الأول من البشارة
قصّة ربّنا يسوع وقصّتنا (لو 1: 1- 25(
"لَمَّا أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةَ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا، كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها، رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا تاوفيلُسُ المُكرَّم، لِتَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم" (1:1-4). بداية تَبرزُ مكانةَ تأوفيلوس في حياة لوقا الإنجيلي، فهو صديقٌ مكرّمٌ جداً، ويستحق أن يُهدي له لوقا ما يستحقهُ، فوجدَ أن قصّة حياة ربّنا يسوع هي أعظمُ هدية يُمكن أن يُقدِمها لشخصٍ عزيز على قلبهِ. صداقة تأوفيلوس مهمّة بالنسبة للوقا، ولكن الأهم هو "الحياة" التي إكتشفها بربّنا يسوع المسيح والتي جاءت نعمةً من الله: "بُشرى سارّة".
تبدأ هذه القصّة بمبادرة الله تجاه الإنسان؛ زكريا الذي اقتربَ من خاتمةِ حياتهِ على الأرض ولم يكن يترجّى منها شيئاً، لكنه صلّى طويلاً من أجل أن تنالَ زوجتُهُ اليصابات طفلاً، وواصلَ الصلاة وحياة البِر على الرغم منّ أنه كان يعتقد، ولسنوات طويلة، أن صلاتَهُ غير مُستجابَة، وها أنّ الله يُفاجئه بما لم يكن يتوقعهُ، فهو لم ينسَهُ بل سمِعَ صلاتَهُ: "لا تَخَفْ، يا زَكَرِيَّا، فقدَ سُمِعَ دُعاؤُكَ وسَتَلِدُ لكَ امَرأَتُكَ أَلِيصاباتُ ابناً فَسَمِّه يوحَنَّا". لقد صلّى ولسنوات طويلة لِتَنعَمَ اليصابات بمولودٍ يُفرِحُهُما، فنالَ ما هو أعظم، لأنَّ يوحنّا سيكونُ مبعثَ فرحٍ لهما ولكثيرين أيضاً، بل سببَ فرحِ الله: "وسَيلْقى فَرَحاً وابتِهاجاً، ويَفرَحُ بِمَولِدِه أُناسٌ كثيرون. لِأنَّه سيَكونُ عَظيماً أَمامَ الرَّبّ". طفلٌ ونبيُّ لله.
لقد أنعمَ اللهُ على زكريا الكاهِنِ بما لم يكن يتوقَّعْهُ مطلقاً، فكل شيءٍ إنتهى بالنسبة له ولزوجتهِ، ولم يَعُدْ يُفكِر يوماً بأنه سيحصل على هذه النعمّة. لكنَّ اللهَ العجيبَ في تدبيرِهِ أعدَّ له مَهمّةً كبيرة، فهذا الصبي يُمثِل إستجابة الله لصلاتهِ وهو مُكرسٌ لدعوةٍ خاصّة، فالله اختارهُ ليبدأ مع شعبهِ مسيرةَ تحقيقِ الوعد. فعلى زكريا أن يكونَ مستعداً لأن يستقبل نبيَّ اللهِ يوحنّا، الذي سيكونُ خادِمَ اللهِ في مساعدة الناس ليتوبوا ويكونوا شعباً له: "لِيَعطِفَ بِقُلوبِ الآباءِ على الأَبناء، ويَهْديَ العُصاةَ إلى حِكمَةِ الأَبرار، فَيُعِدَّ لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّباً". لذا، عليه أن يكونَ هو نفسُهُ مُستعداً لاستقبالِ حضورِ اللهِ في حياتهِ من خلال "الصمت"، ليُصغيَ باٌنتباهٍ إلى تدبيرِ اللهِ الخلاصي. من دونِ هذا الصمت لن يكونَ بمقدورِ زكريا واليصابات أن يفهما عمقَ هذا التدبيرِ الإلهي. نفهمُ الآن لمّا كانَ الصمتُ ضرورةً لزكريا، فضجيجُ العالم من حولهِ، وفوضى الأفكارِ فيه تمنَعُهُ من رؤيةِ فعلِ اللهِ الخلاصي، لا سيَّما وأنه، ومثلما نفعل نحن، عندما نحضر للصلاة، أمام الصلاة نبقى منشغلين بما نُفكّر فيه ونتمنّاه لحياتِنا.
اليومَ، يدعونا إلهُنا وملكُنا، من خلال التأمل في كلمتهِ، إلى المُثابرة في مسيرةِ الإيمان على الرُغم من الفتراتِ العصيبة التي نختبرُها في مسيرةِ حياتِنا الروحية. نحن نحزنُ، ولربَّما نغضبُ، لغيابِ اللهِ وصمتهِ إزاءَ الضيّقِ الذي نُعاني منه. نُزعِجُهُ في صلاتِنا وتضرعاتِنا ونشعرُ أنه لا يُبالي بما نختبرهُ من ضيقٍٍ وحزنٍ وألم. نعتقدُ أنَّنا مَنَسيّونَ من قبِل إلهنا، أو على الأقل أنَّ ما نطلبُهُ ليسَ ذا أهميةٍ لديه. لِذا، يُعلّمُنا زكريا اليوم، أنَّ للهِ تدبيراً لنا وسيَكشفهُ لنا في حينهِ، فعلينا أن نُثابِر على الصلاةِ، فنُظهِرَ بذلِك موقفَ إيمانٍ باللهِ الذي نُحِبُّهُ ونعبدهُ لمحبتهِ الأبوية ولصلاحِهِ، وليسَ لِما يهبُهُ لنا.
ربُّنا يدعونا أيضاً إلى الصمت من أجلِ إفساح المجالِ له ليتكلّمَ إلينا ويكشِفَ لنا تدبيرَهُ الخلاصي، مؤمنينَ أنه يُريدُ لنا الخيرَ دوماً. صلاتُنا ليست حواراً مع اللهِ الآب، بل حواراً مع الذاتِ أمامَهُ. إننا لا نُحسِنُ الصلاةَ ونواصِلُ الحديثَ عن أنفسِنا وهمومِنا وأحزانِنا وطموحاتِنا ورغباتِنا. لذا، فالصمتُ خطوةٌ مهمّةٌ من أجل الإصغاء إليه، ويكون هذا الصمتُ بركةً في حياتنا وعلامةَ رجاءٍ في حياةِ الآخرين: "فلَمَّا خَرَجَ لم يَستَطِعْ أَن يُكَلِّمَهم، فَعَرَفوا أَنَّه رأَى رُؤيا في المَقدِس". كم مِنّا يتأسفُ اليومَ لأنه لم يلزََمِ الصمتَ في حدثٍ مضى، فأساءَ بكلامهِ لنفسه وللآخرين. فالصمتُ يمنحُ الإنسانَ فرصةً للتأمل في الخبرات التي يعيشُها. لذا، دخلَ زكريا في فترةِ صمتٍ لتسعةِ أشهرٍ، والتزمت إليصابات الصمتَ لخمسةِ أشهرٍ، فالله أعطى لها نعمةَ الأمومة، فأعطت له حياتَها كلَّها.
ربُّنا يدعونا أيضاً كي نسعى لنعيشَ حياةً تكونُ بركةً لكلِّ مَن يتعرّف عليها. لقد كشفَ لنا لوقا الإنجيلي أنَّ حياةَ ربِّنا يسوعَ المسيحِ هي أعظمُ هديةٍ من الله للإنسان، وهو يدعونا لتكونَ حياتُنا بكلِّ تفاصيلِها "هديّةً". لربّما نقولُ: حياتُنا لا نفعَ لها، فخطايانا كثيرةٌ وفشلُنا عظيمٌ وتقصيرُنا كبيرٌ ولا صلاحَ فيها. ربّنا يكشِف لنا دوماً أنه ينتظِرُ منّا جوابَ الإيمان، أن نُسلِمَ لهُ حياتَنا بكلِّ ما فيها من ضعفٍ وخطيئة، وسيجعل منها قصّةً رائعةً مثلما فعلَ مع زكريا وأمِنا مريمَ وجميعِ قديسي الكنيسة: "إنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمةً: قُدُّوسٌ اسمُه". ومن أجلِ أن نكتشِفَ عظيمَ أعمالِ الله في حياتِنا، علينا أن نصمُتَ ونبحثَ بتيقّظٍ عن علاماتِ حضورهِ بيننا، لأنه أمينٌ في وعدهِ، هو عمانوئيل: الله معنا.
