الجمعة العظيمة
"هذا يسوع ملكُ اليهود" (متّى 27: 37)
العظِة الأولى
جمعنا إلهنا وربّنا اليوم لنقفَ أمامَ الصليب لنقولَ له مَن نحن أمام يسوع المصلوب: قائد المئة الوثني أعلن حقيقة يسوع: "كان هذا الرجل إبنُ الله حقاً" (مر 15: 39)، وكتبَ بيلاطُس "بالعبرية واللاتينية واليونانية: "يسوع الناصري ملكُ اليهود" (يو 19: 19).
إلهنا ينتظر منّا جواباً شخصياً فالمسيحية ليست فلسفةً أو برنامج أو حزب ننتمي إليه، بل علاقةٌ ولقاءٌ شخصي مع ربّنا يسوع المسيح، الذي يفتح ذراعيه على الصليب ليُصالحنا مع الله الآب، فلأجل هذا "تجسّد، صارَ إنساناً، ليُصالحنا إلى قلبِ الله. وهذه كانت إرادةُ الله ليتمَّ ما جاءَ في الكُتب، فرفِعَ على الصليبِ ملكاً لأن الله أرادَ أن يُعلنهُ ملكَ الملوك: يسوع المسيح.
ولأننا عُمذنا بإسمهِ، فنحن: "جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ." (1 بط 2: 9). هذا ما علّمهُ بطرس في رسالتهِ: نحن شعبٌ أختاره الله: مسحهُ (ماشيحا) لنكون كهنةً وأنبياء وملوك على مثالِ ربّنا يسوع الكاهن والنبي والملك. فرفعهُ على الصليب هو إتمامٌ لإرادةِ الله التي جاء ليعيشها ويُعلنها، وبدءُ ملكوتُ الله الذي أوكلَ إلينا أن نواصِل إعلانهُ.
المسيحية ليست "علاقة شخصية بينك وبين الله" مثلما نسمَع هذه الأيام، المسيحية لقاءٌ بيسوع المسيح الذي دعاني من الظُلمةِ إلى نورهِ العجيب، لا لأسكتُ بل لأُخبِرَ العالمَ بفضائلهِ، ولكن وفقَ الطريق الذي اختارهُ هو لي، طريق المحبة والغفران والخدنة، طريق الصليب الذي سارَ فيه هو أولاً، وتقدمني فيه: هو بكرُنا. طريقُ جمعَ خوانةً ومُشككين وناكرين ومُستهزئينَ ومُعذبين ومُضطهدينَ وتائبين ومؤمنينَ. والله الآب صادقَ بإقامتهِ ربّنا يسوع من بين الأموات على هذا الطريق، وعلينا جميعاً نحن المؤمنون بها أن نسيرهُ بأمانةٍ ونعيش نعمة الكهنوت والنبؤة والملوكية التي أتمّها ربنا يسوع في حياتهِ ودعانا لأن نُشاركهُ هذه المسحة: مَسحة الكهنوت ومسحة النبؤة ومسحة الملوكية، والصليبُ عرشنُا.
مسحة الكهنوت تُلزِمنا بأن نعمَل على مُصالحةِ الإنسان إلى قلبِ الله، لأن الكاهن هو مَن يُحضِر الله إلى الإنسان، هذا كان واجبُه في الكتاب المُقدس. مهمةُ الكاهن كانت أن يعمل على أن يجمع ويوحّد "الله والإنسان معاً"، الله الباحِث عن الإنسان، والإنسان الذي يرغب في العيش بعيداً عن الله. الإنسان الذي يُريد أن يكون إلهاً من دون الله، فيتعلّق بالمخلوقات ويتناسى عبادةُ الله.
فالله طلبَ من موسى أن يذهبَ إلى فرعونَ ليسمحَ للشعب المُعذَب والمُهان بأن يخرج إلى البرية ليعبدهُ: (خر 3: 18). لم يدنهُ لأنه أهانَ الشعب وإستعبده بل طلب منه أن يسمح للشعب بأن يتحرر من سطوته وينال فرصة التحرر هو من "شهوة التسلّط"، ورفضَ فرعون وتحدّى الله، فنال عاقبةَ عصيانهِ.
