الأحد الأول من الميلاد
رأينا نجمهُ ... فجئنا نسجدُ له (متّى 2: 1- 23)
كان اليهود ينتظرون "حجَ" الأمم نحو الله: "ويَكونُ في آخرِ الأَيَّام أَنَّ جَبَلَ بَيتِ الرَّبِّ يُوَطَّدُ في رَأسِ الجِبالِ وَيرتَفعُ فَوقَ التِّلال. وتَجْري إِلَيه جَميعُ الأُمَم وتَنطَلِقُ شُعوبٌ كَثيرةٌ وتَقول:هَلُمُّوا نَصعَدْ إِلى جَبَلِ الرَّبّ إِلى بَيتِ إِلهِ يَعْقوب وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه فنَسيرُ في سُبُلِه لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ" (إش 2: 2- 3)، فرأى متّى الإنجيلي تحقيق هذه النبؤات في ولادة ربّنا يسوع المسيح من خلال استجابة مجوس من المشرِق لرؤية نجمٍ مميّز في السماء فجاؤوا ليبحثوا عن الطفل- الملك وليُقدموا التعبّد اللائق له. المجوس: حُكماء من المشرق يتمتعون بمعرفة دينية ولهم دراية عميقة في الفلَك. تميّزت حياتهم بحُبهم للحقيقة وكان لهم الإستعداد للترحال بحثاً عنها. ونحن نعرِف أن متّى الإنجيلي كان يُريد أن ينقل لنا "تعليماً لاهوتياً" أكثر منه معلومات فلكية تاريخية، لاسيما "موضوع إعلان مسيحُ الله للوثنيين". لقد أرادَ أن يقول لنا: إنَ الحُكماء (المجوس) تعرفوا إلى المسيح يسوع، فالحكمة تقود الإنسان الباحِث عن الحقيقة إلى المسيح، كما تقود النبؤات المؤمن إلى المسيح أيضاً.
فمع المجوس تنطلق البشرية كلّها نحو المسيح حاملين انتظارات البشرية بأسرها للقاء المسيح، المُخلِّص. وهو (أي متّى)، وعلى مثال سفر التكوين، يُريد إخضاع الخليقة للخالِق ويهبَ للإنسان كرامة المخلوق على صورةِ الله. حيث كان الإنسان يتوجّه نحو النجوم ليعبدها ويُقدِم لها الذبائح لتدفع عنه تهديدات الطبيعة، يأتي "نجم المجوس" هذا ليُشيرَ إلى الإنسان، فهو الذي يُحترَم ويُكرّم، فالنجم يتبعُ الإنسان ويُشيرُ إليه، لأن الإنسان، المخلوق على صورة الله، أعظمُ من كل الخلائق. فمحبّة الله هي التي تُسيّر الكون، وتُحرِك الكواكب، فلا مجال للإيمان بالقدرية أو الصُدفة، بل بروح الله التي ترفرف على وجهّ الأرض (تك 1: 2)، الإيمان بمحبتهِ التي ظهرَت بملئها بيسوع المسيح.
بادرَ الله وحضرَ إلى جانب الإنسان، فولد في بيت لحم، واستجابَ المجوس لهذه المُبادَرة ليس إعجاباً بهذا الحدث، بل تحركاً مسؤولاً: "رأينا ... فجئنا ...". حضور الله يتطلّب استجابة مُلتزِمة من الإنسان. هذه الإستجابة تتضمن بحثاً يقظاً ومسؤولاً. فالمُجرِب يحومَ حولنا، ويُريد أن يُعكّر صفاءَ المسيرة، ولا نستغرِب إذا كنا، مع حُسن نوايانا، نلتقي "الشخص" الذي يسدي الينا بنصائح خاطئة (هيرودس إنموذجاً)، والتي من شأنها لو تحققت أن تُدمِر كل المسيرة. اليقظة ستجعلنا نميّز إرداة الله التي تتشابَك مراراً مع مصالح الإنسان الأنانية مؤمنينَ أن الله الآب لن يتركنا وحدنا، بل سيأتي إلى عوننا ما دُمنا أمناء في المسيرة. جاؤوا يسألون: "أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه" (2: 2)، وهي نفس العبارة التي ستُكتَب على الصليب: "ووَضعوا فَوقَ رَأسِه عِلَّةَ الحُكمِ علَيه كُتِبَ فيها: "هذا يسوعُ مَلِكُ اليَهود" (27: 37). ففي بحث المجوس عن الطفل تضطرِب أورشليم مثلما إضطربَت يومَ دخول ربّنا يسوع أورشليم: "إرتجّت المدينةُ" (متّى 21: 1).
