عيد الميلاد
وإِلَيكُم هذِهِ العَلامة:سَتَجِدونَ طِفلاً مُقَمَّطاً مُضجَعاً في مِذوَد (لو 2: 12)
جميعنا يطلب "علامة" بُرهاناً ودليلاً ليُصدّق حقيقةً ما. نحن نُطالِب الآخرين بأن يُبرهنوا لنا عن صدق محبتهم: بيّن لي ذلك؟ نبحث عن "دليل" محبّة الناس لنا: "ارني ذلك". ننتظر شهادة هذا أو ذاك لبيان حقيقة أمرٍ ما. بإختصار: نحن مثل مار توما، أُناس بحاجة إلى أن ترى وتلمُس لكي تُصدّق وتؤمِن: "إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن" (يو 20: 19). إلهنا يعرِف هذه الحقيقة، لذا، عنّدما بشّر الملاك الرعاة بميلاد "المسيح" قال لهم: "لا تَخافوا، ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ. وإِلَيكُم هذِهِ العَلامة: سَتَجِدونَ طِفلاً مُقَمَّطاً مُضجَعاً في مِذوَد" (لو 2: 10- 12). إذهبوا وستشهدوا على حقيقة هذا الكلام: هناك طفلٌ مولودٌ حديثاً، ومُضجعٌ في مذودٍ، وهذا ليس أمراً مألوفاً، لأن الطفل المولود حديثاً يُضجَع على سرير، أو يكون بين أحضان والديهِ، أما أن يكون مُضجعاً في مذودٍ (معلفٍ) فهذا أمرٌ غريب.
ولكن، لماذا كان مُضجعاً في مذودٍ؟ وما أهميةُ هذه العلامة؟
يُجيبُ لوقا الإنجيلي الذي تقصّى الأمر بإهتمامٍ قائلاً: "لأَنَّهُ لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في الـمَضافة". نزلوا وكانوا فقراء لدرجةِ أنهم أضطروا إلى البقاء مع الحيواناتِ.
1. لا يُمكن التعرّف عن معنى ميلاد ربّنا يسوع من دون عونِ الله الآب، فهو الذي دلَّ الرُعاة الذين كانوا ساهرين متيقظين، وأمر النجم ليقود مسيرة المجوس الذي كانوا بارعين في قراءة حركة النجوم والكواكب في السماء. فإذا كان فينا الشوقُ للتقرّب من الله الآتي إلينا، سيقودنا هو حتماً إليه على نحو لا نتوقّعهُ. كل الطُرق ستقودنا إذاً إلى بيت لحمَ، إنَّ كان فينا شوقٌ للقائهِ. ومع بيت لحم سيبدأ إلهنا بدعوة الناس إليه كلٌّ من موقعهِ ليجعل منهم عائلتهُ الحبيبة، من دون أن يستثني أحداً، بدءً من رُعاة مُهمَمشين لا مكانة لهم في المجتمع. هذا الشوق ليس بحاجةٍ إلى تحضيرات فخمةٍ مثلما تعودّنا عليها إستعداداً للميلاد، فبساطة الحدث وفقرُ الأوضاع التي وُلدَ فيها ربّنا يسوع تتحدانا لنسأل: ما الأمرُ الأهم في الميلاد؟ هل لربّنا مكانٌ في حياتي وسط هذه الإنشغالات؟ أوليست هذه كلّها جزاءً من محاولات التهرّب من "عيش خبرة الميلاد"؟ يأتينا الربُّ يطلبُ السُكنى في قلوبنا ويجدها منشغلةً عنها أو مغلقة لا تُريد الإنفتاح إلى بشارتهِ؟ فلسنا نختلفُ بذلك عن الذين رفضوا إستقبال العائلة المُقدسة في بيت لحم.
2. مُضجعاً في مذوذٍ، هذه علامة الفقرِ والبساطة والتجرّد التام. هو إنسانٌ مُحررٌ من كلِ تعلّقٍ. الإلهُ القدير، ولأنه قدير تخلّى عن مجدهِ وقدرتهِ ليظهَر للإنسان طفلاً فقيراً. تواضعَ وتضاءلَ وصارَ صغيراً ليدعو الكبار إلى محبتهِ، يجذبهُم إليهِ. "فالله من العظمة بحيث يُمكنهُ أن يُصبحَ صغيراً. والله من القُدرة بحيث يُمكنه أن يُصبح ضعيفاً وأن يأتي إلى لقائنا مثل طفلٍ دونِ دفاعٍ، لكي يتسنّى لنا أن نُحبهُ". الله هو من الصلاح والتواضع بحيث يتخلّى عن بهائهِ الإلهي وينزل إلى إسطبلٍ لكي نستطيع أن نجدهُ، وبذلك يمُسّنا صلاحهُ أيضاً، وينتقل إلينا ويستمر في العمل بواسطتنا"، على حدّ تعبير البابا بندكتُس السادس عشر.