الأحد السابع من إيليا والرابع من الصليب
مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟ (متى 18: 1- 11)
تقدّم الرُسل من ربّنا يسوع وسألوهُ: مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟ ففيهم (مثلما هو فينا جميعاً) طموحٌ ورغبةٌ في تعظيم الذات وتأمين أمكنة متميّزة لهم وأرادوا التعبير عن رغبتهم صريحاً: "مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟
ولأنها ساعة كشفٍ (وحي): "في تلِك الساعة"، جاء جواب ربّنا يسوع ليقلِب كل توقعات الرُسل، فدعا طفلاً وأقامهُ في وسطهم، وأشار صريحاً إلى أن هذا المُهَمَش والذي لا يمتلِك حقوقاً ولا إسهاماً يُذكَر في الحياة، ولا يعُطيه المجتمع التقدير والإحترام، هو الأعظم. شاءَ أن يُعلِم تلاميذه كيف ينبغي لهم أن يكونوا تلاميذه بحقٍ من خلال النظر إلى مّن هو خارج حلقّة التلاميذ، فعلامات الملكوت موجودة من حولنا، ولكننا منشغولون عنها ولا نُبصر حقيقتها بسبب تعلّقاتنا الحياتية. لكننا نسأل: ما الذي يُميّز الطفل حتّى يختاره ربنا يسوع ويُشير إليه: انه الأكبر؟ كيف لم يختر واحداً من التلاميذ الذين رافقوهُ وتتلمذوا له؟
ما يُميّز الطفل هو تحرره من الأمور التي تربط حياة الكبار عادة، فهو قادر على التخلي عن ما يملكهُ من أجل مشروع حياتي جديد. كما يتّصف الطفل بالتواضع فيحسبُ الآخرين أعظم منه ويُبين ذلك من خلال موقف الإتكالية عليهم. لا يضع نفسه في "المركز"، لأنه يعرِف أن هناك حقائق حياتية لا يُدركها بعدُ وهو بحاجةٍ إلى نور الآخرين ومساعدتهم. والأهم من ذلك هو موقف الطاعة الذي أبداه الطفل إزاء دعوة ربّنا يسوع له: "فدَعا طِفلاً فَأَقامَه بَينَهم"، فلا إعتراض يُذكّر من قبل الطفل. ففيما كان الرُسل منشغلين بحجز أمكنتهم في الملكوت، وبكل ما يُحيط بهذا الإنشغال من مشاعر السخط والطمع والحسد والغيرة والغضب، والتي طلبَ الرسول بولس من كنيسة قولسي التخلي عنها: "أَميتوا إِذًا أَعضاءَكمُ الَّتي في الأَرض بما فيها مِن زِنى وفَحْشاءَ وهَوىً وشَهوةٍ فاسِدَةٍ وطَمَعٍ وهو عِبادَةُ الأَوْثان، فإِنَّ تِلكَ الأَشياءَ أَسْبابٌ لِغَضَبِ الله.... أَمَّا الآن فأَلْقُوا عَنكم أَنتُم أَيضًا كُلَّ ما فيه غَضَبٌ وسُخْطٌ وخُبْثٌ وشَتيمة. لا تَنطِقوا بِقَبيح الكَلام ولا يَكذِبْ بَعضُكم بَعضًا، فَقَد خَلَعتُمُ الإِنسانَ القَديم وخَلَعتُم معَه أَعمالَه. ولَبِستُمُ الإِنسانَ الجَديد، ذاك الَّذي يُجَدَّدُ على صُورةِ خالِقِه لِيَصِلَ إِلى المَعرِفَة" (قولسي 3: 5-10).
هذه كلّها سببٌ للكثير من العثرات في حياة الكنيسة وتؤدي إلى ضياع العديد من أبنائها. فكل مّن هو مهتمٌ بالحصول على الأمكنة المتميزة: مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟ لن يكون بمقدوره الاستجابة مُباشرةً لنداء ربّنا يسوع: "إتبعني"، فهناك الكثير من الطموحات والمشاعر تمنعه من القيام بذلِك. يأتي هذا الطفل وبطاعة كاملة وصمتٍ من دون إثارة الكثير من الضجيج، ليكون إنموذجاً أمام التلاميذ، لأنه إستجابَ لنداء ربّنا يسوع، فوقف في الوسط مُعبراً عن إستسلام تام إلى ارادة ربّنا يسوع ليرسلهُ إلى حيثما يُريد؛ في الوسط، وهذا هو الموقف الذي ميّزَ هذا الطفل عن الجميع، هو مُستعد ليذهب حيثما يُريد ربنا يسوع. كلمةُ ربّنا يسوع: "تعال" كانت حاسمة في حياة هذا الطفل، فلم يتسائل أو يعترِض أو يتأخر في الإستجابة، بل سلّم حياتهُ كلياً بين يدي ربّنا يسوع، والذي لم يمدّح الطفل كونهُ صغيراً أو جاهلاً، بل قُدرتهُ على الإستجابة بطاعة تامّة.
لذا، جاءت الدعوة صريحة: "إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات"، وهي عملية تتطلّب الكثير من الجهدِ الشخصي في التخلّي عن المواقف الشخصية التي إعتدنا عليها والأوهام التي تعلّقنا بها. ربنا يُّذكّر التلاميذ بحقيقة أنهم مدعوون ليتبعوه، وهذا لم يكن باختيارهم الشخصي، بل بنداء وجههُ هو إليهم، واستجابوا له. فالمبادرة هي من الله الآب، لأنه محبّة: "وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" ... أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه (1 يو 4: 10، 19). على التلاميذ إذن أن يكونوا مستعدين للتعامل طوعاً مع متطلّبات الدعوة، فيذهبوا حيثما يُريدهم ربّنا يسوع أن يكونوا، تماما مثل الطفل الذي دُعي ولبّى الدعوة من دون إبطاء أو إعتراضاتٍ، لأنه عرّف أن الداعي هو شخصُ يستحقُّ طاعة مُطلقة. هذا لن يكون إن لم نكن متأصلين بيسوع المسيح: "فكما تَقَبَّلتُمُ الرَّبَّ يسوعَ المسيح، سيروا فيه، مُتَأَصِّلينَ فيه ومُتَأَسِّسينَ علَيه" (قولسي2: 6-7).
فالأكبر في ملكوت السموات هو المؤمن المُستعد للسير خلف ربّنا يسوع حاملاً الصليب حتّى الجلجلة: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متّى 16: 24). الرُسل كانوا منشغلين بالتراتبية، مَن سيكون الأول ومَن سيكون الثاني، وجاء الكشف مؤكداً: "إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات"، فالقضية خطيرة، فمِن الممكن أن الرُسل لن يدخلوا الملكوت، فالأمر يتطلّب بأن يسمح التلميذ لربّنا يسوع بأن يقود حياتهُ، لا أن تكون الطموحات والرغبات الشخصية دافعاً للحياة. أن يكون للتلميذ الإستعداد لأن يُحبّ الله من كل قلبه وكل نفسه وكل ذهنهِ (مـّى 22: 37)، وبذلك يُعبّر عن إيمان مُطلق بالله، وفرحهُ ليس في منجزاتٍ شخصية، بل في نعمةِ الله التي تحتضن حياتهُ، فيجد فيها فرحهُ: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال" (لو 1: 47-48). فالمتواضع الذي يقف أمام الله معترفاً بصغرهِ وفقرهِ، يُعبّر في الوقت ذاتهِ عن استعداد ليرفعه الله ويُغنيهِ وينعِم عليه بالمكانة الفضلى: "فدَعا طِفلاً فَأَقامَه بَينَهم"، ليكون محطّ اهتمام الناس، وهذا كلّه نعمةُ من الله المُحِب. فالتواضع والفقر عمودان أساسيان لبوابة ملكوت الله.
الأحد السادس من إيليا والثالث من الصليب
"لا أطلبُ ما أستحق بل أطلبُ الرحمة" (متى 15: 21 – 38)
خرجَ ربّنا يسوع من أراضي اليهودية وخرجت المرأة الكنعانية من بلادها الكنعانية (الوثنية) فصارَ لقاء الإيمان ممكناً، لأن الله دبّر بمحبتهِ هذا اللقاء من أجل أن تنال هذه المرأة الرحمة من الله الآب بيسوع المسيح، ليس هذا فحسب، بل لتكون معلمةَ الإيمان: "ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة "، فأظهرتَ إيماناً يفوق إيمان الكتبة والفريسيين القادمين من أورشليم والذين اعترضوا على سلوكيات تلاميذ يسوع: "لِمَ يُخالِفُ تَلاميذُك سُنَّةَ الشُّيوخ؟ فَهُم لا يَغسِلونَ أَيدِيَهم عِندَ تَناوُلِ الطَّعام؟ (متّى 15: 2). لقد رأت فيه، هي الوثنية الجاهلةُ بالكتب والأنبياء، ما لم يرَه الكتبة والفريسيون المتضلعونَ بالكُتبِ وبتفسير التوارة والأنبياء، وهذا هو من تدبير الله: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار. نَعَم ياأَبَتِ، هذا ما كانَ رِضاك" (متّى 11: 25-26)
لقد إنجذبَت المرأةُ الكنعانية نحو ربّنا يسوع، وكشفّت عن أنها واحدة من الحبّات الكثيرة التي نثرها الزارع في أرضهِ، فأثمرت "إيماناً ناضجاً"، إيماناً يتجاوز الصعوبات وصمتَ الله، فاستحقّت التهنئة: "عظيمٌ إيمانُكِ"، مع أنها كنعانية، أي إنها قادمة من واقعٍ يُعارِض الإيمان اليهودي ويُعاديهِ، فلطالما تذمّر الأنبياء من تأرجح اليهود ما بين الإيمان بإلهِ إبراهيم وإسحق ويعقوب والعمل بهِ، وبين الإستمتاع بطقوس الكنعانيين الوثنية: "فتَقَدَّمَ إِيليَّا إلى كُلِّ الشَّعبِ وقالَ: "إلى مَتى أنتم تَعرُجونَ بَيْنَ الجانِبَين؟ إِن كان الرَّبُّ هو الإلهَ فاتبِعوه، وإن كان البَعلُ ايَّاه فآتبعوه" (1 ملوك 18: 21).
صلّت: "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديدا". وهي صلاة إيمان مُطلقَ بالله. هي إنسانةٌ عانّت الضيقَ والعذاب بسبب مرضِ إبنتها. هذا الضيق جعلها تتوجّه نحو الله بكلّيتها لا أن تبتعِدَ عنه، وصار الضيق والعذاب طريقاً للإيمان. سارَت نحو ربّنا يسوع، تصيح وتطلب الرحمة وعندما وصلت إليه سجدتَ له، لُتعبّر عن وحدةِ الجسد والروح أمام الله. ضيقها النفسي والجسدي حملها نحو الإيمان بالله الرحوم، مثلما فعل بحارة سفينة ترشيش وقت العاصفة التي ضربت السفينة وكادت تُهلكهم: "فدَعَوا إِلى الرَّبِّ وقالوا: "أَيُّها الرَّبّ، لا نَهلِكَنَّ بِسَبَبِ نَفْسِ هذا الرَّجُل، ولا تَجْعَلْ علَينا دَماً بَريئاً، فإِنَّكَ أَنتَ، أَيُّها الرَّبُّ، قد صَنَعتَ كما شِئتَ" (يونان 1: 14).