"دَخَلوا الَبيتَ فرأَوا الطِّفلَ مع أُمِّه مَريم"، تُشيرهذه العبارة إلى مكان تواجد الطفل، حيث يهبُ الله نفسه للإنسان، ويستسلم الإنسان إلى محبّة الله. مريم تحتضنُ الله تحت سقف بيت غير معروف، وهي تنتظر "مَن يبحَث" عن الله لتتعّبد له. لم تنطق بكلمةٍ أمام حضور الله، بخلاف هيرودس المُضطرب والقلقِ، والذي جعل الجميع يضطرِبون معه، بل واصلت العناية بالطفل لتُغذيه، وتحميه، وهذا هو فعل العبادة الذي التزمت به، وهي تواصِل هذا العمل إلى يومنا هذا فتُرشدنا مثلما أرشدت الخدَم: "إفعلوا كل ما يأمرُكم به". مريم حاضرة لأن تُقدِم الأبن الإلهي لكل مَن يبحث ويجد ويعبُد، لأنها هي الأولى التي تتقدمنا في فعل العبادة، فحين كان المجوس يتبعون النجم، كانت أمنا مريم تعتني بالطفل، وحين كان هيرودس يبحث عن الصبي، كانت تعتني هي بالصبي، وحين فتش العلماء في الكتب كانت هي تعتني بالطفل، حتّى قدمتهُ للعالم. في فعل الحب والعطاء الكامل سنجد المسيح دوماً، حيث الله يهبُ نفسه للإنسان، وحيث الإنسان يستقبل هذا الحب بتواضع وطاعة إيمان؛ سنجد المسيح ثمرة هذا اللقاء الإلهي – الإنساني.
لم يسجد المجوس أمام هيرودس الملِك، ولكنهم سجدوا للطفل المولود ملكاً، وقدّموا له هدايا تُعبّر عن إكرام الشعوب لإله إسرائيل مثلما أعلنَ إشعيا: "حينَئذٍ تَنظُرينَ وتَتَهَلَّلينويَخفُقُ قَلْبكِ وَينشَرِح فإِلَيكِ تَتَحوَلُ ثَروَةُ البَحْر وإِلَيكِ يأتي غِنى الأُمَم. كَثرَةُ الإِبِلِ تُغَطِّيكِ بُكْرانُ مِديَنَ وعيفَة كُلُّهم مِن شَبَأَ يَأتون حامِلينَ ذَهَباً وبَخوراً يُبَشِّرونَ بِتَسابيحِ الرَّبّ" (إش 60: 5- 6). وليُعبروا عن ألقاب المسيح الثلاثة: الذهب إشارة إلى ملوكيتهِ (آمنوا به)، والبخور إلى آلوهيتهِ (قدّموا فعل العبادة له، قابلية الإنسان للإستسلام لله) والمُر إلى سرّ آلامهِ (أعلنوا سرّ آلامه وإمكانية الإنسان للمُشاركة في سرّ الخلاص والتبشير). تعبّدهم جاء خاتمة بحثٍ مُشتاق إلى سّر محبّة الله الذي دفعتهُ ليكون إنساناً إلى جانب الإنسان. هم كانوا متأكدين أن الطفل – الملك ليس بحاجةٍ إلى هذه، لكنها كانت هدايا رمزية تُعبّر عن تعبدهم واستسلامهم التام إليهِ، وهذه هي الهدية العُظمى التي ينتظرها الله من الإنسان: الإيمان، التعبّد المُحبِ من دون خوفٍ، والتبشير به إلهاً مُحباً خلال شهادة الحياة فيُشاركوه عمل الخلاص.