الأحد الخامس من الدنح
رجاءٌ حتّى المنتهى (عبر 6: 9- 7: 3)
يُخاطِب كاتب الرسالة إلى العبرانين أبناء كنيستهُ، والذين كشفوا عن ضجرٍ وضيقٍ إذ أنهم يشعرون بظلمٍ لا يستحقونهُ من جراء تناسي الله لهم. يفعلون الخير ويخدمون الآخرين بمحبةٍ إلا أنهم مُضايقونَ ومُضطهدونَ، فصاروا يتسائلون: أين إلهنا من كل هذا؟ أوَ لا يرى ما نُعانيهِ؟ أهذا جزاء محبتنا وخدمتنا؟ هل تناسى ما نُقدمه للأخوة القديسيين من محبّة؟ وكأنهم صدى لصراخُ ربّنا يسوع في صلاتهِ من على الصليب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟
يُذكرهم الرسول بأسسس إيماننا المسيحي: إلهنا آمينٌ في مواعيدهِ، ولن ينسى عبيده، وهو ليس غافلاً عن إجتهادكم في الإيمان. أمانة الله هي التي تُحفّز إيمان البشر وليس العكس. البعض يُفكر: إلهنا سيُجازي المؤمن الصبور على مصائبهِ، وكأن إيمان الإنسان يُحرِك الله ليهبَ للإنسان ما يترجاّه، فصار الإيمان جُهداً بشرياً ولم يعد نعمةً. والحال، عندما عادَ الأبن الذي هربَ من بيتِ أبيه إلى نفسه تصوّر حقيقة بيت أبيه: في بيت أبي خيرٌ ورحمة وفرحةٌ وبوفرة، سواء أكنتُ موجوداً أم لا. هذا الإيمان جعلهُ ينطلق عائدة إلى أبيه، لا "خطاب الندامة الذي هيأئه في هذه المناسبة". ربٌّ البيت أبٌ مُحبٌّ، وسيقبلهُ وهذا ما حصلَ، بل اختبرَ ما لم يتصوّره. اليوم تُريدنا الكنيسة أن نسمع صوت الرسول يقول لنا: إلهنا أبٌ يُعتَمد عليه. إلهنا أمينٌ في مواعيدهِ.
يروي لنا آباؤنا الروحيون عن ضابطٍ قُدِمَ مُذنباً أمام الهيئة العسكرية العُليا نظراً لفداحة الخسارة التي الحقها بفرقتهِ في معركةٍ خاضها. ولكن، ولدهشة الجميع، ولمحبة القائد له، كلّفه بقيادة عملية عسكرية أكثر حساسية وأخطر من ذي قبل، ووضع تحت تصرّفه إمكانيات مادية وبشرية كبيرة، فأثار جدالات ونقاشاتٍ بين الضباط، إلا أن القائد أصرَّ على موقفه. وبخلاف كل التوقعات، كانت الانتصار باهراً. هكذا هو إلهنا: محبته وإيمانه بالإنسان، هي أعظم من إيمان الإنسان بنفسه، بل تحفزه ليُبدِعَ.
آمانة الله أساس إيماننا، بل علينا أن نصرخ اليوم أكثر من ذي: إلهنا أمينٌ في مواعيدهِ، ولن يتخلّى عنا حتّى وإن شعرنا بأننا نواجه العالم كلّه بمفردنا. إلهنا لن ينسى أننا أحبائهُ ونعمل ليكونَ معروفاً ومحبوباً في العالم. فالله الكلمة لم يتجسّد ليدينَ الإنسان على خطاياهُ، بشارة إنجيل اليوم تقول لنا: "الله لم يُرسل إبنه ليدينَ العالم بل ليُخلّص به العالم"، وعلى الإنسان أن يُبرهِن في حياتهِ أنه نالَ الخلاص: أن يعمل أعمال أبناء النور، أن يعملَ الحق، لأنه إبن النور.
هنا، تعلّمنا كلمة الله أن الإيمان والرجاء ليسا جهداً ذهنياً فحسب، بل التزامٌ مُحبٌ وفاعِل في حياة الإنسان، وله أثرٌ ملموس في حياة القريب. لذا، كتبَ بولس في رسالتهِ الأولى إلى كنيسة كورنثس: فالآن تبقى هذه الأمور الثلاثة: الإيمان والرجاء والمحبة، ولكن أعظمها المحبة" (1 كور 13: 13)، لأن المحبة الأخوية معيار أصيل للإيمان والرجاء الراسخ، بل برهان على أصالة هذا الإيمان والرجاء. لذا، يُشجع الرسول كنيسة العبرانيين: "لا تتعبوا من فعل الخير وواصلوا أعمال المحبّة". تماماً مثل إبراهيم الذي آمنَ أنه مُبارَك، فتركَ كل شيءٍ ليذهب حيثُ يُريده الله أن يكون، وعاشَ مُبارَكاً، وحينَ أمتحنهُ الله وأختبرَ أمانتهُ، كشفَ عن إستعدادهِ ليُقدم إبنه، حبيبهُ، لله مؤمناً أن الذي أعطاهُ إسحق، في عمرٍ متقدم، سيُباركهُ بغيرهِ.
العبرة هي هنا: أنت مُبارَك فعش حياتَك مُباركاً. هذه هي البُشرى السارة التي ألهمت قديسوا الكنيسة، وجعلتهم يتطلعون إلى السماء، فجعلوا من الأرض مسيرة نحو السماء. عندما يجعل المؤمن الله رجاؤه، هو لا يُغادِر هذا العالم هارباً، أو يقضي حياتهُ في أحلامِ اليقظة، بل ينظر إلى السماء ويوجه مسيرة حياتهِ الأرضية إليها. قديسوا الكنيسة علاماتٍ مُضيئة في طريقنا نحو السماء، وأزمة عالمنا الإنساني كانت وما زالت أنه لم يعد يُفكر في السماء، فأصحبت الأرض جحيماً لا يُطاق.
هي رسالة لنا اليوم أيضا نحن الذين تعبنا من نفس التساؤولات، ونسعى لفعل الخير إلا أننا نجد أنفسنا متعبين من عدم صدِق مَن هم من حولنا، وسعيهم إلى الإنتفاع من طيبتنا، والأمر المُحزن هو: أن غيرهم يُضايقوننا بل يُسيؤونَ إلينا. اليوم نحن بحاجة إلى أن تسمع كلمة تشجيع مُحبة لنواصل فعل الخير على الرغم من سوء الفهم الذي نواجهه من الآخرين. أزواج متعبون بحاجة إلى أن يتثبتوا في رجائهم إذ أرهقتهم الأزمات العائلية، هم بأمس الحاجة لأن يسمعوا كلمة الرسول اليوم: "الله ليس بظالمٍ فينسى أعمالكم ومحبتكم التي أبديتموها لأجل إسمهِ ولا تزالونَ تخدمونَ".