الأحد الثالث من الصيف
التوبة: هوية جديدة للإنسان (يو 9: 1- 38)
تعودّت الناس على أن تُلقي للمتسوّل نقوداً أو تترك له طعاماً أو ملابس، ويكون العطاء من الفائِض عن حاجاتهم، وتتوقّع الناس من المتسوّل أن يشكرهم على إحسانهم. ربّنا يسوع مرَّ في حياة هذا الأعمى، وأعطاهُ ما لم يُعطهِ آخرون: المحبة والرحمة والتي تمثلّت بالاهتمام والعناية به على نحو شخصي.
لم يسأل هذا الأعمى ربّنا يسوع العون، ولم يطلب أحدٌ من ربّنا التدخلَ لشفائهِ مثلما حصل في مناسباتٍ أخرى، ربّنا هو الذي أخذ المُبادَرة فتوجه نحو الأعمى وإنحنى أمامه متضامناً مع معاناتهِ، ووضعَ طيناً على عينهِ وخاطبهُ شخصياً: "إذهب وأغتسِل في بركة شيلوحا". هذه هي قُدرة الله الآب: محبتهُ لكلِّ إنسان وعلى نحو شخصي، وهذه المحبة ليست إهتماماً بحاجاتهِ الجسدية فحسب، بل، راح ربّنا يسوع يبحث عنه بين الجموع ليُثبتهُ في الخلاص الذي نالهُ ويجعل منه رسولاً له، فيتمجّد إسم الله دوماً ويُعبدَ إلهاً رحوماً: "فقال: آمنتُ وخرَّ فسجدَ له".
موقفٌ ربّنا يسوع هذا جاء خلافاً لما توقعهُ تلاميذه الذين كانوا يبحثون عن أسباب تعاسة هذا الإنسان. كما وعاكس موقف الكتبة والفريسيين الذين اتخذوا من الشريعة ذريعة لحبسِ الناس وتوبيخهم على سلوكياتهم التي لا تتوافق مع ما يؤمنونَ به. ربّنا يسوع، وجه رحمة الآب، جاء لا ليروي لنا أسباب ألمِ الإنسان وتعاستهِ، ولم يفرض الشريعة قانونا يحدُ ويُحدد بُشرى الخلاص، بل إنحنى نحو هذا المُهَمَش ليُقول له: "أنت مهمٌ في عيون الله"، "انا موجود لأجلِكَ"، آمن فتنالَ الشفاءَ ويتمجّد إسمُ الله إلهاً أباً ومُحباً.
لقد نالَ هذا الأعمى هويةً جديدة، فبعد أن كان يستعطي عطفَ الناس ويصرخ نحوهم ليجذبُ أنظارهمُ إليه ليُحسنوا إليه، أرسلهُ ربّنا يسوع إلى بركة شيلوحا (بركة الرسول)، وولِدَ من هناك رسولاً يشهدُ لقُدرة الله في ربنا يسوع، وحثَّ الناس لتؤمنَ بالبشارة من دونِ خوفٍ أو مساومة مثلما فعل والداهُ. وكشفَ في ذلك عن "العمى" الذي أصابَ الجميع، فلم يروا رحمة الله التي تجلّت في ربنا يسوع المسيح، ولم يتوبوا إليه، لذلك فهم عُميان منذ طفولتهم. هم آمنوا بإلهِ ديان يُحاسبُ الإنسان حتّى وقت معاناتهِ، متناسينَ رحمةٌ الله التي لم تحكُم الشعب الخائِن، مثلما لن تحكُم على الأعمى أو تدينهُ، بل رفعتهُ ليعيشَ إنسانيتهُ بكرامةٍ. ولم يتطلّب الأمرُ سوى "إنحناءةٌ مُحبة وصادقة" من ربّنا يسوع ويُشعرهُ بأنه إنسانٌ يستحقُ الإهتمام، حتى بعد أن أبصرَ طريقهُ. رحمةُ إلهنا ولمسةٌ ربّنا يسوع المسيح كشفتَ عن "العمى" الذي اصابهم، فكلهّم مهتمٌ فقط بمظهرهِ وتدينهِ وما الذي يقول الناس عنهم، حتّى والده، لم يُقدمان لأبنهما الأعمى الدعم والمساندة التي هو بحاجةٍ إليها في مثل هذه الأوقات، بل تهربوا خوفاً. وهذا هو "العمى" الحقيقي: إهتمامي بنفسي وبحياتي من دون أن أُبالي بما يعيشهُ الآخر من معاناة، لذلك قالَ الآباء الروحيون: "كلّنا يولَد أعمى منذ الطفولة".