اختار الله أن يأتي إلى الإنسان فقيراً مُجرّداً من قدرتهُ وآلوهيتهِ لكي لا يُخيفُ الإنسان، ويُعلّمنا أن القوّة ليس لها القُدرة يوماً على أن تبني "علاقة مُلتزمة مع الآخر". لذا، لكي لا يهابهُ الإنسان أو يخافُ منه، اختارَ أن يأتي فقيراً، لكي يعبدهُ الإنسان بالتقوّى والبر مثلما أنشدّ زكريا: "فَنعبُدَه غَيرَ خائِفين بِالتَّقوى والبِرِّ وعَينُه عَلَينا، طَوالَ أَيَّامِ حَياتِنا" (لو 1: 74- 75). هنا، يسألنا إلهنا: ما نفعُ الغنى إن لم تهبَ لك سلامُ القلبِ؟ وأي سعادةٍ في إمتلاك المزيد من الثروات إن لم تختبِر نعمة مُقاسمة الفقراء والبؤساء "الصلاح والطيبة" التي زرعها الله فيكَ؟ قلوبنا حزينة ومهمومة لأننا لا نملُك ما يملكهُ فلان، فما الذي ستقول أمام طفل المغارة الفقير؟ إنشغالنا بالغنى وجمع الثروات والبحث حزانى عن المزيد هو رفضٌ آخر نقوله للعائلة المقُدسة: "ليس لكم مكان في قلبي".
3. أرادَ الله أن يأتينا متواضعاً ليتمكّن من أن يحمل إنسانيّتنا بكلّيتها، لأن في الله شوقٌ إلى الإنسان، ويتطلّع إلى أن يستقبلهُ في قلبهِ، ومَن منّا يرفُض إستقبالَ طفلاً بطلُب المحبّة. ويتطلّب الأمر لكي ترى وتُصدّق ما قيل لك عنه، أن تذهَب إلى بيتَ لحمَ وتراه هناك، وتنحني لتقبلهُ. أن تنزل عن كبريائكَ، وتُبادلهُ التواضع. أن تصمُت وتُشخّص نظركَ إليه لأنهُ طفلٌ يبحث عن الحنان والحُب. طفلٌ مثل كلِّ إنسان بحاجةٍ إلى الاهتمام والرعاية، وهو يؤمِن بأنّك قادرٌ على أن تهبّ له ما هو بحاجةٍ إليه؛ المحبّة. إلهنا يؤمِن بالخير والطيبة التي فينا وإن كُنّا مراراً أنانيين في مُقاسمةِ هذا الخير مع الآخرين. هو الله الذي تجسّد ليُخلّص الإنسان، وخلاص الإنسان يكون بأن يهبَ الحُب. يُعطيه بطواعيةٍ ومجّانية لآخرين كمَن يُعطي لطفلٍ. فنحن لا نُطالبُ الطفل بأن يُعيد إلينا الحُب الذي وهبناه إياهُ، بل نُحبّهُ من دون شروطٍ أو إنتظاراتٍ. وهذا هو شكلُ المحبّة التي سيُبشّر بها ربّنا يسوع وينتظرنا نحن كنيستهُ أن نتبعهُ في مُشاركةِ الآخرين المحبّة التي أفاضها الله علينا بيسوع المسيح.
