، وينتظر أن نمُدَّ إليه أيدينا لنُساعده في خدمة الناس الذين َيُعانونَ الضيقَ والحاجة والألم والحزنَ. ليس لربّنا إلا أيدينا لتخدم فقراء الأرض ومعوزيها. ليس لإلهنا سوى حياتنا بكل ما تحمله من فقر ومحدودية، ليتدخّل مدافعاً عن المظلومين. ليس لربّنا إلا صوتنا الضعيف ليُبشّرَ بخلاصهِ بين شعبه. ربّنا يطلب منّا أن نتناول ما يُقدّمه هو لنا: ناولوا رئيسَ المُتّكأ ... فلا يُريد أن يبقَ بعيداً عنّا، ولكن يودُّ أن نعرفه، وأن نقترِبَ منه وأن نشربهُ، وهو لا يرفض ولا يستهزئ بما لدينا من إمكانياتٍ ومواهب ضئيلة: "ستُ أجاجينَ فارغة"، بل يأخذها ويُباركها ليكونَ فيها حياةٌ وحياةٌ وافرة. فمن دون هذا التعرّف وهذا الإقتراب لا يُمكن لنا ان ننعَمَ ببركة حضوره، إذ لا يكفي أن يكون ربّنا حاضراً بيننا، ولا يكفي أن يكون الكتاب المقدس في بيوتنا، بل علينا أن نأخذه، نقبلهُ، نؤمن بأن لنا فيه الحياة، والحياة بوفرةٍ. فلنتشجّع ونفعل ما يأمرنا به، مؤمنينَ به طريقاً وحقاً وحياة.
فلنحمل إلى الله أبينا أجاجيننا الفارغة مؤمنينَ أنه سيملأها بنعمتهِ. لنحمل إلى الله حياتنا ولنلتمِس منه أن يجعلها حياة خدمةٍ لكلّ الأخوة والأخوات الذين نلتقيهم. لنُصلِّ على نحو خاص من أجل كل إنسان يشعر "بفراغ حياتهِ من الفرح" ليتشجّع ويضعها أمام أنظار ربّنا ليُباركها بحنانهِ. لنُصلِ من أجل كل العوائل التي تشعر بنفاذ الفرح في بيوتها، ولكنّها نسيت أن تعرِضَ حاجتها أمام الله. لنُصلِّ إلى الله أبينا ليجعلنا على مثال مريم واسطة خيرٍ وفرحٍ في كلِّ أزمة نختبرها أو يختبرها قريبنا، فنضعها أمام عناية إلهنا ليُباركها بحضوره وكلمتهِ الحيّة.
الأحد الثالث من الدنح
"هذا هو حملُ الله الحامل خطايا العالم" (يو 1: 29- 42)
شهِدَ يوحنا عن يسوع أمام تلاميذهِ: "هذا هو حملُ الله الحامل خطايا العالم"؟ وما خطيئة العالم؟
"خطيئة العالم" هي رفض حضور الله في حياتهِ متوهماً بأنه "ليس مُحتاجاً إلى الله وهو قادرٌ على العيش من دون الله"، فلم يُصغِ إلى كلمتهِ ولم يقبل النور الآتي إلى العالم، بل أرادَ الإنغلاق على ذاتهِ. "خطيئة العالم" هي قسّوة قلبِ الإنسانِ وكبرياه وتشامخهُ وعجرفتهُ وغرورهِ والتي قادته وتقودهِ يومياً إلى أن يُصدّق الكذبة التي خدعَ بها المُجربُ أبوينا الأولين: "لن تموتا، ولكنَّ الله يعرف انكما يومَ تأكلانِ من ثمر تِلك الشجرة تنفتح أعينكما وتصيران مِثلَ الله تعرفان الخير والشر" (تك 3: 4). كذبةٌ هي سببُ تيهِ الإنسان وضياعهِ. أصلُ كل الشرور التي تُدمّر إنسانيتنا: الطمع والسرقة والكذب والجشع والزنى والحسد والأفكار الخبيثة ... خطايا تشوّه إنسانيتنا المخلوقة على صورة الله ومثالهِ، والله محبّةٌ. "خطيئة العالم" هي رفضهُ أن يكون صورة الآب الرحوم، فعدد الفقراء والمُشردين والمظلومين في زيادة. خطيئة العالم هي فقدان العالم، الشعور بالخطيئة ومحاول الاختباء منها أو التهرّب من مسؤولياتها. فإن سمعنا لشهادة يوحنا، فعلينا أن نقبل حقيقة "خطيئة عالمنا، وخطيئتنا"، ونبقى مع يسوع الذي يُنادينا: "تعاليا وأنظراً"!