لم يذكر لنا الإنجيلي يوحنّا إسمَ هذا الأعمى، وتعمّد في ذلك، لأنه يُمُثلنا جميعاً نحن الذين مراراً ما نُوقفُ الحياة أمام حدثٍ أو أزمة أو مُشكلة، ونتوقف عن الرؤية رافضين مواصلة السير خلفَ ربّنا يسوع المسيح، الرحوم الشافي. يروي لنا الكتاب المُقدس قصةّ نعمان السوري (نعمان الأبرص) في سفر الملوك الثاني (5: 1- 19) فنعمان كان ضابطاً مشهورأً في جيش آرام، ولكنه عانى من البرص، ففي حياة كل إنسان مهما كان عظيماً معاناة شخصية، صليبٌ عليه أن يحملهُ بإيمانٍ. قالت له خادمتهُ أن في إسرائيل (السامرة) نبياً عظيماً سيشفيه. نعمان السوري، الرجل العظيم يسمع لخادمتهِ في موقف متواضعٍ منه، فخاطِب ملكهُ والذي بدورهِ أرسل إلى ملكِ إسرائيل طالباً تقديم العون لنعمان، فشقَّ ملكُ إسرائيل ثيابهُ قائلاً: "ألعليَّ أنا الله الذي يُميتُ ويُحيي". رأى ملكُ إسرائيل الأزمة عسكرياً وظنَّ أن ملك أرام عازمٌ على غزو البلاد. فلما سمِعَ إليشاع النبي ما فعله الملك وبخهُ لعدم إيمانهِ وطلبَ منه أن يُرسل إليه نعمان الأبرص، وهو بدورهِ أرسلهُ ليغتسِل بمياه نهر الأردن سبع مرات.
غضبَ نعمان من إستقبال النبي له ومن أمرِ النبي وقرر العودة إلى ديارهِ حتّى أقنعه خدامهُ قائلين: "لو أمركَ النبي بأمرٍ عظيمٍ، أما كنتَ تفعلهُ؟ فكيفَ بالأحرى وقد قالَ لك: "إغتسِل وآطهر". فأطاعَ ونالَ الشفاء ووقفَ أمام النبي إليشاع ممجداً الله: "هاءنذا قد علمتُ أن ليس في الأرض كلّها إلهٌ إلاَّ في إسرائيل". وأخذ كومة ترابٍ، من تراب أرض إسرائيل، ليتعبدّ لإله إسرائيل فقط.
في حياتنا أخطاءٌ وأزماتٌ يُمكن أن نواجهها بقُدراتنا ومهاراتنا الفكرية والعلمية والتي تجعلنا مُحبطين من هولِ هذه الأزمات وجسامتها. لربما إرتكبنا خطايا نشعرُ بالأسى والحزن بسببها، بل ونُعذِب أنفسنا شعوراً منّا بالتقصير والإهمال، نسعى للتعويض غير عارفين إننا محبوسينَ في الماضي ولم نعد نرى المُستقبل مع إمكانياتِهِ. أو أن نواجهها بتواضعٍ فيها نقبلُ رحمةِ إلهنا الذي مدَّ يدهُ بربنا يسوع ليشفينا منها، مهما بدت الصعوبات والإعتراضات كبيرة خارجية كانت أم داخلية والتي تنتفض معارضة سيرنا طريق الشفاء الروحي.
"آمنتُ، وسجدَ"، وهذه هي خاتمة الشفاء الأعمى من بطنِ أمهِ، وطريق التوبة الصحيح. العودة إلى الله والتعبّد له بمحبة وصدقٍ، فالتعبد لغيره سواء أكانت طموحاتٍ أو منجزات أو أشخاص يُعمي عيوننا ولا نرى حضورهُ المُحِب من حولنا. لقد غيّر ربّنا يسوع حياة الأعمى، فإنتشلهُ من موضع الهدوء والإحسان والشفقة وأرسلهُ ليكون سبب خلافٍ حتّى مع أقرب الناس إليه. مسهُ ربّنا بنورِ الإيمان وجعلَ حياته في فوضى عارمةِ وتركهُ يواجهَ العالم وحده بعبارة واحدة: هذا الرجل هو من الله. وهكذا تنعمَ بالشفاء الجسدي والروحي معاً.
فهل لنا هذه الشجاعة لنكون مثل هذا الأعمى رُسل لربنا يسوع؟