الأحد الثالث من الصوم
"محبّة وخدمة مجاّنية على مثالِ الإبن" (متّى 20: 17- 28)
أعلنَ ربّنا يسوع أن صعودهُ إلى أورشليم يتضمن حملَ صليبِ الألم وهو على يقين من أن الله الآب لن يتركهُ، بل سيُقيمهُ رباً، "وتَجثُوَ لاسمهِ كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبي 2: 10- 11). هذا الجلوس (التنصيب) ليس مكافأة بل هو إعلانُ مجدِ الابن من قبل الآب. في هذه الأثناء تقدمَت أم إبني زبدى، مُعترفةً بأنه هو المسيح، وطلبَت "ترقيةَ" إبنيها: يعقوب ويوحنا إلى مكانةٍ متميزة بين حلقةِ التلاميذ في ملكوتهِ المقبل: الجلوس عن يمين يسوع ويسارهِ، ويبدو أن يعقوب ويوحنّا هما اللذان دفعا والدتهما إلى طلب ذلك، لأن ربّنا يسوع حاورَ الثلاثةَ معاً جواباً على طلبِ الأم، ودعاهمُ إلى أن يُفكروا عميقاً في معنى الخلاص الذي يُريدهُ للإنسان، وما سيتوقعونهُ في المستقبل ومكانتهم في "الملكوت"، فطهرَّ نوايا عائلة بيت زبدى ليتأهلوا أن يكونوا من عائلة ربّنا يسوع.
كان ربّنا يسوع قد أعلَن لتلاميذه أنهم سيجلسون على إثني عشراً عرشاً ويدينون أسباط اسرائيل الإثني عشر (متّى 19: 28)، وأرادَ التلميذان أن يُخصص لهما الكراسي المُتميّزة: اليمين واليسار. فجاء جوابُ ربّنا يسوع لهما: "أنتما لا تعرفان ما تطلبُان"، لأنه سبقَ وقال للتلاميذ جميعاً: "وكَثيرٌ مِنَ الأَوَّلينَ يصيرونَ آخِرين، وَمِنَ الآخِرينَ أَوَّلين" (متّى 19: 30). بعد بضع سنوات أمضياها مع المُعلّم عن قُربٍ واختبار عظمة رحمةِ الله بيسوع المسيح، يبدو أنهما لا يعرفان مَن هو؟ وما مضمون البشارة؟ فتصدُق صلاة المُزمّر: "وأَنا غَبِيِّ ولا عِلمَ لي وقد صِرتُ عِندَكَ كالبَهيمة، وأَنا معَكَ في كُلِّ حين وأَنتَ أَخَذتَ بِيَدي اليُمْنى. بِمَشورَتكَ تَهْديني ووَراء المَجدِ تأخذني." (مز 73: 22- 23).
انطلق ربّنا يسوع من غباوة التلميذين وجهلهما، ليُعلّمهما (وللتلاميذ وللكنيسة) عن مضمون البشارة التي يحملها للإنسان، ويُهديهما بمشورتهِ ويأخذهما إلى المجد الذي أعدّهُ هو لهما، وليس ما يرغبان هما فيه إنطلاقاً من رغباتٍ إنسانية يعوزها نضوج الإيمان. الأمر الأهم والذي تجسّدَ لأجلهِ هو: إعلان ربوبيةُ الله وخلاص العالم ليكونَ الإنسان بقُرب الله، ودعاهما ليتبعاهُ ويقبلا إرادة الله الآب في حياتهِما، مثلما قبلها هو، ليدخُلا في صُلب علاقتهِ بالآب، ليكونا أبناءً بالإبن، ربّنا يسوع المسيح: "أَتستطيعانِ أَن تَشرَبا الكأَسَ الَّتي سَأَشرَبُها؟ ويأتي جواب الأخوين: "نستطيع". جواب متحمّس جداً أثر فيه للضعف والجُبنَ" الذي فيهما وسننتظر أن يُختَبَر عملياً. فلم يعرفا مضمون جوابهما مثلما لم يعرفا ماذا طلبا، لأن الله الآب مُستعدٌ أن يُعطي ما لا يتوقعهُ الإنسان أو ينتظرهُ، إلهنا مُستعد أن يُعطي ذاتهُ للإنسان، فكم أن الإنسان غبيٌّ فيما يتمناّهُ.