لقد عبّرت في صلاتها أيضاً عن الحُب الذي تكنّه لأبنتها التي مسّها الشيطان وصار يُعذبها، لم تتخلَ عنها في محنتها هذه، ورأت في ربّنا يسوع الخلاص الذي صارَ لجميع الأمم مهما كانت إنتماءاتهم، فخرجتَ إليه حاملّة هذا الرجاء: "أريدُ رحمتَك يا ربّ، فأنت أبنُ داود"، وكانت متعمدةً في مناداتهِ: "يا ابنَ داود"، وكأني بها تقول له: "أنت تعرِف معنى علاقة البنوّة والأبوة، وتعرِف ألمَ الوالدين لعذاب أبنائهم". لقد بيّنت أن ألمَ إبنتها جعلها ترتبط بها إرتباطاً وثيقاً، فلقد صارَ ألمها الشخصي: "أَغِثْني يا رَبّ!"، وأصبحت هي حضوراً لأبنتها مثلما صارَ ربنّا يسوع تجسيداً لرحمة الله الآب. وكانت مُستعدة لأن تتخلّى عن كل شيءٍ، حتّى عن إنسانيّتها لتحصل على الشفاءلأبنتها: "نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها". تركتَ أراضيها وأهلها من أجل أن تلتقي ربّنا يسوع وهي مُستعدة للتخلي عن كلِ شيءٍ لتنال الرحمةَ والخلاص. لم تعترِض مُطلقا على تشبيه يسوع لها ولأبنتها بـ"بصغار الكلاب"، وأجابَت بعبارة: "نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها". صلّت بكل تواضعٍ مثلما صلّى أبوها إبراهيم: "قد أَقدَمتُ على الكلامِ مع سَيِّدي، وأنا تُرابٌ ورَماد" (تك 18: 27). قبِلَت على نفسها بأن تكون أصغرَ المخلوقات، بل لا قيمةً لها، لتنال الرحمة وتكون في ملكوت الله. تواضعَت حتّى تخلّت عن كل شيءٍ وأستسلمت إلى الله على نحوٍ تام، مرددةً عبارة "يا ربُّ" ثلات مرّاتٍ. هي تعرِف أنها ليست من شعب الله المختار، وهي لا تستحقُ الرحمة، فحاوَلت إستمالةَ الله إلى صلاتها، واثقةٌ من أن صلاتها ستُستجاَب، فثابرَت في صلاتها، ولم تتراجع أمام صمتِ ربّنا ورفضهِ لها، وعبّرت بصراحةٍ لا مثيل لها عن محبّتها له: "يا ربّ سأرضى بالفتات لأنه منكّ وهذا يكفيني. إني لا أسألُك عن ما أستحقهُ، ولكنَّ أطلبُ منّكَ ما أنت عليه: الحُب والرحمة". فنالتَ ما أرادت وأكثر من ذلك: "ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين". صلاتها فيها شكلٌ من الصراعِ المتعنّد مع الله، وكأني بالله يستمتِع بهذا الصراع الروحي ويُعلِن إنتصارَ المرأة، مثلما حصل مع يعقوب الذي صارعهُ الله الليلَ كلّه: "فقالَ يَعْقوب: "لا أَصرِفُكَ أَو تُبارِكَني". فقالَ له: "ما اَسمُكَ؟" قالَ: "يَعْقوب". قال: "لا يَكونُ آسمُكَ يَعْقوبَ فيما بَعْد، بل إِسْرائيل، لأَنَّكَ صارَعتَ اللهَ والنَّاسَ فغَلَبتَ" (تك 32: 27- 29).
بشارة إنجيل اليوم تطلُب منّا أن نؤمِن وأن نثبُت في الإيمان، وأن نواصِل الصلاة بألفةٍ مع الله الآب الذي يستجيبُ لصلاة الإيمان بفرحٍ. لقدّ بيّنت هذه المرأة عن عظيم إيمانها، إيمان مقرون بالتواضع والحُب والمثابرة. كان مرضُ إبنتها فرصةً لها لتُعلِن هذا الإيمان أمام الجميع، ولم يكن هذا المرض، وتجاهل الله لها وصمتها أمام صلاتها ورفضهُ الإصغاء لها، سبيلاً للتخلي عن الإيمان والإبتعاد عن الله حُزناً وغضباً، بل واصلت المسيرة في "ظلمةِ ليل الإيمان"، ونالت معجزة الإيمان قبل معجزة الشفاء: "الحَقَّ أَقولُ لكم: إِن كانَ لَكم مِنَ الإِيمانِ قَدْرُ حَبَّةِ خَردَل قُلتُم لِهذا الجَبَل: اِنتَقِلْ مِن هُنا إِلى هُناك، فيَنتَقِل، وما أَعجَزَكُم شيء. وهذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم" (متّى 17: 20- 21)
الأحد الخامس من إيليا والثاني من الصليب
قلّة إيماننا: إستجابة إلهنا (متى 17: 14 – 21)
يروي لنا الكتاب المُقدس أن موسى غضبَ جداً على الشعب عندما نزل من جبلِ سيناء حاملاً كلماتِ العهد العشر، وصُدِمَ بسبب قلّة إيمان الشعب الذي صنعَ له صنماً يعبدهُ (خر 32: 15- 20). وها إنَّ ربّنا يسوع ينزل من جبل التجلي ليواجه قلة ايمان التلاميذ والشعب فغضبَ هو ايضاً. الأب المُسكينُ حزينٌ قلقٌ على مصيرِ إبنهِ، فجرّبَ كل الطُرقِ المتاحةِ أمامهُ، وطلبَ من تلاميذ ربّنا يسوع أن يُساعدوه، ولكنهم عجزوا عن طردِ الشيطان منه. قلّة إيمان التلاميذ جعلتهم عاجزين عن فعلِ شيءٍ أمام هذا الشيطان الذي استحوذ على هذا الصبي، على الرغم من أن ربّنا أعطاهم سلطاناً على الأراوح النجسة ليطردوها (متى 10: 1، 8). هذا الفشل أثارَ في نفوس الناس العديد من التساؤلات، بل احرج كثيراً ربّنا يسوع وبشارتهِ : ما مدى مصداقية هذه البشارة؟
لكّن السؤال الذي يطرح نفسهُ هو: لماذا فشل التلاميذ في طرد هذا الشيطان؟ وكان هذا السؤال الذي طرحوه على ربّنا يسوع: لماذا فشلنا؟ فكان الجواب: لقلّة إيمانكم! وهذا الإيمان ليس تلقائياً ولا يُمكن الإستخفاف به: أنا تلميذ يسوع فالشفاء ممكن! أنا مسيحي فانا مُخلَّص؟
قلّة إيمان الرُسل سببت حرجاً كبيراً لربّنا يسوع: "جئتُ بهِ إلى تلاميذكَ، فما قدروا أن يشفوه"، بل كانت سبب استمرارِ ألمِ هذا الصبي. قلّة إيماني أنا كمسيحي أو قوّتهِ سيُؤثّر إيجابا أو سلباً في حياة الناس والعالم. لذا، يُواجهنا ربّنا يسوع المسيح بحقيقة أن ألمَ العالمِ من حولنا ليس بسبب غلبةِ الخطيئة والفساد، بل بسبب قلّق إيماننا ولربما إنسحابنا عن مسؤوليتنا، فالعالم يتألم لأننا كمسيحيين لسنا مؤمنينَ كما يجب. لسنا مؤمنين الى درجة أن نُرضي إلهنا!
هنا نسأل: ما الإيمانُ؟ وما معنى أنني أؤمن؟
الإيمان، كما تُعلّمنا أُمنا الكنيسة هو أن أخضعَ بكليّتي إلى كلمة الله التي تدعوني إلى أن أشهدَ لمحبتهِ لي وللعالم والتي تجلّت في ربّنا يسوع المسيح. نحن لا نؤمنُ بمُعتقداتٍ بل نؤمنُ بشخصِ يسوع المسيح الذي كشفَ لنا حقيقةَ إنسانيتنا: إننا أبناء الله الأحباء، وعاشها ليكون الأول بيننا: بكرنا.
الإيمان هو القبول الحُر لكلّ الحقيقة التي أوحى بها الله، وهذا لن يكون إلا إذا منحنا الله النعمةَ لنؤمِن مثلما أعلنَ ربّنا لبطرس عندما شهدَ له بأنه إبن الله الحي (متى 16: 17)، وهكذا نخصص حياتنا كلها لله لنُكمّلَ إرادتهُ في حياتنا وحياة مَن هم من حولنا. فالايمان هو فعلُ العقل والإرادة معاً، وهو يفتح عقولنا لنفهمَ أكثرَ فتقوى علاقتنا بالله الذي دعانا إلى الإيمان به. لذا فقد ربطَ ربّنا يسوع المسيح الإيمان بالصلاة. فالتلاميذ كانوا واثقين من قوتهم حتى نسوا العودة إلى الله، وظنّوا أنهم قادرونَ على طردِ الشيطان دون الصلاةِ إلى الله، لأن الإيمان بالله هو العلاقة مع الله، وهذه العلاقة تحيا بالصلاة إليهِ دوماً واستحضاره في حياتنا. وكثيرة هي المرات التي نتناسى فيها ذكرَ الله مُعتمدين على قوّتنا وذكائنا فحسب. يروي لنا آباؤنا الروحيون أن أباً كان ينظر إلى طفله ِالصغير وهو يُحرّك حجرةً كبيرة وتبيّن أنه غير قادر على ذلك فبدأ بالبكاء! سألهُ أبوه: هل جرّبتَ كلَّ قوتِكَ يا بُني؟ فأجاب الطفلُ: نعم يا أبي! فردَّ أبوه ولكنّك لم تسألني المُساعدة. وصلاتنا هي دعوتنا ليكونَ إلهنا سيّدَ حياتنا دوماً، وإلا فعالمنا سيبقى رازحاً تحت آلام كثيرةٍ.