شهد يوحنا لربّنا يسوع المسيح عندما أعلنَ "هذا هو حملُ الله الذي يرفع خطيئة العالم". سَمِعَ اثنان من تلاميذه شهادته، فتبعا ربّنا يسوع بناءً على هذه الشهادة التي جاءت من فمٍ موثوقٍ به. لقد تركا مُعلّمهم الأول، يوحنا المعمذان ليتبعا يسوع. يوحنا موجود ليُشيرَ إلى ربنا يسوع وعليه أن ينقُص ليزيد ربّنا ففيه الخلاص، فيختفي أمام ربّنا يسوع المسيح ليتركَ المجال كلّه للخلاص الآتي بيسوع المسيح. والخلاص يكون بالبقاء مع يسوع وليس السماعَ عنه فحسب. ربّنا يسوع المسيح يُعرِّف نفسه بطريقتهِ الخاصّة: "تعالَ وأنظر"، تعالَ وابقَ معي، تعلّم منيّ، فأن تكون مسيحي يعني أن تكونَ بقربِ الربِّ يسوع وأن يشهد الناس أنّكَ بقربِ يسوع، أن يكون لربّنا يسوع تأثيرٌ واضحٌ على حياتك، ويلاحظ الناس ذلك.
وجه ربّنا هذه الدعوة إلى التلاميذ الأولين فغيّر حياتهم من متفرجين ومُعجبينَ إلى رُسلٍ يتبعونَهُ ويسيرون في اثره، مُبشرينَ بالخلاصِ الذي اختبروه لأنهم بقوا معه على الرغم من عدم الإيمان الكامل والفهم الشامِل، على الرغم من الرفض والضيق والإضطهاد الذي اختبروه في حياتهم بسبب اتباعهم الرب. نحن مثلهُم نُفتّش عن يسوع المسيح، ونبحث عن خلاصنا، وفي لحظة لا نتوقّعها يأتينا صوت الله ليسألنا: ماذا تُريد؟ ماذا تطلب! ومعه تأتينا دعوة: تعالَ وانظر! إيماننا المسيحي لا يُبنى على أساس مجرد السماع عن يسوع أو إعجاباً به، بل اقتفاء اثره بأمانةٍ وإخلاص رغم المُضايقات والإضطهادات، وهذا يمنحنا الآمان في وقت الشدائد. يُروى عن أبٍ كان يودّع إبنه الذاهب إلى الحرب، فأوصاه قائلاً: يا بُني لا تتركهم يقتلوكَ! فسألهِ الأبنُ: يا أبي نحن ذاهبونَ إلى ساحة الحرب، ولسنا ذاهبين إلى ساحة لعبٍ ولهو، فكيف تطلب مني أن لا اتركهم يقتلونني؟ فأجاب الأب قائلاً: يا بُني كُنَ بجانب القائد، رافقه أينما يذهب وستنال حماية أكبر.
السؤال اليوم: ما الذي غيّرته شهادة يوحنا في حياتنا؟ نحن مع ربّنا يسوع لسنواتٍ طويلة، هل سمحنا له بأن يُغيّرنا فيجعلنا مثلهُ؟ هل صرنا أكثر تفهماً لحياة الناس من حولّنا؟ أوَ لسنا مُتسرعين في دينونة الآخرين ونصبّنا أنفسنا حُكاماً على حياتهم؟ كم من عوائل تتألم اليوم بسبب ثرثرتنا الفارغة وكلماتنا القاتلة؟ كم من عوائل تفّرقت بسبب تراكضنا خلف المال والامتيازات؟ كم من صداقات تهدمت بسبب إتهامات باطلة؟ مّن منّا له الجرأة ليرى خطيئتهُ ويُفكر جديا ًفي تغيير حياتهِ ويسمح لنعمة الله أن تُغيّره؟ إن كُنا نؤمنُ بأن ربّنا يسوع هو مُخلّصنا وهو حاملُ خطايانا، أولاَ يجدر بنا نحن أيضاً أن نحمل ضعفَ بعضنا بعضاً؟ فهل نحنُ مستعدون لأن نحمل خطايا مَن نعيشُ معهم ليجدوا في محبّتنا الخلاص من شرّ المُجرّب الذي يجّرهم إلى الخطيئة؟ مَن منّا له الشجاعة ليكون قبراً لثرثرات العالم البغيضة، وقصصهم القاتلة وكلماتهم الجارحةِ؟ هل تأملنا ملياً في الصليب الذي عليه سمّر ربّنا كل شرور العالمِ، بل حملها إلى الله لا دياناً بل طالباً لنا الغفران. فكيف أتجرأ فأدينَ الناس على خطاياهم وأفتخر بذلك وكأنها إنجازاتي الشخصية؟ ربّنا يُريدنا أن نحمل معه خطايا العالم، ونُكمِل في أجسادنا ما نقصَ من آلام المسيح، ونواجه الإهانة بالمودة، والإساءة باللطف. فهذا يُسهِمُ في تغيير المسيءِ وخلاصهِ من الشر الذي سجنهُ. ربنا يُريد أن يُخلصنا من تعب التراكض خلف وهم: "أنا الأول" "أنا الأهم" "أنا الأفضل"، ونقبل بإيمان: "أنا إبنُ الله المحبوبُ وهذا يكفيني".