دعاهما ربّنا يسوع إذاً إلى أن يُشاركوه المصير: "تشربا من كأسي"، الكأس التي اعدها الله الآب للابن، كأس الطاعة: "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء! (متّى 26: 39)، وأن يكون فيهما الشعور الذي فيه، وهو: أن يكونَ مع الله الآب، وهذا يكفيهِ. فهو لا يتطلّع إلى شيءٍ أو يطمح في منصبٍ، كل ما يُريده هو أن يعملَ إرادة مَن أرسلهُ (يو 4: 34). عليهما ألا ينتظرا مكافأة على ذلِك، وهذا هو فعلُ الإيمان الصادِق. عليهما أن يتعلّما أن "طلبَ مشيئة الله والعمل بها" هو الأمرُ المُبتغّى، لاتّباع ربنا يسوع والبقاء معهُ ومُشاركتهُ المصير، هو الذي جاء ليعملَ مشيئة الآب (عبر 10: 5، 7). فالتباعة ليست البقاء بقُربِ يسوع، فحسب، بل أن نُشاركهُ المسيرة والمصير، أن نشُربِ كأس الطاعة لله الآب معهُ، وهذه نعمةٌ من الله الآب الذي يدعو الإنسان ليُشاركهُ حياتهُ الإلهية، فيهبَ ذاتهُ كلّيا لله مثلما وهبَ الله ذاتهُ للإنسان.
طلبُ الأخوين وجوابُ ربّنا يسوع أثارَ مشاعِر الغضب في نفوس بقيّة التلاميذ، مما يُبيّن أن جميع التلاميذ فشلوا في فهمِ ما أرادهُ ربّنا يسوع وفحوى البشارة، يبدو أن الجميع أرادوا هذه العُروش المتميّزة: اليمين واليسار، ولكنهم لم يكونوا جريئين في طلبها مثل الأخوين. فدعاهم ربّنا يسوع إليه، وتحدّاهم ليتجاوزا تجربةً "العطش إلى المناصب والتسلط" الذي يسحق الآخرين، لاسيما الضعفاء والفقراء، ودعاهم ليُفكروا ويشعروا كأبناء الملكوت، ملكوت الله. فربوبيّة الله الآب ليست بالقوة المتغطرسِة، بل بالمحبة التي تخدُم الآخر وتُنعِش حياتهُ. وهذه المحبة جعلته يتجسّد لا ليقترِح أفكاراً أو تأملاتٍ وينتظر من الإنسان أن يعيشها، بل قدّم نفسه إنموذجاً، هو الذي اختار أن يُتمم مشيئة الآب واختار طريق المحبة الخدومة ليصلِ إلى قلبِ الإنسان، ويُخلّصهُ من التجارِب التي تتحدّاهُ.
طلبُ الأم كان فرصةً ليواجه ربّنا يسوع تلاميذه بالشيطان الذي يحوم حولهما ويُجربهما برغبة التسلّط والمنافسة التي تهدِم العلاقات وتُزعزِع أُسس الكنيسة: "فلا يَكُنْ هذا فيكُم". ربّنا يسوع، وهو الابن، لم يطالب لنفسهِ بما يحقُّ للآب، ليكشِف عن أن "رغبة التلسّط والمنافسة" ليست موجودة في حياة الثالوث، لأن الثالوث هو محبّة. يكفي الابنَ أن يكونَ إبناً والآب أباً والروح روحاً، وكلٌّ يعمل من أجل مجدِ العلاقة، وهو يدعو التلاميذ (الكنيسة ونحنُ) لنكون صورةَ الثالوث على الأرض، فيضعَ كل واحدٍ نفسه في خدمةِ الآخرين، وأعطى ربّنا يسوع نفسه مثلاً ليقتدوا به، فانحنى وغسلَ أقدام تلاميذه ليُطهرِهم من "تجربة التسلّط" ومن "مشاعر المنافسة العدوانية. فرحنا ليس في المُجازاة وتمجيد الذات والتعظيم البشري، بل في أن نكون أبناءً لله الآب بالابنِ يسوع المسيح. ومن أجل أن نتعلّم كيف نعيش هذه الحياة الإلهية، يدعونا ربّنا يسوع إليه مثلما دعا تلاميذه إليه، لأنه يُحبهُم، هم خاصتهُ، ويُريدهم (ويُريدنا) أن نكون على مثالهِ هو.