فإذا كان عالمنا يتألم، وإذا إزدادَ صُراخُ من هم من حولنا بسبب عذاباتهم، فهذا ليس بسبب خطاياهم فحسب، بل بسبب قلّة إيماننا نحن أبناء الله وتلاميذ يسوع المسيح وهياكلُ الروح القُدس. فإيماننا لم يكن صلاةً الى الله، ولم يكن متسماً بالمحبة. والأخطر من كلَّ ذلك أننا نحسبُ أن فعلِ الإيمان هو قرارٌ شخصيٌّ منعزلٌ عن الكنيسة، متناسينَ أننا لسنا نحن مَن أوجدنا الإيمان بل أُعطي لنا لنُسلّمهُ نحن أيضاً الى غيرنا. لذا، نُعلنُ في كلِّ قُداس: نؤمنُ، فلسنا نحنُ مَن يؤمن، بل الكنيسة هي التي تؤمن وهي التي ولدتني بالعماذ لأكون إبنها، وهي التي تُغذي إيماني وتقويهِ، وهي التي سلّمت إليَّ وإليكَ وإلينا جميعاً وديعةَ الإيمان لننشرها بشارةً، لا أن ندفنها في الأرضِ خوفاً.
تدعونا الكنيسة اليوم، نحن الذين نحمل هذا الكنز العظيمَ، لأن نشهدَ لإيماننا بنوعيةِ حياتنا، لنكون جيلَ إيمان، فترانا ننحني خجلاً أمام ربّنا الذي يرى كمَّ الشياطين التي بدأت تضربُ حياتنا وعوائلنا ومجتمعنا ونحن نصرخُ: هو الشرُ والخطيئة، من دون أن يكون لنا جُرأة الرسل لنسألهُ: لماذا عجزنا نحن عن طرده؟ كلنا واعونَ بالشياطين التي بدأت تُحارب براءة أولادنا وتجرّهم إلى إنحرافاتٍ وأمراضٍ صعبةٍ من دون أن يُثيرَ ذلكَ حتّى تساؤلاً حول مصيرهم ومُستقبلهم! كلنا يُشاهدُ يومياً أين يجرنا هذا العالم، ونحو أي متاهاتٍ يُضيّعنا، فصرنا جُبناء وضعفاء حتّى درجة اللامُبالاة، وهي إنتحارٌ بل قتلٌ لمسيحيتنا. نحن نعرِف أن ضعفنا وجُبننا وتكبرنا وإهمالنا لله ولإرادته سببُ كلِّ هذه الأوجاعِ، فلنتب مُصلينَ: قوِّ يا ربُّ إيماننا بأفعالِ حياتنا المُحبّة التي تنتظرها منّا. إجعلنا قريبينَ منك، ومُدَّ يدكَ الشافيةَ نحونا.
الأحد الرابع من إيليا والأول من الصليب
"اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر" (متّى 4: 12- 5: 16)
عندما بدأَ ربّنا يسوع رسالتهُ اختار له تلاميذ ليكونوا معه ويُشاركوه حياة القداسة. اختارهم ليكونوا حيثما هو يكون وهكذا يُدخلهُم في علاقتهِ مع أبيهِ: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار. نَعَم يا أَبَتِ، هذا ما كانَ رِضاك. قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلاَّ الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه" (متّى 11: 25- 27). لقد دعاهم إلى تغيير حياتهم تغييراً جذرياً ويقبلوا هويّتهم الجديدة: "اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر". ولا يُمكن الفصل بين الدعوة وما ينتظرهما من مصير، وعلى التلاميذ أن يكونوا أمناء في الإستجابة لهذه الدعوة. لم يدعهم ربّنا إلى إلتزامِ مهمّة أو رسالةٍ فحسب، بل الأهم هو دعوتهُ لهم ليُقدّسهم: "كونوا قديسين لأني أنا إلهكم قدوس" (أح 11: 45). وقداستهمُ مؤسسة على مقدار محبتهم الجذرية لله الآب: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ" (مر 12: 30)، وإخلاصهَم للذي دعاهم.
أمام هذهِ الدعوة المجّانية والنداء الحاسِم: "اتبعني" لابد من جواب يتوافّق والدعوة التي دُعيَ إليها التلاميذ. هذا الجواب يتطلّب التخلي الجذري عن كلَّ شيءٍ ليكون المدعو برفقةِ ربّنا يسوع دوماً: "فتَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه" ... فَتَركا السَّفينَةَ وأَباهُما مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه". لقد إستجابا لدعوة ربّنا يسوع لهما بإيمان نزيه ودون شروط: "لقد تركا كل شيءٍ"، ليكونا معهُ دون أن يطلبا ضماناتٍ مثلما أن الذي دعاهم قدّم الدعوة بأيادٍ فارغة. انهما واعيان لحقيقة أنهما يجب أن يعيشا حياة التطويبات، أو أن يكونا نوراً للعالم أو ملحاً للأرض من دون صداقة ربّنا يسوع، فدعوتهم ليست أن يكونا معلمين بل تلاميذ، والتلميذ يُحقق حضورَ معلمّه. يروي لنا آباؤنا الروحيون عن أم أخذت إبنها الصغير في زيارة لكاتدرائية المدينة التي اشتهرت بصور القديسيين على زجاج نوافذها. راحت الأم تمر بالصور وتقف عندها مندهشة بروعة الفن. سألها طفلها: مّن هؤلاء يا ماما؟ فقالت: هم القديسون. ومَن هم القديسون؟ سأل الطفل. أجابت الأم: "أترى يا بُني اشعة النور المنبعثة من هذه الصور؟ القديس هو الذي يسمح لنور المسيح يسوع أن يشع فيه ومن خلاله للناس في الكنيسة ينذهلوا بعظائم الله فيهم.
الدعوة إذاً لم تكن من أجل الانضمام إلى مدرسة لاهوتية أو ليؤسسوا تعليماً جديداً، بل دعاهما ليتبعانه شخصياً: "إتبعاني". هذه الدعوة هي من أجل أن يكونا حيثما يكون هو في فعل طاعة كاملة، وبالتالي أنهما سيلقيان المصير نفسه لأنهم مثل ربّنا يسوع المسيح: "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي. مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متّى 10: 37- 39).
اليوم وقد سمعنا إنجيل ربّنا يسوع: "اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر"، وعرفنا جواب التلاميذ الأوائل: "فتَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه" ... فَتَركا السَّفينَةَ وأَباهُما مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه". ما هو جوابنا الشخصي؟ الدعوة موجهّة إلى كلٍ منّا، باسمهِ ليتبع ربّنا يسوع ويسير على خطاه في حياة القداسة فينال هويةً جديدة. فما الذي تركناهُ نحن وتخلينا عنه في سبيل الانضمام إلى ربّنا يسوع؟ ربّنا يسوع ينتظِر منّا جواباً شخصياً على دعوتهِ وهو يعلم كلاً منّا ضروري لحياة أكثر إنسانية للعالم. هو يريدنا نوراً وملحاً يحفظُ العالم من الفساد بكل أشكالهِ. وجودنا كمسيحيين مرتبطٌ بفاعلية هويّتنا ورسالتنا: أن نحملَ هذا العالم إلى الله، ونحفظهُ طاهراً، وهذا يعني أن يبقى النور فينا وأن تبقى فينا فاعلية الملح التي تُقاوم الفساد لئلا يصلَ إلى العالم. فما فائدة الملحِ الفاسد؟ وما فائدة المسيحي الذي لا يُظهِر ميزة حياته بل يعيش كباقي الناس؟ ومُشكلة العالم الكُبرى كانت: أننا كمسيحيين لا يرانا العالم مثلما كان يجب أن نكون، ولن يشهد لنا بأننا مُخلّصونَ، بل صرنا مثل سائر الناس، إن لم نكن أكثر شراً منهم وأكثر فساداً. وبهذا فسدت ملوحتنا وصرنا بلا نفعٍ للعالم.
اليوم تأتينا الدعوة: "إتبعني"؟ فهل لنا الشجاعة لأن نترك مكاننا وأن نتخلّى عن ما نعتقد أنه ضروريٌّ للحياة لنكون مع المسيح يسوع؟ ما الذي يُميّز حياتنا عن باقي الناس الذين لا يؤمنون بالمسيح يسوع؟ نحن نُفكر مثلهم! نتعامل مع قضايا الحياة مثلهم! نُخاصم بعضنا بعضاً مثلهم! نحسد ونراوغ في علاقاتنا مثلهم! نغش ونكذب مثلهم! نسرق ونتجاوز على حقوق الآخرين مثلهم! نحكم ونثرثر مُسيئينَ إلى كرامة الآخرين مثلهم! نهتم براحتنا ومكانتنا وغنانا، ونتكاسل حتى عن القيام بعمل يمجد فينا اسم يسوع المسيح؟
أمام وصيّة ربّنا يسوع اليوم، ومع احتفالنا بأسابيعِ الصليبِ، لنوجّه أنظارنا إلى صليبِ ربّنا يسوع ونتعلّم أننا مدعوون لنسير في أثرهِ ونكون تلاميذ أمناء له، وإن تطلَّب الأمر حمل الصليب، فعلينا أن لا نتجنّبهُ. ليكن فينا شجاعة القديسة تريزا الطفل يسوع التي كانت تقول: "أريدُ أن أُحقق بالكامل إرادتَك وأن اصلَ إلى ملءِ القداسة التي أعددتها أنتَ لي في ملكوتِكَ؛ بكلمةٍ أريد أن أضحي قديسة". نحن مدعوون لا لنكون أُناساً صالحين فحسب، بل، الأهم أن نكون "مسيحاً" على الأرض: "فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع" (فيلبي 2: 5). أن نُفكّر مثلما يُفكّر ربّنا يسوع، وأن يكون فينا مشاعرهُ، هو الذي أحبَّ حتى بذلَ ذاتهُ من أجلنا على الصليب.
الأحد السابع من الصيف
الفضائل: الصدق (لو 18: 1- 14)
يروي لنا آباؤنا الروحيون عن جدالٍ حصل بين رُهبانٍ عن أهم اللحظات في حياة ربّنا يسوع: فقال بعضهم: ولادته في بيتَ لحمِ، وقال آخرون: قيامته من بين الأموات، وآخرون: إقامةُ لعازر. ثم توجهوا بالسؤال إلى معلّمهم: ماذا تقول يا معلم؟ ما الحدث الأهم في حياة يسوع؟ فأجاب: الحدث الأهم في حياة ربّنا يسوع، هو أنه كان يعي ما يقول! فحياتهُ كانت صلاة، وصلاته كانت حياة.