لقد وجدَ الرُسل السلامٍ والراحة مع إلهنا، بل ينطلِق ليُعلِنَ البشارة: "لقد وجدنا الماشيحا"، المُخلِص، ويدعو آخرينَ ليأتوا إلى يسوع، وهكذا تُبنى الكنيسة. كنيسة مبنية من قلوب مؤمنين لا تقوى عليها أبواب الجحيم، لأنها كنيسة بشرٍ وليست كنيسة حجارة. الكنيسة التي جعلها ربّنا جسده، حيث يلتقينا ويُباركنا بحضورهِ. ولكن المطلب الأول هو أن نكون بقُربهِ هو وفي القُربِ منه أَمانٌ كبير.
الأحد الثاني من الدنح
"صار إنساناً: تجسّد" (يو 1: 1- 28)
اختارَ الإنجيلي يوحنّا عبارة: "صارَ إنساناً" ليُبعِدَ كل شكَّ عن إنسانية يسوع ويُعطينا الشجاعة للسير خلفهُ تلاميذ أمناء، فهو بكرُنا، مُحققينَ دعوة القداسة التي دُعينا إليها. "صارَ إنساناً" أي، واحّد منّا، فعاشَ على أرضنا المجروحةَ بالخطيئة وحوّل العصيان إلى طاعة، والتمرّدَ إلى إيمان، والعداوة إلى مُصالحة. ما كان مُستحيلاً على الإنسان أن يُحققه بنفسهِ، التبرير والمُصالحة، صارَ مُمكناً بيسوع المسيح، كلمةُ الله المُتجسَّد بيننا. "صار إنساناً"، يعني أن الإنسان قادرٌ على أن يسمع الله ويراه ويلمُسه على نحوٍ لم يكن ممكناً من قبلُ: "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، لأَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا. ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه، نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا لِتَكونَ لَكَم أَيضًا مُشاركَةٌ معَنا ومُشاركتُنا هي مُشاركةٌ لِلآب ولاَبنِه يسوعَ المسيح" (1 يوحنّا 1: 1-3). لأن إلهنا لا يُريد أن يبقَ في علياء سمائه بعيداً عنّا وعن مخاوفنا وقلقنا وأحزاننا، ولم يكن إلهاً متغافلاً عن ألمِ الإنسان وعذاباتهِ، بل كشفَ دوماً عن نفسهِ إلهاً يعتني ويُبالي ويسمعَ صُراخَ مَن يدعو إليه بإيمان.
إلهُنا وملكُنا صارَ إنساناً بيسوع المسيح لأنه يُريد أن يُباركنا مُحبّاً. ومحبتهُ هي التي تُبادر دوماً لتُقربّنا. "صارَ إنساناً" أي تجسّد لأنه يُحبنا، ولم تكن خطايانا سببَ تجسده، فخطايانا لا تُسيّر قراراتِ الله، فهو أعظم من خطاياناً. قصدَ الله الأول وإرادتهُ كانت وما زالت: أن يكون بيننا: "عمانوئيل". الله محبة، وقراره كان منذ البدء وسيبقى محبّة، وهذه بُشرى المسيحية: نحن أبناء الله، الله المُحِب: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله". قصدُ الله كان منذ البدء أن يكونَ مع الإنسان الذي أرادَ بكبريائهِ وتشامخهِ أن يبنيَّ عالماً خاصاً بهِ، عالماً من دونِ الله، عالماً من دونِ محبّةٍ، فأضحى عالمَ نزاعاتٍ وحروبٍ وخصامٍ، وعالمَ الأوبئةِ والمجاعاتِ، عالماً يصرخُ من ظلمِ الإنسانِ، وعالماً مُستعبداً للخطيئةِ. وعلى الرغم من النُصح والإرشاد والتوجيهِ الذي وجهّه الله للإنسانِ، من خلال موسى والأنبياء، إلا إنَّ هذا الإنسان لم يتب، فقررَ الله أن يرسَل إبنهُ إنساناً ليُعلمَ الإنسان أن يعيشَ كإنسانٍ، فتجسّد وشاركنا الحياة، فكانَ عظيماً بمحبتهِ التي جعلتهُ قريباً منّا.
"صار إنساناً"، تجسّد كلمةِ الله ليس ليظهِر ظهوراً عابراً في حياة الإنسان، أو ليحلَّ في جسدِ أمنا مريم العذراء فحسب. ولم يأتِ في زيارة قصيرة مدّتها 33 سنة، بل جاءَ ليكونَ معنا طوال الأيامِ (متى 28: 20)، "ومن فيضِ نِعَمِهِ نِلنا جميعاً نعمةً على نعمةٍ". تجسّد ربنّا ليحلَّ فينا وبيننا وينتظرنا أن نقبلهُ مثلما قبلتهُ مريم أمنا: "ها أنا خادمةُ الربِ فيلكن لي حسبَ قولِكَ" (لو 1: 38). وهذا هو الإيمان الذي يُريد إلهنا أن يراهُ فينا: نحنُ خُداّمهُ على الأرض من أجل الإنسانِ. "صارَ إنساناً"، تجسّد لأنه يُحبنا وجاء إلينا ليُعلّمنا كيف لنا أن نُحبهُ. إلهنا يُحبنا أولاً ويخلّصنا ثانياً، وليس خلّصنا أولاً ثم أحبّنا، فالخلاص هو ثمرة محبّة الله لنا.
