عيد الختانة (رأس السنة الميلادية)
نحن مُكرسون لله الآب (لو 2: 21- 28)
تدعونا أمنّا الكنيسة اليوم للتأمل في دعوتنا التي إبتدأت من الله الذي اختارنا فكرّسنا له، فهذا هو معنى الختان: "أنه مفروز ومُكرس (مُخصصٌ) لله، لأنه هبةُ الله، في إعترافٍ صريحٍ أن كل ما لنا هو منه وإليه. وهذا التكريس لا يحطُّ من كرامتنا، بل يجعلنا له أبناء: "أمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا" (يو 1: 12- 13)، لذا، نسمعَ سمعان الشيخ يُرتِل مُسبحاً الله: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل". فهذا الطفل هو هبةُ خلاصٍ من الله، وهو يُمثِل إنتظاراتِ البشرية كلّها، والأمرُ الأهم هو: إنه البكرُ، أي الأخ الأكبر الذي يفتتحِ أمامنا الطريق الذي يُوصلِنا إلى فرح الله.
اليوم، ونحن نختُم سنةً أُعطيت لنا لنُحقق فيها مضمون دعوتنا المسيحية. فلنسأل أنفسنا: كيف تعاملنا مع عطيّة الله لنا؟ فقد أعطى الله كلاً منا وزناتٌ وفقَ إمكانياتنا وقُدراتنا، وينتظر منّا أن نُقدِم حساباً عنها، مثلما علّمنا ربّنا يسوع في مثل الوزنات (متّى 24: 14- 30). إلهنا يثقُ بنا وهو يدعونا إلى أن نثقَ بثقتهِ بنا. وهبنا ربنا كل مالهُ، سلّمنا يسوع المسيح، كلمتهُ، وينتظّر منّا أن نُسمِعَ هذه الكلمة بُشرى سارّة إلى الآخرين من حولنا. هو يعرِفنا على نحو شخصي، فأعطى وزناتٍ كلٌّ وفقَ طاقتهِ، إنطلاقاً من محبتهِ لنا. محبةٌ تتفهم واقعنا، وتدعونا إلى أن نجتهِد في البحث عن خيرنا بعيداً عن دوافع الحسد والغيرة التي تُرهقنا: "لماذا أعطاني وزنتين ولم يهبَ لي أكثر؟ ما الذي يُميّز هذا وذاك عنّي؟ أسئلة مثل هذه كفيلةٌ بأن تقتل فينا الحياة. نتذكّر كلمات المُزمّر: "يا رَبِّ قد سَبَرْتَني فَعَرَفتني، عَرَفْتَ جُلوسي وقِيَامي. فَطِنتَ مِن بَعيدٍ لأَفْكاري. قَدَّرتَ حَرَكاتي وسَكَناتي وأَلِفتَ جَميعَ طرقي. قَبلَ أَن يَكونَ الكَلامُ على لِساني أنتَ يا رَبُّ عَرَفتَه كلَه" (139: 1-4). الربُّ يثقُ بي، ويعرفني ويدفعني إلى أن أعيش جميع الإمكانات التي وهبها لي، حتّى تلك المجهولة بالنسبة لي، فالصعوبات الشخصية لن تكون، لي مع الله الآب عائقاً بل تكون تحدّياً يحفّزني على المزيد من الإلتزام والشجاعة.
نحن مدعوون إذاً لأن نستلِم هذه الوزنات، هذه الأيام، السنة الجديدة التي تُعطى لنا، كزمنٍ مُباركٍ نشكرُ فيه الله لأنه اختارنا وكرّسنا له، ومنح لنا فرصة أن نكون له شُركاء، تماماً مثل الخادم الأول والثاني اللذين إهتما بإستغلال الوزنات ولم يحسبوا أنفسهم عبيداً للسيد بل شُركاء، وأسرعوا نحو العمل والمتاجرة دون إبطاء أو تردد، ولا قلق في شأن عودة صاحبها. يكفي الخادمين ثقة السيّد بهما. فجاء سفر السيد الطويل فرصة ليُحققوا فيها ذواتهم وينموا وينضجوا ويتحملوا مسؤولية حياتهم إنطلاقاً من: السيّد وثقَ بي وسلّم إليَّ مالهُ، فعليَّ أن أُبرِهِنَ له عن كوني جديراً بهذه الثقة. ثقة السيّد بهم ومحبتهُ لهم غيّرتهم من حالة الخدم (العبيد) إلى الشُركاء، الأبناء، يحملوا للسيد محبّة ما كانت لتكون لولا مُبادرتهُ هو تجاههم، مُبادرة مُحبّة حملت للطرفين ثماراً، وزناتٍ أخرى. فالثمار جانبٌ أساسي في العلاقة. يقبَل السيد مشاعر الود والإحترام والمهابة من الخدم، ولكنه يُريد أن يرى ثمارَ هذه المحبّة: يُريد زيادة الوزنات.
محبة الله وثقتهُ تخلقُ الإنسان من جديد، مثلما خلقت خدم السيّد ونقلتُهم من حالة الخدم إلى حالة شُركاء، والتي تضمنت دعوة المُشاركة التامّة في حياة السيّد، فيُصبح اهتمام السيّد وانشغالاته انشغالهم وهمهُم على نحو شخصي: "فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ" (لو 15: 31). من الآن منح لهم السيّد الفرصة ليروا الحياة من منظاره هو، بعيونه هو، وأن يتحملّوا المسؤولية معه. فلم يكن السيّد مهتماً بالأرباح التي قدّمها له الخدم، ولم يُحاسبُهم على ذلك، بل كان مهتماً بموقفهم إزاء الوزنة، ووهبَ لهم ما بقُدرته أن يُعطي وهو: الفرح، والفرح هو هبتهُ العُظمى: "قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً" (يو 15: 11). هو يُعطي ذاتهُ: "إدخل إلى فرحِ سيّدك"، بمعنى: تعال نتقاسم الحياة معاً، عارفين أنه ليس فرح عاطفي أو مُتعة عابرة بل فرح كلّف الخدم جهداً وتعباً ومجازفة. وقبِل السيّد منهم جُهدهم وأتعابهم، بل باركها.
إلهنا وهبَ لنا سنة كاملة أرادَ فيها أن يكِشِفَ لنا عن محبتهِ، فكيفَ تعاملنا مع هذه العطيّة؟ ملكنا وربنا يهبُ لنا سنة أخرى مُحملّة بفرصٍ جديدة فهل لدينا رغبة واستعداد لنُبادلهُ المحبّة ونثقَ بثقتهِ فينا؟ نحن مُكرسونَ له، فكيفَ سنعيش تكريسنا المسيحي في عالمٍ مُضطرِبٍ بالصراعات والحروب والنزاعات؟ فينا جميعاً مخاوفُ بسبب ما اختبرناه من صعوباتٍ وأزمات خلال السنة الماضية، مخاوفُ قد تجعلنا، نتراجع أمام المُبادرات الجديدة. البابا فرنسيس يدعونا قائلاً: "يجب أن نتساءل (دوماً) ماذا نفعل كي تنمو كلمة الله لدى الآخرين. إن الرب يعرفنا شخصيا ويوكل إلينا ما يتلاءم مع كل واحد منا، لكنه يثق بالجميع! فلا نخيّبنَّ آمالهُ فندع الخوف يشل تقدمنا الروحي.