لحظات الصلاة إلى الله هي أقدس لحظات حياتنا، ويُريدنا ربّنا يسوع المسيح أن نعي أهميّتها في حياتنا لأننا فيها نقف أمام حضرة الله حاملين إنسانيّتنا بكل ما تتضمنهُ من ضعفٍ وهشاشةٍ وإيمان بالله الآب. يُخبرنا الإنجيلي لوقا أن ربّنا يسوع كان يقضي الليل كلّه في الصلاة ويستمّد من لحظات الصلاة القوّة ليواصِل البشارة بملكوت الله. صلّى وقت عماده من يوحنّا المعمذان (لو 3: 21)، وقبل اختيار الرُسل (لو 6: 12- 13)، وعند التجلي (لو 9: 28) وفي بستان الزيتون (لو 22: 41). ولأننا لا نُحسِنُ الصلاة إلى الله مثلما يقول الرسول بولس (روم 8: 26)، يُعلّمنا ربّنا يسوع اليوم كيف نُصلي إلى الله الآب: أن نُعظَمه دوما: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي" (لو 1: 46)، ونُبارَكه: "تَبارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسرائيل" (لو 1: 68)، ونتوخى تحقيق مشيئتهُ: "ولكِن لا مَشيئَتي، بل مَشيئَتُكَ" (لو 22: 46).
أول درس في مسيرة الصلاة هو أن يكون فينا الرغبة في الصلاة والمثابرة عليها، لاسيما في الساعات التي يبدو فيها الله غائباً وكأنه لا يسمع صلاتنا ولا يُصغي إليها. المثابرة على الصلاة هو فعل إيمان بالله الآب الذي نُصلي إليه مؤمنين بأنه يعرِفنا ويُحبنا ويُريد لنا الخير، حتّى لو اختبرنا "الليالي المُظلمة" كالتي اختبرها قديسو الكنيسة. كانت القديسة الأم تريزا تقول: "إذا أردت أن تصلي بشكل أفضل، صلِّ أكثر"، هي التي اختبرت سنوات طويلة من صمت الله الذي صلّت إليه دوما: "يا رب عرّفني إرادتك لي"، ولم تسمع منه شيئا، ولكنها واصلت الصلاة.
وهذا يقودنا إلى الدرس الثاني وهو: عندما نُصلي علينا أن ندع المجال لله أن يُحدثنا فنصغي إليه لأننا نُريد مشيئتهُ هو: "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لو 1: 38). فالصلاة ليست إستعراضاً لحاجاتنا ورغباتنا وتطلّعاتنا بل إستعداد للإصغاء إلى مشيئة الله والعملُ بها: "هاءَنذا". أن نُصلي إليه معترفين بإبوتهِ، فندعوه "أبا"، مؤمنين بأننا أبناء له بيسوع المسيح بكرِنا، الذي حملنا في صلاتهِ إلى الله الآب، وعلّمنا أن نُصلي: "الصلاة الربية"، ولا ينبغي ان أتقدّم للصلاة لوحدي، بل أحمل في صلاتي كل إخوتي وأخواتي بمحبةٍ. الصلاة ليست فرصة للشكوى على الآخرين وفضح أخطائهم، بل الوقوف أمام الله الآب حاملين بمحبةٍ كل الناس إليه، حتّى البعيدين عنهُ. لقد حاولنا ان نكون قُربهم لخدمتهم جسديا أو روحيا، ولنا في أمنّا مريم خيرُ مثالٍ، فعندما عرِفت أن الله اختارها لرسالةٍ عظيمةٍ، وقدّسها لتحمل كلمتهُ، إنطلقت تخدم مَن هم بحاجةٍ إلى الخدمة.
ويأتي الدرس الثالث في كيفية الصلاة ليؤكِد على ضرورة أن نكون صادقين مع الله ومع أنفسنا عندما نُصلي إليه، لأننا مؤمنون بأنه الأب الذي يعرِفنا ويعرِف ما في قلوبنا مثلما يُصلي المزمّر: "يا رَبِّ قد سَبَرْتَني فَعَرَفتني
عَرَفْتَ جُلوسي وقِيَامي. فَطِنتَ مِن بَعيدٍ لأَفْكاري. قَدَّرتَ حَرَكاتي وسَكَناتي وأَلِفتَ جَميعَ طرقي. قَبلَ أَن يَكونَ الكَلامُ على لِساني أنتَ يا رَبُّ عَرَفتَه كلَه. مِن وَراءُ ومِن قُدَّامُ طوَقتَني وجَعَلتَ علَيَّ يَدَكَ. أَنتَ الَّذي كونَ كُليَتَيَّ ونَسَجَني في بَطْنِ أُمِّي. أَللَّهُمَّ اْسبِرْني واْعرِفْ قَلْبي إِمتَحِنِّي واعرِفْ هُمومي" (مز 139). الصدق يعني إذاً أن نقفَ امامهُ مثلما نحنُ، وهو، بمحبتهِ الأبوية سيأخذنا إليهِ من حيثما نحن ليُوصلِنا إليه. عندما نأتي إلى الصلاة لنُعبّر في كلِّ لحظة من هذه اللحظات عن إيماننا بالذي دعانا للصلاة إليه، فنترُك له المجال ليُصلي هو فينا ومن خلالنا. أن ندع نورهُ يُنير حياتنا ويُعرّفنا أين نحن منهُ: "الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!"، فمحبة الله والقريب تتطلّب الصدق: "ولْتَكُنِ المَحبَّةُ بِلا رِياء" (روم 12: 9).
نحن نعلَم أننا لا نعي ما نقولهُ في الصلاة مثلما حصل مع بطرس على جبل التجلي: "قالَ بُطرُسُ لِيَسوع: "يا مُعَلِّم حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبنا ثَلاثَ خِيَم، واحِدَةً لَكَ وواحدةً لِموسى وواحِدةً لإِيليَّا! ولم يَكُنْ يَدري ما يَقول" (لو 9: 33). أو اننا نُكثرُ الكلام عن أنفسنا وحياتنا ومنجزاتنا مثل الفريسي، وهذا يدفعنا إلى إنتقاد موقفين: تبرير خطايانا وانتقاد الآخرين". أو التراجع عن الصلاة إلى الله لأننا قدّمنا له سلسلة طلبات ولم يستجب لنا.
نحن مدعوون لأن نعيش حياتنا بصدقٍ، فنقف أمام الله من دون أقنعة ونكون أمامهُ مؤمنين بمحبتهِ، شاكرين إياه على قبولهِ لنا، مُباركين إياه على الخير الذي صنعهُ فينا ولنا، ومتأسفين على الخير الذي كان بمقدورنا أن نصنعه ولم نلتزِم به. ليس علينا أن نُبرر له خطايانا فهو يعرِف خفايا قلوبنا، ويعرِف اننا نُخطئ أحيانا لا عن جهلٍ بل عن سوء نيةٍ ورغبة في الشر، ولكنه مستعدٌ لأن يمنح لنا الغفران إن طلبناه بصدقٍ، تماماً مثلما فعلَ العشار الذي انحنى أمام الله معترفاً بأنه إبتعدَ عن محبتهِ، لم يكذب أمام الله، ولم يُطالِب الله بأن يمنحهُ الغفران لأنه جاء يُصلي، بل تركَ ذاته كليا بين يدي الله طالباً الرحمة: "إرحمني يا الله"، وهذه الرحمة قادرةٌ على تغييره: أقول لكم: هذا العشار نزلَ إلى بيتهِ مقبولاً عِندَ الله.
الأحد السادس من الصيف
الفضائل: الامتنان (لو 17: 5 – 19)
طلب البُرص العشرة من ربّنا يسوع نعمة الشفاء متضرعين إليه قائلين: "إرحمنا"، لأنهم كانون يؤمنون أن البرص مرضٌ بل لعنة من الله وعقابٌ على خطيئة. ولأن ربّنا يسوع المسيح، كلمة الله المُحِبة وحضوره الرحوم، جاء ليُصالِح الإنسان مع الله، أَمرهم بالذهاب إلى الكهنة ليكونوا علامة حضور الله المُحِب والشافي. كان عليهم أن يؤمنوا بكلمةِ ربّنا يسوع، أمرهم بالقيام بفعل يتطلّب الكثير من الشجاعة: الذهاب إلى أورشليم، حيث مركز الرئاسة الكهنوتية، وكانت مدينة محرمة عليهم لأنهم مصابون بمرض معدٍ كانوا يعتقدون انه نتيجة غضب الله عليهم جميعهم ذهبوا من دون أن يسألوا: متى نُشفى؟ وكيف سنُشفى؟ آمنوا بما قاله ربّنا يسوع فنالوا الشفاء. فكان الشفاء ثمرة الطاعة ولكنهم عبروا في الوقت نفسه عن إيمانٍ ناقص، لأنهم تصوروا أن على يسوع، بصفته مسيح الله، أن يمنحهم الشفاء، وكأنهم يستحقونَ ذلك. لذا، لم يعودوا ليشكروا، وهو ما حذّر منه موسى الشعب عندما أوصاهم بأن لا ينسوا أن الله هو الذي أخرجهم من مصر العبودية وحررهم ليعيشوا حياته بكرامةٍ: " تَنَبَّهْ لِئَلاَّ تَنْسى الرَّبَّ إِلهَكَ، ... مَخافةَ أَنَّكَ، إِذا أَكَلتَ وشَبِعتَ وبَنيتَ بُيوتًا جَميلةً وسَكَنتَها وكثُرَ بَقَرُكَ وغَنَمُكَ وفِضَّتُكَ وذَهَبُكَ كلُّ ما لَكَ، يَشمَخُ قَلبُكَ فتَنْسى الرَّبَّ إِلهَكَ الَّذي أَخرَجَكَ مِن أرضِ مِصْر، مِن دارِ العُبودِيَّة ... ولئَلاَّ تَقولَ في قَلبِكَ: إِنَّ قُوَّتي وقُدرَةَ يَدي صَنَعتا لي هذه الثَّروَة. بل تَذكر الرَّبَّ إِلهَكَ، فإِنَّه هو الَّذي يُعْطيكَ قُوَّةً لِتَصنع بِها الثَّروَة، لِكَي يُثَبِّتَ عَهدَه الَّذي أَقسَمَ بِه لآبائِكَ كما في هذا اليَوم" (تث 8: 11- 18).