"صار إنساناً" تجسّد ربنا يسوع المسيح، كلمةُ الله، لكي يُعلّمنا كيف لنا أن نسمع كلمة الله ونحياها في تفاصيل حياتنا اليومية. كيف لنا أن نتكلّم كلامَ الله، كلامَ المحبة والنعمة مع الإنسان القريب. "صار إنساناً" ليجعلَ كلامنا مع الله كلام شُكرٍ وحمدٍ ملؤه إيمانٌ ومحبة له. ويُصحح كلامنا مع الإنسان ليكونَ كلاماً صادقاً فيه الحياة والحقيقة. نحن لا نُحسنُ الكلام مع الإنسان مثلما لا نعرف كيف نحاور الله، لذا، فالله نفسه علّمنا كيف نُصلي إليه، وكتاب المزامير، وهو صلوات أوحيت لنا بالروح القُدس يُعلّمنا كيف نُصلي إليهِ، وكيفَ نحاورُ الإنسان بالمحبة.
فإذا تأملنا كلامنا اليوم تُرى ما الذي سنكتشفهُ؟ أهو كلامٌ صادقٌ مُحيي أم إفتراءٌ مميتٌ؟ عندما سألوا أحد أباطرة الصين: ما الذي يُمكن للإنسان أن يعمله ليجعل العالم حسناً؟ أجاب: أن يُغيّر كلامهُ؛ أي أن يُعطي للكلام معناه الحقيقي. لذا، شدد مار بولس على ضرورة أن يكون كلامنا نافعا، بل نعمةً في حياة الآخرين: "لا تخرجن من أفواهكم أية كلمة خبيثة، بل كل كلمة طيبة تفيد البنيان عند الحاجة وتهب نعمة للسامعين" (أفسس 4: 29). فالكلمة السيئة ستكون دوماً تلك الكلمة الخالية من المحبة، والكلمة الطيبة هي تلك الكلمة التي تُعطي الرجاء، وفيها الكثير من المحبّة فتهبُ الحياة. الكلمة السيئة تعبيرُ عن الظلمات التي فينا والتي تسعى إلى إخفاء النور الذي أنعمَ به ربّنا علينا، فتمنعنا من لقاءِ أخينا الإنسان بل تُبعدنا عنه.
فلنشكرُ الله على تجسده وظهوره بيننا إنساناً في يسوع المسيح، والذي علّمنا كم نحن بحاجةٍ إلى الله، إلى المحبّة. لنسمح لكلمة الله، ربنا يسوع المسيح بأن يُحولّنا إلى "كلمةُ الله" التي تبعث الحياة في كل إنسان نلتقيهِ.
الأحد الأول من الدنح
ربّنا يسوع: نداءٌ يدعونا للتوبة (لو 4: 14- 30)
كانت حياة ربّنا يسوع تحت قيادة الروح وإرشادهِ، فدخلَ ربّنا يسوع المجمّع يومَ السبت كعادتهِ لكي يُصغي إلى كلمة الله لا سامعاً فحسب، بل عاملاً بها ومُعلّما لها، فهو كلمة الله الحيّة. دُفعَ إليه سفر إشعيا ومنه أعلنَ البشارة: الله لم ينسَّ الإنسان لاسيما الفقيرَ والأعمى والمُضطهَد والمسكين والمأسور، ويُبشِرَ بسنة مرضيةً لله. السنة المرضية هي سنة اليوبيل، سنة تحرُر وخلاصٍ للعبيدِ وللأسرى وحتّى للأراضي التي أستُغلّت أو أُستُملِكَت خلال تسع وأربعين سنة (أحبار 25: 8- 55)، فيها يُعلِن الإنسان أن الأرضَ وما فيها مُلكٌ لله في إعترافٍ صريح بآلوهية الله المُطلقَة، وفي هذا الإعتراف ينالُ الإنسان كرامتهُ الحقيقية كونه مخلوق على صورةِ الله ومثالهِ (تك 1: 26). فعلى الإنسان أن يتخّذ قراراه إزاء هذا النداءِ الذي يُعلنهُ ربّنا يسوع فيستجيبَ له بالتوبة، أي العودةِ إلى الله، والحال إن الإنسان ليسَ مُستعداً دوماً لأن يعودَ إلى الله، فوبَخَ ربّنا يسوع أهل الناصرة لقساوة قلوبهم مُذكراً إياهم بما فعلهُ أهل إسرائيل أيام إيليا، فغضبوا منه فصارتَ توبتهم مستحيلة، فحاولوا أن يطرحوهُ من قمة الجبل، ولكنه جازَ بينهم ومضّى.