4. طفلُ المذودِ هذا سيكبُر وينمو إذا نالَ المحبّة والعناية التي هو بحاجةٍ إليهما. هو لا يحتاج أن نلتقط له الصور لتُعرَض على المواقع لتنال الإعجاب أو التعطاُف، بل هو بحاجةٍ إلى أن نُخصص له بعض الوقت لنرافقهُ في مسيرة حياته. يُؤسفنا أن نقول ان صورة الإنسان صارت أكثر أهميةً من الإنسان نفسه. ربّما فكّر الإنسان في أنه لو أرادَ ان يكون مُخلّصاً فعليه أن يكون قوياً، متسلطاً، غنياً، مشهوراً. إلهنا وملكنا يقول لنا اليوم: خلاص الإنسان يكمن في أن يكون مُحباً، قادراً على منحِ الحُب بمجّانية وبسخاء، لذا، يأتينا طفلاً ليؤكِد لنا أننا قادرون على ذلك، فمَن ذا لا يُحبُ مولوداً حديثاً؟ ومَن يستطيع أن يُعاديهِ؟ على العكس، فهذا الطفل يرسمُ وبتلقائية تامّة إبتسامةً على وجهِ الإنسان. إلهنا يسمَح لنا جميعاً بأن نحملهُ بايدينا ونضمُهُ إلى قلبنا.
طفلٌ في مذودٍ لا يُمكن أن تتجاهلهُ إذاً مهماً كنت قاسي القلب. فيكَ قوّةٌ ستدفعكَ لأن تنحني أمامهُ، مثلما سينحني المجوس، وتمدَّ يدكَ وتأخذه في أحضانِك وتُقبلّهُ حُباً وكأنهُ إبنُك. وهذه هي رسالةُ الميلاد وهذا هو الغرض من العلامة: الله جاءَ ليكون إبناً: "فولَدَتِ ابنَها البِكَر". هو يُريد أن يكون الأبن البكر لكلِّ واحدٍ منّا، وهذه الولادة ستغُيّر هويّتَك وكيانَك مثلما يُغيّر ولادة طفل حياة الزوجين فيجعل منهما أباً وأماً، وإن كانت هذه المسؤولية جسيمة ومُخيفة، فإلهنا يُبشرنا: "لا تخافوا"، وهو يواصل رسالتهُ إلينا: لا تخافوا وهي كلمةٌ يُعيدها للمرّة الرابعة عارفاً أن لجميعنا مخاوف حتّى بقدوم المُخلَّص. ملكنا يدعونا إلى أن نفرح اليوم: "لا تَخافوا، ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: "وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ". ربّنا يريد منّا أن نحمِّل الفرح إلى كلِّ من نلقاهُ في حياتنا.هذا الفرح لن ننلهُ ما لم نترك "أراضينا وراحاتنا وقناعاتنا" ونذهبَ إليه، لنكون "أُناس رضاهُ"، نبحث عن تتميم إرادتهِ مرنمين مع الملائكة: "المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام للناس الذين يُحبُهم".
5. أخيراً، المذود هو معلفُ الحيوانات، تأتي إليه وتقتاتُ ما وُضِعَ لها منه من الطعام، في إشارةٍ إلى أن هذا الطفل هو "غذاءُ الإنسان". فهذا الطفلُ وُلِد في بيت لحم؛ بيت الخُبز، لأنه هو "خبز الحياة"، هو القُربانة التي تُنعِش حياتنا، ليضحى المذود مذبح الافخارستيا. لقد جاء ليُطعِم الجياع ويروي العطشى، جاء ليخدُمَ ويفدي بحياتهِ كثيرين. وهذا كلّه من أجلنا، لكي نتمكّن من محبتهِ لا خوفاً من جبروتُه بل إنذهالاً أمام تواضعهِ وسخاءَ محبتهِ: "فَنعبُدَه غَيرَ خائِفين بِالتَّقوى والبِرِّ وعَينُه عَلَينا، طَوالَ أَيَّامِ حَياتِنا" مثلما أنشدَّ زكريا بإلهامٍ من الروح القُدس. تجسّده سيقودنا إلى الأفخارستيا حيث يُقدِم لنا نفسهُ مأكلاً وقوتاً للطريق. هو ينتظرنا اليوم، عارفاً أننا لربما لسنا مُستعدين لمثل هذا اللقاء، ولكنّه مُستعدٌ لأن ينحني مرّة أخرى ليغسل لنا خطايانا ويجعلنا أهلاً للمُناولة.
فلنُبارِك إلهنا في عيد تجسّدهِ ولنُمجدّه مع جموع الملائكة والرعاة. لنشكرهُ على عطيّة الخلاص التي صارت لنا بيسوع المسيح، ولنقبَل من أمنا مريم "الطفل المُخلّص"، ولنسمَح له بأن يُغيّرنا ويغسلنا لنُشاركهُ الفرح العظيم، فلقد وُلِدَ لنا اليوم مُخلصٌ وهو المسيح الربّ.