أما الأبرص الشاكِر، الذي شفيَّ وهو في طريقهِ إلى لقاء الكاهنِ، فكشف عن معنى الإيمان ومضمونهِ. فالإيمان يعني أولاً: تمجيد الله وشُكره على أنه الآب المُحِب والصالح دوماً: "إحمَدوا الرَّبَّ فإِنَّه صالِح فإِنَّ للأبد ِرَحمَتَه" (مز 136: 1)، هذا الصلاح وهذه الرحمة تعود بالخير على الإنسان الشاكر. فالشُكر خير تعبيرٍ عن إيمانٍ نزيهٍ بالله الذي نعبدهُ ونُحبهُ ونعترِف بأنه هو الإله، الآب المُحب الذي يستحق أن يُشكَر دوما، وبذلِك نُبيّن أننا قد تخلينا عن أنانيّتنا التي تدفعنا مراراً إلى الإعتداد بالنفس متفاخرين متناسين الله الخالِق، أو إلى تقديم شُكرٍ مشروطٍ بحالة الرفاهية التي نعيشها. فغيابُ الإمتنان عن حياة الإنسان يكشفِ عن شكلٍ من الأنانية والتمركزِ حول الذاتِ وكأني بالشخص يقول: إني أستحقُ أكثر مما نلتُ! فلا حاجة إلى الشُكر والإمتنان؟ فالشُكر يجعلنا نفتخِر بأننا لولا محبة الله الآب ورحمتهِ ما كُنا على ما نحن عليه، مثلما أنشدت أمنا مريم عند زيارتها لإليصابات (لو 1: 46- 55).
لقد شعرَ السامري بأنه غير أهلٍ لمثل هذه العطية فعادَ ليشكرَنعمة حضور الله بيسوع المسيح. لقد أكتشفَ السامري مَن هو ربّنا يسوع: هو الطريق إلى الله. فالإيمان بيسوع يقودنا إلى الله الآب، فربّنا يسوع يحملنا إلى الله الآب، الذي أرادَ أن يُصالحنا بابنهِ يسوع المسيح. فعلُ الإيمان يكتمل إذن بالعودة إلى الله ممجدين إياه. فالإيمان فعلُ من الله وعودةٌ شاكرةٌ إليهِ. فلنتعلّم من السامري فضيلة الإمتنان لله الآب، ونشكره على أنه اختارنا لنكون له أبناء بالمسيح يسوع: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يو 1: 12). لنتعلّم منه أن تبدأ صلاتنا إلى الله الآب بعبارة: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ" (متّى 11: 25)،" شُكراً لَكَ، يا أَبَتِ" (يو 11: 41).
الشُكر فضيلة مسيحية فيها نمدح الله ونُباركهُ لا في أوقات الفرح والغبطة فحسب، بل في أوقات الحزن والأزمات أيضاً"إِفرَحوا دائِمًا، لا تَكُفُّوا عن الصَّلاة، أُشكُروا على كُلِّ حال، فتِلكَ مَشيئَةُ اللهِ لَكم في المسيحِ يسوع" (1 تسا 5: 16- 18).لنُبيّن في ذلِك عن قوة الإيمان بالله الآب المُحِب الذي يرافقنا بمحبتهِ وعنايتهِ، لاسيما وقت الصعوبات مثلّما صلى داود: "أعَظِّمُكَ يا رَبُّ لِأَنَّكَ اْنتشَلتَني ولم تُشمِتْ بي أَعْدائي (مز 30: 1-12). الشُكر لله الآب الذي يُقوينا وقت ضعفنا ويهبَ لنا الخير الذي نحن بحاجةٍ إليه في الوقت المناسب. الشكر لله في كل وقتٍ حتّى في اوقات الشّدة: "الرَّبُّ أَعْطْى والرَّبُّ أَخَذفلْيَكُنَ اسمُ الرَّبِّ مُبارَكًا" (أيوب 1: 21). فالشخص المُمتن إنسانٌ متواضعٌ ومُتحسسٌ للمحبّة التي قبلها من الله ومن الآخرين، بل يحسبَ أن هذا الحُبَ واللطفَ اللذين قبلهمامنهم علامة لنعمةِ الله، وعلينا أن نشكرهُ على الصحة والصداقة والعائلة والجماعة كلها نِعمٌ علينا أن نشكرَ الله عليها. لأن الشكر تعبير عن الإيمانِ: "إيمانُكَ خلّصكَ". إيمانٌ لم يظهر في طلبِ الرحمةِ والشفاءِ فحسب، بل في ترتيلة الشُكر والتمجيد التي رتّلها السامري. وهو يدعونا لأن نكون شاكرين لله الآب على محبتهِ ورحمتهِ. أن نشكرهُ حتّى لو لم نحصلَ على ما نُريد لأننا في شُكرنا سنسعى للحصولِ عليهِ. نشكرهُ حتّى لو كُنّا نجهلُ أمراً ففي شُكرنا سنحاول أن نتعلّم. نشكرهُ حتّى لو شعرنا أننا محدودونَ لأننا في شُكرنا سنتغلّبُ على محدوديّتنا. نشكرهُ حتّى لو أخطأنا لأننا في شُكرنا سنُقرُّ بأننا تعلّمنا الدرس ولو كان قاسياً. نشكرهُ بإمتنان في كل وقتٍ.
لنسعَ لنجعل بيوتنا مدرسة إيمان ونعلّم أبناءَنا كيف يكونونممتنين في حياتهم، من خلال الإمتنان المُتبادَل الذي يُنعِش حياة الزوجين على حّد تعبير البابا فرنسيس. لنوجّه أولادنا إلى أن ينظروا بعين الشكر والإمتنان إلى حياتهِم، ويكتشفوا النعم والامكانيات التي وُهِبَت لهم. أن يشكروا الله على نعمة العائلة التي تحتضنهُ، ويتوقفوا عن التذمّر أو عدم الرضى وكثرة الطلبات التي لا تنتهي، فليس من الصحيح أن نُقدِم لأولادنا كل ما يطلبوهُ، بل توجيههم ليُقدّروا ما يمتلكونهُ، وأن يتعلّموا أن يشكروا بإمتنان على كلّ ما وُهِبَ لهم.
الأحد الثاني من الصيف
الفضائل: الرحمة (لوقا لو 15: 1- 24)
يختصر لوقا كل البشارة "إنجيل ربّنا يسوع المسيح" في ثلاثة أمثال تُعبر عن موقف الله الآب من الإنسان. فهو الآب الرحيم الذي يقبل توبة الإنسان بعد تيه الخطيئة التي اختارها بإرادتهِ الحرّة. أمثال كشف فيها ربّنا يسوع عن الحبّ الذي يكنّه الله الآب للإنسان والذي صار منظوراً وملموساً في ربّنا يسوع المسيح: "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناهولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1 يو 1: 1). فلم تكن كلمة الله الأخيرة، ربّنا يسوع المسيح، كلمة دينونة أو مُعاقِبة، ولم يُعلِن الله حُكمَ الهلاكِ على الإنسان الخاطئ منتقماً لنفسهِ من أجل الإهانات التي تلّقاها، بل واجه خطيئة الإنسان بالغفران وهداهُ طريق الخلاص بالرحمة والرأفة التي قدّمها بيسوع المسيح، فكان أمينا لطبيعته فهو المحبّة التي تجلّت رحمة على الإنسان. رحمةً أعطت الإنسان حياة جديدة؛ لأن الرحمة لا تتعلَّق بماضي الإنسان إذ تغفِر له خطاياهُ فحسب، بل هي مُوجهة نحو حاضره ومُستقبله فتمنحه حياةً جديدةً، فهو "محبوبُ الله"، وعليه أن يعيش هذه الرحمة إلتزاماً مُحباً للقريب. وهو يدعونا لأن تكون الرحمة أسلوب حياة نلتزم به، فمَن يُرحَم عليه أن يعيش هذه النعمة دعوة وإلتزاماً مسؤولاً في حياتهِ، فيعكس في شهادة حياته طبيعة الرحمة الإلهية التي اختبرها نعمة.
الرحمة الإلهية حبٌّ يرحَم، يقبل الإنسان ويُعيد له الكرامة ويحوّل تعاسته إلى فرح، بل عُرس. رحمةٌ لا تنتظر عودة الضائع بل تذهب لتبحث عنه، لأنها تشعر بما هو بحاجةٍ إليه. الخطوة الأولى في الرحمة الإلهية هي حضورها إلى جانب الإنسان: "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 6-8). رحمة الله الآب ليست إستجابة لطلب أو صلاة من الإنسان، بل مبادرة من الله الآب تجاه الإنسان حتّى قبل أن يكون للإنسان إمكانية السؤال: "إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه، فنزَلتُ لأَنقِذَه مِن أَيدي المِصرِيِّين وأُصعِدَه مِن هذه الأَرضِ إلى أَرضٍ طَيِّبةٍ واسِعة، إلى أَرضٍ تَدُر لَبَناً حَليباً وعَسَلاً" (خر 3: 7- 8). ربّنا يسوع يذكرنا اليوم بأبوّة الله التي ترحم الإنسان قبل أن يطلب منها ذلك: "وكانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً". الله الآب يشعر بآلامِ الإنسان ومأساتهِ وكأنها مأساته وآلامهُ، وهو مُستعدٌ لأن يتحمّل هذه الآلام من أجل تحقيق الشفاء والسلامِ للإنسان.
الخطوة الثانية في الرحمة الإلهية هي شعور الله الآب بحاجة الإنسان، الضائع: "أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً وفي قَدَمَيه حِذاءً" فالضياع أفقدَ الأبن الكرامة، كرامته كإبنٍ وكإنسان، ولن يتمكّن من الحصول عليها ثانية إلا بنعمة من الله الآب. لم يطلبها لأنه يعرِف أنه ألحقَ إهانة بالله عندما قرر الإبتعاد عن بيت الآب، لذا، لم يتجرأ ليطلبها ثانية، وكل ما كان يتمنّى هو أن يحظى بالقبول في بيت أبيه ثانية: "يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ"، فجاءت الرحمة نعمةً.