وَاصَلَ ربّنا يسوع إعلان البشارة فهو إبنُ الله الحبيب، ومحبّة الله غمرتهُ ولا يُمكنه أن يسترِيح أو يتراجع أمام عظمة هذه المحبّة. الله أحبَّ الإنسان ويُريد خلاصهُ، ومحبتهُ أقوى وأعظم من كل خطايا الإنسان، شرطَ أن يفتح الإنسان قلبهُ لرحمة الله. تمتلكُ المحبة قوّة لا يقوى عليها الشّر بكل ما له من سلاحٍ من غضبٍ وحقد وكراهية وعداوة شرطَ قبولنا هذه المحبة بإمتنانٍ وشُكرٍ على الرُغم ممّا نختبرهُ من ضيقٍ وصعوباتٍ. يروي لنا آباؤنا الروحيون عن حادثةٍ حدثت في قديم الزمان في سوقٍ لبيع الرق (العبيد)، أشبهُ ما تكون بالمعجزة. إذ جرت مزايدة بين رجلين لشراء صبيةٍ في ريعانِ شبابها. تميّز أحدهم بالقسوةِ، فيما كشفَ الثاني عن وجهٍ أكثر رقّةً وإنسانية فزايدَ عليها حتّى فازَ بها. نظرت إليه الفتاة والغضبُ على مُحيّاها لأنها صارت عبدة له مفتكرة بما سيكون حالها بعد أن دفعَ فيها كل هذه الأموال. ولكنَّ الأحوال تغيّرت بعدة لحظات، لأن المالكَ، وبمرأى من الجميع مزّق صكَّ المُلكية ونظرَ إليها مُبتسماً: "أنت منذ الآن حرّة وليس لأحد سُلطانُ عليك بعد اليوم، فقد صممتُ أن أُسدد الثمنَ مهما كان غاليا ًلكي اُحررك". فألقت بنفسها على قدميهِ والدموعُ في عينها وهي تقول: "سيّدي، أتبعُكَ حيث تمضي، وأُريد أن أخدمك طوال حياتي". فما لم يقدر صكّ الملكية أن يفعلهُ فعلتهُ المحبة.
السؤال هو: لماذا غضِبَ أهل الناصرة عندما ذكّرهم ربّنا يسوع بما حصلَ أيام إيليا؟ وهل صارَ صوتُ الله مُزعجاً لدرجة أن الإنسان يحاول التخلّص منه؟ هل أن التوبة أضحت مُستحلية على الإنسان اليوم؟
إنتظرَ أهلُ الناصرة مُعجزاتٍ مُبهرة من ربّنا يسوع، وكان ربّنا ينتظِر منهم معجزة التوبة والعودة إلى الله ليعبدوهِ بالروح والحق، وهذا لم يحصَل، فنالوا توبيخاً منه مثلما وبّخَ إيليا الشعبَ الذي كان يتأرجح في عبادتهِ لله إذ كان يتردد إلى معابد البعل تاركين وصايا الله (1 ملوك 18: 18). ربّنا لا يتطلّع إلى أن نكون مُعجبينَ بكلامِ النعمة الذي بشّرنا به فحسب، بل يُريدنا صادقين في علاقتنا معه. والصدق يتطلّب تغييرا جذرياً فيما نُفكّر فيه ونصنعهُ، والتغيير يبدأ عندما نشعرُ بحاجتنا إلى الله وأننا أخطأنا فنشرَع بمحاسبةِ أنفسنا بذات الحماس الذي نُحاسِب فيه عادة الآخرين وندينهم. محاسبةٌ لا نسعى فيها تبرير أخطائنا وإلقاءِ اللوم على الناس أو الظروف بل بتحمّل مسؤولية خطايانا، وهذه بداية صحيحة لتوبة صادقة. فأولى خطوات القداسة تبدأ بإعترافنا بأن الله صالحٌ ونحن خطأة لا نستحقُ غفرانهُ.
نحن نؤمِن بالتوبة وضرورة التغيير ولكننا لسنا مستعدين لها دوماً، أو ننتظرها من الآخرين حصراً، فلا نلحظٌ الخشبة التي في أعيننا والتي جعلتَ حياتنا ظُلمةً، وإن لاحظناها فسنُبرر ذلك بأنها نتيجة سلوكيات الناس تجاهنا، وليس لنا التواضع والشجاعة لنقول: أنا أتحمّل مسؤولية خطاياي. أو ترانا أحياناً نتطلّع إلى تديّن يُريحنا ونسعى إلى "المساومة" مع الله مُستغليّن محبتهُ التي تغفر لنا خطايانا. فمعَ إيماننا بأن فكرةً أو قولاً أو فعلاً هو خاطئٌ ومُهينٌ لله وللقريب، إلا أننا نواصل العملَ به مُفتَرضينَ أن الله سيغفِر لنا، بل أن البعض منّا يسعى إلى أن يطرحَ الله عن حياتهِ فلا يُزعجهُ بضرورة التغيير مثلما فعلَ أهل الناصِرة، فيكتفي بإشعالِ الشموع أمام العذراء أفضل من أن يجعل حياتهُ شمعةً تحترق أمام الله وأمام القريب.
فلنُصلِّ إلى الله أبينا ليهِبَ لنا نعمة الشجاعة فنبدأ بدينونةِ أنفسنا أولاً، ونرى واقعنا مثلما هو، لا مثلما نتخيلّه أو نُريدهُ، فلا نتهّرب من نداءِ التوبة من خلال التفكير في أخطاء الآخرين وخطاياهم والحديث عنها في المجالس أو في لحظات صلاتنا إلى الله. لنترِك ذلك لله فهو الإله وهو الديّان. لنُطلُب منه بإلحاحٍ أن يُباركنا بأن يُنعِمَ علينا بنعمة التوبة فنفتح له قلوبنا، ونخدمهُ محبةً مثلما اختارنا محبةً. هذا ممكن لأننا عارفونَ أن رحمة الله تقبلنا، وهي أعظمُ من خطايانا.