الخطوة الثالثة في الرحمة الإلهية هي إنها مدعاة للفرح وليس للدينونة، فلم يُعاقِب الراعي الخروف الضال ولم يحاسب الآب إبنه، بل إحتفلوا بالعودة وكان الاحتفال عرساً. "وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، لِأَنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد. فأَخذوا يتَنَّعمون". وبذلك يكشف الله عن أمانتهِ في المحبّة، فهو محبة لن تتغيّر نتيجة خطيئة الإنسان. رحمة الله لا تتجاهَل واقع الخطيئة وتتنكر له، بل تتجاوزهُ؛ لتهبَ الإنسان بدايةً جديدة، لأنه الله، الرحيم والرؤوف قادرٌ على تجاوز أحكامهِ ويروِّض مشاعِر الغضب التي فيه تجاه الإنسان الذي خانهُ وعدّه ميّتاً: "أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال"، ليُعامِله وفق احتياجاته الآنية مُستجيباً لواقعه المؤلِم، فيرحمه ويقبله فرحاً.
ربّنا يسوع عاش الرحمة الإلهية وبيّن أن الرحمة هي التي تُفرِح قلبَ الله، وهو يدعونا اليوم لأن نؤمن بهذه الرحمة التي قبلتنا وغفرت لنا ووهبت لنا بداية جديدة وحياة وافرة. أمثال إنجيل اليوم تؤكد أن الجميع ضائعٌ وتائهٌ، وأساءَ استخدام حريّتهِ بحثا عن "متعةٍ وسعادة عابرة"، ولم يعرف أبوّة الله فأضاع كلّ شيء. الأبن الصغير تاه عن أبيه جسدياً والأبن الأكبر كان تائهاً عنه بالقلب. لكن الله الآب لا ينسانا ولا يتركنا أبدًا. إنه أب صبور ينتظرنا على الدوام، يحترم حريتنا ويبقى أميناً أبداً وعندما نعود إليه يستقبلنا كالأبناء في بيته؛لأنه لا يكفُّ أبداً عن انتظارنا بمحبة، وقلبه يعَيِّدُ كل ابن يعود إليه. يُعَيِّد بسبب الفرح، والله يفرح عندما يذهب إليه خاطئ من بيننا ويطلب مغفرته؛ لأن الله يُريدُ عودتَهُ إليه: "يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، لَيسَ هَوايَ أَن يَموتَ الشِّرِّير، بل أَن يَرجعَ عن طَريقِه فيَحْيا" (حزقيال 33: 11).
ربّنا ينتظرنا أن نعيش هذه الرحمة في تفاصيل حياتنا اليومية. نحن نُصلي يومياً: "أغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمَن أخطأ إلينا"، فهل نقبل بفرحٍ غفران الله للقريب الذي أساءَ وأخطأَ وغفرَ له الله وأنعمَ عليه بالفرحِ؟ هل لنا الإستعداد للإنضمام إلى جماعة المحتفلين أم سنبقى خارج الدار. ربّنا يسوع لم يقل لنا إن كان الأبن قد شارك في الاحتفال أم لا، بل ترك الجواب لكلِّ واحدٍ منا. فما هو جوابنا اليوم؟
الأحد الرابع من الرُسل
رسالة الكنيسة: أَحِبُّوا ... أَحسِنوا ... وبارِكوا ... وصلُّوا (لوقا 6: 12- 46)
تواصِل الكنيسة نشرَ رسالة ربّنا يسوع المسيح التي فيها طلبَ من تلاميذه (ومن الكنيسة)، أن يروا العالم بعيون الله، الله الآب الذي يُحِب ويرحم ويغفِر ويُصالِح الإنسان، فيُبشروا بمحبتهِ الأبوية والرحومة. الآب الذي لا يُجازي الإنسان وفقَ سلوكيات حياته الخاطئة، بل يقبله بالرحمةِ. كيفَ تُعاش هذه الرحمة؟ وما جديد ربّنا يسوع الذي على الكنيسة أن تحملهُ إلى العالم؟
طالبَ الله شعبهِ، بعد أن وهبَ لهم الكلمات العشر: "كونوا لي قِدِّيسينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ أَنا الرَّبّ، وقد مَيَّزتُكم مِنَ الشُّعوبِ لِتَكونوا لي" (أح 21: 26). وعلّم الكتبة والفريسيون ورؤساء الكهنة أن القداسة تتحقق بمحبّة الله ومحبّة القريب، من خلال طهارة الجسد ونقاوة الأفكار (الشريعة) تجاه الله وتجاه القريب. جديد ربّنا يسوع كان في كشفهِ عن صورة الآب الرؤوف الكثير الرحمة الذي أعلنهُ أنبياء العهد القديم، فعاشَ هذه الخبرة واقعاً مع الخطأة الذين جعلوا أنفسهم أعداء الله بخطاياهم، وخرجَ ليبحث عن الخاطئ ويُعدَّ له عُرساً. وعلى الكنيسة أن تستحضِر حياة ربّنا يسوع المسيح بشهادة حياة أبنائها، الذين لا يُحبون القريب وحدهُ، بل حتّى الأعداء الذين يُضايقونهم، وهم يحسنونَ إلى مُبغضيهم ويُباركون لاعنيهم ويُصلّون من أجل الذين يفترون عليهم كذباً. فلا ينتقمون لأنفسهم لهذه الإهانات، بل يقبلون الأعداء بإحترام ورحمةٍ، ويرفعون الصلاة من أجلهم لا لكي يُهلكهم الله بل ليُنير عقولهم ويعرفوه.
صيغة التعليم تأتي ليس من معلّمٍ يُملي على مُستعميهِ ما تعلّمهُ هو، مثلما تعوّد اليهود سماعهُ من الكتبة والفريسيين، بل من شخصٍ ذي سُلطان، يكشِف لهم عن هويّة الله الآب، مّن هو؟ وما الذي سيحصلَ حقاً في قادِم الأيام. فما يُعلّمه ربّنا يسوع ليس "رغبة: هكذا اُريدكم أن تكونوا!"، بل "واقعٌ": هذه هي هويّتكم". تعليمهُ ليس أوامر يُمكن لتلميذه أن يختار الطاعة فيُطّبقها في حياته أو يرفضها. بل هو كشفٌ لأسلوب حياة التلميذ: هكذا يحيا تلميذُ المسيح حياتَه اليومية، فهو لا يغضَب ولا يحقد في قلبهِ على القريب ولن يسعى للإنتقام لنفسه، مثلما توصي شريعة موسى: "لا تُبغِضْ أَخاكَ في قَلبِكَ، بل عاتِبْ قَريبَكَ عِتاباً، فلا تَحمِلَ خَطيئَةً بِسَبَبِه. لا تَنْتَقِمْ ولا تَحقِدْ على أَبْناءِ شَعبِكَ، وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أَنا الرَّبّ." (أح 19: 17- 18)، بل يسعى ليواصل عيش البُشرى السارة التي بدأ مسيرتها ربّنا يسوع المسيح، فيُحبَّ أعداءَه ويُبارِك لاعنيه ويُصلي من أجل مُضايقيه، مثلما أن ربّنا يسوع الذي أحبَّ أعداءَه وصلّى من أجل مُضايقيه وصالبيهِ: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لو 23: 34)، فحقق بالفعل ما علّمه للتلاميذ.
محبّة الأعداء والإحسان إليهم والصلاة من أجلهم ومُباركتهم، هذا الواقع ليس رغبة بشرية إذاً، فنحن نميل عادة إلى مَن يتقاسم معنا الأفكار والتطلّعات والمشاعر، إلى أناس قريبين منّا ويفهموننا. قد يكذبون علينا بداعي مصالحَ شخصية ويُسمعوننا طيبَ الكلام، فنكون ضحيّة ريائهم، ولكننا نُفضل التواصل معهم، ونرفض مخالطة مَن يُخالف رأينا، ولا نُحِب أعداءَنا، بل نرفض التعامل مع مُضايقينا، ونغضب على كل مَن يفتري علينا الكذِبَ. ولكنّ ربّنا يسوع، كلّمة الله، يُريد أن تكون الكنيسة مكاناً يُستقَبل فيها كلُّ إنسان، وتعكس حضور الله الرحيم: "كونوا رُحماء كما أن أباكم السماوي رحيم". ربّنا يُريد من كنيستهِ أن تُحِب وتُحسِن وتُبارِك وتُصلي من أجل الأعداء، فتنضج في المحبّة وتنمو في الله، وتجعل حضوره ملموساً، لأنه محبّة.
نحن إذن لسنا مدعوين لأن نختار ما بين: محبّة القريب أو رفضه (كرهه)، نجن مدعوون لأن نُحب فحسب، فليس لنا أختيار آخر سوى أن نُحِب. وهذا لا يعني أننا نتجاهل وننكر "أثرَ الشّر وتأثيره في حياتنا وفي علاقاتنا"، ولكن نقطة الإنطلاق في علاقاتنا الإنسانية ليست مبنيّة على تفضيلاتٍ شخصيّة، بل هي مؤسسة على حقيقةَ أن ربّنا يسوع، إبنُ الله، جعلنا أبناء الآب السماوي، وعلينا أن نتصرّف على مثالهِ: "وتكونوا أَبناءَ العَلِيّ، لِأَنَّهُ هو يَلطُفُ بِناكِري الجَميلِ والأَشرار"، فنتنازل عن حقّنا في الدفاع عن أنفسنا ونواصِل "الحُب والإحسان والصلاة والمُبارَكة". هذا ما يفعلهُ الله الآب، وهذا ما ينتظرهُ من أبنائهِ، وبذلك يتميّزون عن باقي الناس. فمحبّة الأعداء تُلّخص بشارة ربّنا يسوع، الذي عاشَ حقيقة هذه البُشرى فانحنى وغسلَ أقدام يهوذا الخائِن، الذي جعل نفسه عدوا لربّنا يسوع.
ربّنا يُعلِن صريحاً: هناك أعداء ومُبغضون ولاعنون ومَن يفترون ويختلقون الفضائح كذباً عنّا، وهو لا يحكم عليهم ولا يدين سلوكياتهِم، فهذا شأن يعود إلى الله، هو الديان وليس لنا الحق في إبعاد الله عن كرسي الدينونة ونجلس نحن عليه: "لا تَدينوا فَلا تُدانوا". ربنا مُهتمٌ بشكل صريح بأسلوب حياتنا كتلاميذ له، وهو يُريد أن يكون فينا فكرُّ الله ومشاعرهُ. فالله هو أبونا، سواء كُنا رُحماء أم لا، وهو يبقى أباً حنوناً حتّى لو رفضنا المُشاركة في العُرس الذي يُحييه لعودة أخينا الخاطئ (لو 15: 29- 30). لذا، يُطالبنا ربّنا يسوع بأن نسعى لأن نعيش هوّيتنا: نحن أبناء الله، فنحن لا نُحِب الآخر لنُحقق رغباتنا ونُشبِع حاجاتنا، بل لنُحقق صورة الله فينا. الله الآب أحبّنا وغفرَ لنا، وجعلنا أبناء له بيسوع المسيح، وعلينا (روم 5: 8-10)، كجواب حُبٍّ لله الآب أن نُبادِل الآخرين هذه المحبّة التي لن تأتي عفوية بل تتطلّب الدخول في مدرسة يسوع للتعلّم والثبات على الطريق، وكبح مشاعر الغضب التي تولَد فينا إزاء سلوكيات الآخرين تجاهنا، وسنفشل مراراً وننجح أحيانا، لكننا واثقون بأنه لن يتركنا وحدنا في هذا الطريق، بل سيُنعِم علينا بما نحن بحاجةٍ إليه لنواصِل المحبة.
الأحد الخامس من الرُسل
رسالة الكنيسة: أن تُبشّر بالعناية الإلهية (لوقا لو: 12: 13- 34)
طلبَ الأسكندر المقدوني الذي سيطرَ بجيوشهِ على أراضٍ شاسعةٍ من العالم، أن يحملَ أطباؤه نعشَهُ، وأن تُنثرَ أمامِ نعشهِ قطعٌ ذهبيةٌ، وأن تبقى يداه مفتوحتينِ خارج التابوتِ.
فسألوه وما معنى ذلك؟
فقال: ليعرفَ الناس انه مهما حاولنا تجنّبَ الموت، فهو آتٍ لا محالةَ، ولن يُوقفهُ أشهر الأطباءِ، وأن ما جمعناه من مالٍ هباءٌ منثورٌ، وإننا ندخل الحياة ونخرجُ منها بيدين فارغتين.
واجهت الكنيسة خطيئة "الطمع والقلق على الغد منذ بدءِ مسيرتها، فوعظت بمسيرة تُعاكِس مسيرة العالم الباحِث عن المزيد والمتخوّف من المُستقبل، فسعت لتُحقق رؤية "الملكوت" الذي بشّر بهِ ربّنا يسوع المسيح وعاشت حياة الشِركة في كل تفاصيلها لتكون إنموذج إيمان وحياة: "وكانَ جَميعُ الَّذينَ آمنوا جماعةً واحِدة، يَجعَلونَ كُلَّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم، يَبيعونَ أَملاكَهم وأَمْوالَهم، ويَتَقاسَمونَ الثَّمَنَ على قَدْرِ احتِياجِ كُلٍّ مِنْهُم" (أع 2: 44- 45). فلَم يَكُنْ فيهمِ مُحتاج، لأَنَّ كُلَّ مَن يَملِكُ الحُقولَ أَوِ البُيوتَ كانَ يَبيعُها، ويأتي بِثَمنِ المَبيع، فيُلْقيهِ عِندَ أَقدامِ الرُّسُل. فيُعْطى كُلٌّ مِنهم على قَدْرِ احتِياجِه. (أع 4: 34- 35).
الطمع والقلق يُبعدنا عن الإيمان: "إِنَّ التَّقْوى كَسْبٌ عَظيمٌ إِذا اقتَرَنَت بِالقَناعة، فإِنَّنا لم نَأتِ العالَمِ وَمَعَنا شَيء، ولا نَستَطيعُ أَن نَخرُجَ مِنه ومَعَنا شَيء. فإِذا كانَ عِندَنا قُوتٌ كُسوَة فعَلَينا أَن نَقنَعَ بِهِما. أَمَّا الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنى فإِنَّهم يَقَعونَ في التَّجرِبَةِ والفَخِّ وفي كَثيرٍ مِنَ الشَّهَواتِ العَمِيَّةِ المَشؤُومَةِ الَّتي تُغرِقُ النَّاسَ في الدَّمارِ والهَلاك، لأَنَّ حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ، وقَدِ استَسلَمَ إِلَيه بَعضُ النَّاس فضَلُّوا عنِ الإِيمان وأَصابوا أَنفُسَهم بِأَوْجاعٍ كَثيرة" (1 طيمثاوس 6: 6- 10).وكان لدينا برنابا إنموذجاً للسخاء المُحِب (أع 4: 36- 37)، وحننيا وسفيرة مثالاً للتقوى الكاذبة التي ينقصها الإيمان الحقيقي بعناية الله الأبوية (أ 5: 1- 11).
تُزاحِمُ الناس بعضها بعضاً طمعاً بالثروات، ويتقاتلون فيما بينهم حُباً بالمزيد منها، فعلّمَ ربّنا يسوع تلاميذه (الكنيسة) أن الحياة هي أعظمُ هبةٍ من الله للإنسان: "فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ"، في إشارة إلى أن الله هو الذي وهبَ وهو الذي يستردُ من الإنسان ما أودعهُ لديه. وأشارَ ربّنا بذلِك إلى ضرورة الإيمان بالعناية الإلهية والإستسلام إلى تدبيره والعيش متحررين من الخوف من "الغد"، واثقين أن الله، لأنه أبٌ مُحِب لن يتخلّى عنّا، وسيهبُ لنا ما نحن بحاجةٍ إليه.
الإيمان بالعناية الإلهية ليس دعوة إلى الكسل، فعلى العصافير أن تواصِل الطيران والبحث لتأكل ما يهبهُ الله لها، وهي تُمجّد الله الخالق بذلك، كذلك على الإنسان، أن يترَك لله المجال ليكون إلهاً فيواصل الإنسان العمل فرحاً لا قلقاً. فالقلق على الغد يجعل الإنسان لا يستمتع باللحظة الحاضرة التي يهبُها الله له، فيزداد وتتفاقم مخاوفه. وهذا مايبعده عن العائلة والأصدقاء ويحرمهُ متعة التواصل معهم. الإيمان بالعناية الإلهية لا يعني التقاعس عن العمل تحدٍ لخطيئة الطمع والقلق وفضحِ أُسسها: فهي حالة عدم إيمان بالله الآب. فإذا كُنا نؤمِن بأن الله هو الآب؛ ونُصلي إليه: "أبانا"، فعلينا أن نُعطيه المجال ليكون: "أبانا" من خلال فعل الإيمان به واثقين بأنه لن يتركنا جياعاً أو عطاشاً أو عُراة، بل سيهبُ لنا ما نحتاجه في أوانهِ. ليكون فعل الإيمان دعوة للتحرر من هذا القلق والخلاص من خطيئة الطمع. العمل بحدّ ذاته ليس خطيئة، بل القلق الذي يزرع في قلوبنا الخوف من المُستقبل، ويُطفئ فينا شعلة الإيمان التي يجب أن تُنير العالم: يكفي الله هو للإنسان.
الرغبة في الحصول على المزيد من المال، (الطمع)، والخوف من الغد تعني عدم الإيمان بأبوّة الله وعنايتهِ، فنظن أن الخيرات المادّية تولينا الراحة والآمان، وهذا شكلٌ من أشكال الاعتقاد الباطل، مثلما ظنَّ الغني الغبي في تفكيره الأناني في مواقفهِ. فعوض أن يكون غنياً بالله من خلال مُقاسمة الخيرات مع الفقراء والمحتاجين، راحَ يُفكِر في توسيع الأهراء معتقداً أنه بذلِك يستعد للغد ليواصِل التنعُم، متناسياً أن الله الذي وهبَ الحياة، سيهبُ معها قوتها لأنه يعرِف حاجات الإنسان، إن إستطاع الإنسان أن يكون حُراً، فيتوقّف عن النظر إلى ذاته والبحث عن إحتياجاتهِ، ويبدأ النظرِ إلى الحياة من حولهِ ليرى عجائب الله، ليكون سخياً في العطاء.
"بلِ اطلُبوا مَلَكوتَه تُزادوا ذلك" ... "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها" ، ربّنا يسوع يُرشدنا من أين تكون البداية؛ الإهتمام بنشرِ ملكوت الله، ملكوت العدالة والرحمة والتضامن مع الآخرين. ملكوت نختبرهُ من خلال مواقف مُحبّة، فنٌشارِك الآخرين ما وُهِبَ لنا، لكي لا يكون بيننا مُحتاج أو فقير أو معوّز. وبالتالي. التغلّب على مشاعر الحسد والطمع والقلق على المُستقبل التي يدعو إليها ملكوت الإنسان، ملكوت الطمع والجشع والقلق، التي تدفعنا إلى ارتكاب الخطايا: الكذب والسرقة وقتل الآخر من أجل تأمين احتياجات الجسد.
لذلك، يواصل تعليمه عندما قال: "... "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها"، فلا يكفي أن يكون لنا سخاءٌ في العطاء، بل أن نكون متحررين من رغبّة التملّك، إذ يُمكن للشخص أن يكون سخياً في العطاء ولكنه عبدٌ لثرواتهِ، وهذا ضلال وعوزٌ في الإيمان. ربنا يعرف أننا نبحث دوما عن المزيد، مع أننا لسنا بحاجةٍ إليه، لذا، يُريدنا أن نقف أمامه صادقين في صلاتنا: أبانا، ونحقق في حياتنا هذه الصلاة، من خلال الإيمان بعنايتهِ الأبوية، والتوقف عن معاداة الآخرين بسبب "شهوة مقتنيات القريب".