عيد الدنح
صيّرنا أبناء له بيسوع المسيح (متّى 3: 1- 17)
ما الذي حصلَ يومَ عماذ ربّنا يسوع؟ السموات إنفتحتَ وصوتٌ من السماء يقول "هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررتُ". لقد فتح لنا ربّنا يسوع السموات التي أُغلِقَت يومَ طُرِدَ آدم من الفردوس (تك 3: 23- 24)، ليعودَ إليه الإنسان بيسوع المسيح. لم يكن تجسّد ربّنا يسوع، أي إتخاذه إنسانيّتنا، ليُظهِرَ مجدَ آلوهيتهُ، بل لأنه أرادَ أن يتضامَن معنا ويُعيدُنا إلى حياة الشِركة التي فُقدَت بالخطيئة والعصيان. صارَ إنساناً ليصيرَ الإنسان إلهاً مثلما يُعلّم آباء الكنيسة. في العماذ كشفَ ربّنا يسوع المسيح عن تضامنهُ الكامِل معنا، نحن الخطأة، فسارَ نحو يوحنّا ليقبلَ منه معموذية التوبة التي نادى بها، ليُصادِق ويُثبِتَ رسالةَ يوحنا على أنها دعوة صادقة ومُلّحة ولا مجال للتأجيل: "توبوا فقد إقتربَ ملكوت السموات". فبدأ يسوع زمن الله، زمن الخلاص. الدعوة إلى التوبة والعودة إلى الله تسبق التهديد بالعقاب على الخطايا، ليُثبِتَ لنا جميعاً أن الله ينتظرُنا، فتوبتُنا لن تكون مُبادرَة منّا، بل جواباً لنداء الله الآب.
تجسّد الله وتضامنه معنا لم يكن في أن يكونَ واحدّ منّا فحسب، بل صارَ بكرنا يتقدّمنا نحو الآب، وهو الله المحبّة بيننا. ففيه ومن خلالهِ صِرنا أبناء الله الآحباء، فنعيشَ الحياة شاكرين الله على هذه النعمة في أسلوبِ حياة متميّز، حياة أبناء الله على مثال ربّنا يسوع المسيح. التوبة ليست أن نكون صالحين ليكون الله صالحاً معنا، بل سنكون صالحاً لأن الله هو صالح معنا، فقبِلَنا أبناءً له بيسوع المسيح بكرنا، وسنكون صالحين جواباً للمحبّة التي أُفيضَت علينا. تضامُن الله مع الإنسان جعلتهُ يغطُس، ينغمِس في واقع حياتنا، فلم يتظاهَر الله في إنسانتيهِ، بل كان إنساناً حقاً، يشعُر أنه خاطئ. نحن لسنا أمام تمثيلية فيها يُمثل يسوع دوراً لا يُمسهُ عميقاً. نحن أمام تدبير إلهي فيه ينزِل الله من علياء سمائهِ ليكونَ معنا، ويقولَ لنا: أنه مع الإنسان في كلَّ واقعهِ، قريبٌ منه ولن يتركهُ حتّى يعودَ به إلى قلبهِ، هكذا يتحقق الخلاص لا من خلال تطبيق الشريعة، بل من خلال السير خلفَ يسوع المسيح.
نادَى يوحنّا بمعموذية التوبة والتي أكدت عل غفران الله فيعدِل الإنسان عن طُرق حياتهِ الخاطئة مُعترفاً بخطاياهُ، ليقبلَ بمعموذية ربّنا يسوع: "بالنار والروح" نعمةً فوق نعمة، مثلما أشارَ يوحنا في إفتتاحية إنجيلية (يو 1: 16). بيسوع المسيح صِرنا أبناء الله، وهِبَت لنا نعمةَ البنوّة إذ يُشرِكنا في حياتهِ، ويطلُب منّا أن نُصلي إلى الله مثلما صلّى هو: "أبانا". "أما الذين قبلوهُ وهم الذين يؤمنونَ بإسمهِ فقد مكّنَهُم أن يصيروا آبناء الله" (يو 1: 12).
كيف لنا أن نعيشَ هذه البنوّة؟
أولُ خطوّة نلتزمُ بها هي: إقرارُنا بأننا خطأة، وبحاجة إلى النزولِ إلى مياه التوبة. هذا الإعترافُ مُمكِن لأن نداءَ التوبة الموجَه لنا هو آتٍ من محبّة الله التي لا يُمكن لها أن تتركُنا حيثُما نحن. فكلُّ شيء وهِبَ لنا نعمةً من دون إستحقاق منّا، ولذلك نُعمّذ ونحن صغار قبل أن نُؤتي عملاً صالحاً أو طالحاً. نحن أبناء الله لأن الله خلقنا لنكونَ كذلِك، هذه هي دعوتنا في الحياة. يقول متّى الإنجيلي أن يوحنّا كان يكرِز في البرية، أي خارجَ المدينة التي فيها هيكلُ الله الذي يأمهُ الناس إكراماً، ولكنهم يعبدونَ آلهة آخرى إلى جانبهِ. فكان لزما عليهم الخروج إلى البرية ليُؤكدوا إيمانهم بالله وحدهُ، وليُؤكِد الله على اختيارهِ وتكريسهِ لهم من خلال "ظهورهِ" بيسوع المسيح. نزولُ ربّنا يسوع إلى مياه المعموذية أكّد على صدقَ مناداة يوحنا: الإنسان خاطئٌ وبعيدٌ عن الله، وهو بحاجة إلى العودة إليه.
وتلي الخطوة الأولى خطوةٌ ثانية مُكمِلَة لها: أن نعيشَ حياتنا حسبما تقتضيهِ دعوتنا، نحن آبناء الله. فالمعموذية التي نلّناها بيسوع المسيح ليست لتجعلنا صالحينَ، بل أن نعيشَ حياتنا كأبناء الله فيُمجدهُ فينا ومن خلالنا. فبيسوع المسيح صِرنا أبناء لله وإخوة له يسوع ورُسلَ محبتهِ. لقد أدخلنا في حياة الثالوث. دعوتهُ لنا هي: أن نُكمِلَ ما بدأ به ربّنا يسوع المسيح، بكرنا، ملكوتُ الله. فنحنُ لسنا مدعوون إلى التوبة فحسب، بل دُعينا للقداسة أيضاً.
القداسة هي دعوتنا وهي ممكنة إن حققنا واقعاً الـــ"نَعَم" والــــ"لا" التي قالها بدلاً عنّا عرابُنا يوم قُدمِنا للعماذ ونحن صغارٌ. نعم لله الآب، فنعبدُ بالروح والحق ولا نعبُد آلهةً أخرى غيرهُ. نعم لربنا يسوع مُخلصاً لنا فنسير خلفهُ أمينينَ لدعوتنا. نعمَ للروح القُدس الذي أفاضهُ الله الآب علينا ليجعلنا شهودَ محبتهِ. لا للشيطان وأباطيلهِ وتجاربهِ التي تُبعدنا عن الله. نعمَ للحقيقة. نعم للمحبة. نعم للسلام. نعم للرحمة. نعم للغفران. نعم للصدق. نعم للأمانة. نعم للإخلاص. نعم للإحسان بسخاءٍ. ولا للخطيئة. لا للحسد. لا للغضب. لا للحقد. لا للتسلّط. لا للكذب. لا للخداع. لا للغش والمراوغة. لا للجشع.
الأحد الثاني من الميلاد
تقدمة يسوع إلى الهيكل (لوقا 2: 21- 52)
بعد أن إكتملَت الأربعين يوماً بعد الولادة صعد مريم ويوسُف والطفل إلى أورشليمَ ليُكملوا ما أوصت به الشريعة من طقوس تطهيرٍ وإفتداء الذكرُ البِكر الذي يُعد مُلكاً لله لأنه الله حفِظَ أبكار إسرائيل يومَ خروجهم من أرضِ مصر. قدّمت أمنّا مريم ذبيحةَ تطهيرٍ: زوجي يَمامٍ أو فرخي حمامٍ، وهي الذبيحة التي يُقدّمها الفقراء عادة، ليقول لنا الربُّ وعلى لسان الإنجيلي لوقا، أنه حلَّ فقيراً بين الفقراء لأجل الفقراء. من الواضح جداً أن النص أن يسوع ومع أنه البكرُ لم يُفتدَى، أي لم يدفع يوسف ومريم مبلغ الفدية للكاهنِ، بل قُدِمَ للهيكلَ، وُهِبَ تقدمةً، فلم يعد مُلكاً ليوسُف ومريم، بل هو مُلكُ لله.
الله نفسهُ يُقدِم يسوع "تقدمة" لنا ويوحّد الجميع في أفخارستيتهِ، فيتحقق لقاء الله بالإنسان الباحِث عنه لا بجهدٍ إنساني، بل بنزول الله، بتجسدهِ، ليُبهِجَ قلبَ الإنسان. ربّنا يسوع هو الإنسان الصاعِد للقاء الله في هيكلهِ، وهو الله النازِل للقاء الإنسان في تقدمةِ حياتهِ، فيجعل من جسدهِ "الهيكل الحق"، لا هيكل الذبائح بل هيكل اللقاء. إلهٌ حق وإنسانٌ حق. ولا يُمكن أن يكون هذا اللقاء حقيقيا ًبمعزل عن الألم والصليب وهذا ما أعلنهُ سمعان الشيخ صريحاً؛ هو المسيح المُخلِص من خلال ألمِ الصليب. هو كلمةُ الله الحاسِمة في التاريخ.
ولكننا نُريد اليوم أن نتأمل ما الذي حصلَ في الهيكل؟ كيف تعرّف سمعان وحنّة النبية على الطفل "النور والمُخلَّص" من بين عشراتِ أو لربما مئات الأطفال الداخلين إلى الهيكل؟ من هو الفاعِل الحقيقي في الهيكل، أهوَ الإنسان أم الله؟ لنسأل بعدها: ماذا عن حضورنا إلى الكنيسة؟ وما الذي يحصل عندما نشترِكُ في القُداس؟
يُجيبُ لوقا الإنجيلي: أن الروح القُدس هو الذي وجّه سمعان لإيقافِ مريم ويوسف وطلبَ احتضان الطفل، وأنشدَ فيه ومن خلالهِ نشيد العزاء، وتنبأ أن الطفلَ سيكون "كلمة الله الحاسمة" في حياة الإنسان. كلاهما: سمعان وحنّة، وغيرهم مِمَن كانوا ينتظرون "إفتداء أُورشليم"، مجدّوا الله للخلاص الذي صارَ بيسوع المسيح. الروح القُدس، روح الله هو الذي صلّى فيهم ويُصلي فينا لأننا لا نُحسنُ الصلاة مثال علّم بولس كنيسة روما (روم 8: 26). الله نفسه أرسلَ روحَ إبنهِ في قلوبنا، الروح الذي يُنادي "أبّا"، يا أبتِ (غلا 4: 6). هذا ممكن فقط لمَن ينتظر الله. لمَن يصعَد إلى هيكلهِ ليُصلي إليه مُمجداً ومنتظراً خلاصهُ. والحال، نأتي إلى هيكل الله، كنيستهُ، ونخرج من دونَ أن نشعُر بأي تغيير حصلَ فينا، والسبب: لأننا ندخلُ الكنيسة متدينين لا مؤمنين. ندخلها لدوافع وغاياتٍ كثيرة متناسين الدافعَ الأهم: الله. لذلكِ، لا نشعرُ بالسلامِ الذي اختبرهُ سمعان وهو يحتضِن الطفل، مع أننا نُشارِك في أفخارستيا ربّنا يسوع عشرات المرات في السنة.
لقد بيّن لنا سمعان وحنّة أولوية الله في حياتهما، وإنتظرا الله لسنواتٍ طويلة مؤمنين أنهما سيحظيان بلقائهِ. هذا الإيمان لم يكن أمنية، بل رجاءٌ غيّر حيّاتهما كُلياً فعاشا بالتقوّى والبر. بالصوم والصلاة والسهر. كان صعودهما إلى هيكل أورشليم حجاً للقاء الله الذي سيأتي مُخلصاً للعالم. لم يكن صعودهما طلباً لحاجةٍ شخصية أو لإستعراض الهموم والمخاوف. حجهما كان من أجل الله وحدهُ، فنالَ العزاء في قبولهما المُخلِص. جعلاَ من زيارة الهيكل بحثاً عن الله الذي خرجَ يبحث عنهما، وآمنا أنه آتٍ لنجدتهما. فالعبادة ليست حاجة إنسانية علينا أن نؤديها فرضاً، بل بحثٌ عن لقاءٍ مع الله. الله المحبة، والمحبة ليست فكرة أو شعور، المحبة هي الله الذي صارَ بشراً بيسوع المسيح، والذي يدعونا أيضاً لأن نعيش المحبة متجسدة في حياتنا. نحن نتقدّم إلى الله طالبينَ الغفران شرطَ أن لا يفتح قضايا تخص علاقتنا بالآخرين الذي نكرههم. نتلمس حنانهِ ولكننا نرفض أن يسألنا عن غضبنا الداخلي على فلان أو فلان. نتضرع إليه أن يُسامحنا عن زلاّتنا مؤكدين له أننا لن نسامح هفوات الآخرين ضدّنا. بالحقيقة نحن نسأل رحمة الله وغفرانهُ، ولكننا لا نستحقهُا، فظُلمتنا تحجبُ نورهُ. لقد شعرَ سمعان، وهو التقي البار، بأنه يعيشُ ظلمةً يحتاج فيها إلى نورِ الله، وها هو يقبلُ هذا النور نعمةً: "نوراً يتجلّى للوثنيين"، لذلك نحتفل بعيدِ سمعان الشيخ حاملين الشموع، لأنه علّمنا مَن هو النور الحق: يسوع المسيح.
اليوم يسألنا سمعان: عن ماذا تبحث عندما تأتي إلى الكنيسة؟ هل تنتظر الله أم تنتظر هبةً منه؟ هل تشعر بحاجتِك إلى الخلاصَ أم تعوّدت الذهاب إلى الكنيسة؟ هل تعرّفت على "ظُلمة" قلبِك وقساوتهِ لترى بنور الله، يسوع المسيح، أم إنك تبحث عن أنوارٍ اخرى؟ هل تؤمِن أن حضورَك القُداس هو حجٌ نحو القداسة، للقاء الله المحبة، أم طاعة لوصايا الكنيسة تجنباً للعقاب؟
ربّنا يسوع نورٌ العالم، إسمح له بأن يُنير قلبَك، وأمدد يدَكَ وأقبلهُ، هو أرادَ أن يكون صغيراً (قُربانة)، ولكنه قادرٌ على أن يصنعَ فيك ومن خلالِك المُعجزات، فأفتح له قلبكَ وذراعيكَ.