عبادة الله تمنحَ للإنسان الكرامةَ وتهبُ له السلامَ الداخلي بخلاف العبادات الأخرى التي تتركهُ متعباً لا يعرِف كيف يُرضي آلهتها، والخطيئة التي تتركهُ مُضطرباً مشوشاً، لنسمعَ إلى مار بولس يحكي قصتهُ مع الخطيئة:
"ولكِنِّي بَشَرٌ بِيعَ لِيَكونَ لِلخَطيئَة. وحقًّا لا أَدْري ما أَفعَل: فالَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، وأَمَّا الَّذي أَكرَهُه فإِيَّاه أَفعَل. ... ما أَشْقاني مِن إِنسان ! فَمن يُنقِذُني مِن هَذا الجَسَدِ الَّذي مَصيرُه المَوت؟ الشُّكرُ لله بِيَسوعَ المسيحِ ربنَّا ! فهاءَنَذَا عَبْدٌ بِالعَقْلِ لِشَريعةِ الله وعَبْدٌ بِالجَسَدِ لِشَريعةِ الخَطيئَة". (روم 7: 14- 25).
ولأن الله أبٌ مُحبٌ، لن يترُك الإنسان في عذابهِ هذا، لذا، أختارَ إبراهيم (وشعبه) ليُؤسس معه علاقة شخصية يكون فيها هو المعبود حصراً دون سواه، فإذا نجحَ إبراهيم (وشعبه) تبارَكت به جميعُ شعوب الأرض (تك 12: 3). فعلى الشعب أن يحرص أن لا يعبُد إلا الله، لأنه مسؤول عن رسالةٍ إذا أتمّها صارَ بركةً للعالم أجمع، فمن خلالهم سيجمع الله العالم كلّه له شعباً يعبدهُ بالروح والحق (يو 4: 23).
والحال أن الشعب أخطأ في العبادة، وكان عليه العودة وكل عودّة تكون مؤلمة وقاسية إذ تتطلّب ترك الطريق الذي يسيره الإنسان ليعود مرّة أخرى إلى الطريق الصحيح، لذا، قُدِمت ذبائح التكفير لا لأن الله يُريد هذه الذبائح، بل لأن الإنسان يقول فيها لله: "يا إلهي، كان من العدالة أن يكون مصيري مصير هذه الذبيحة"، لأني لم أحافِظ على العهد، ولكني اقدمها عوضَ عنّي وأعدُك بالتوبة والندامة.
إعتاد اليهود الاحتفال بيوم "كيبور" يوم التكفير والذي فيه كان يدخل فيه رئيس الأحبار قُدس الأقداس حاملاً "ذبيحة التكفير" والتي يُحمّلونها رمزيا كل خطايا الشعب، ويأخذ دمُ هذه الذبيحة ويرشهُ على جدران الهيكل، ثم يخرج إلى الشعب حاملاً "صفحةً" فيها من نفس الدم، ولكنه، أي رئيس الأحبار، يتكلّم هذه المرّة بإسم الله ليقول: "هذا هو دمي". إلهنا يُشِرك الشعب في حياتهِ، أصبحوا دماً واحداً، حياةٌ واحدة. نَفسٌ واحدٌ. هنا نفَهم معنى قول يسوع: "هذا هو دمي"، فما صنعهُ يسوع البارحة في العشاء كان طقساً كهنوتياً والذي كان يُمارَس في الهيكل، الذي الذي صارَ محط انتقاد الأنبياء للفساد الذي طالهُ فالطقوس أصبحت إلهاً يُعبَد، ناهيكَ عن الفساد المالي الذي كان فيه.
جاء ربّنا يسوع، والذي أرادَ أن يُصالِح الإنسان إلى الله، وهذه مهمّة الكاهن، من خلال ذبيحة الطاعة التي قدّمها لله الآب: "يا أبتِ، إنّك على كلَّ شيء قديرٌ، فآصرف عنّي هذه الكأس. ولكن لا مثلما أنا أشاءَ، بل ما أنتَ تشاء" (مر 14: 36). ليس فحسب، بل المكان الذي فيه تتمُ المُصالحة: الهكيل الجديد، ليكون هو نفسه الكاهن والذبيحة والهيكل معاً: "أُنقضوا هذا الهيكل أُقمهُ في ثلاثة أيامٍ!" (يو 2: 19). فعندما نسمعَ عبارة: "يسوع المسيح عظيمٌ أحبارنا"، فهذا يعني أنه أكملَ كل إنتظارات العهد القديم الكهنوتية، لأن وجودهُ كان وجوداً كهنوتياً: "طعامي أن أعمل مشيئة مَن أرسلني". كان في تناغمٌ تام مع إرادة الله.
يوحنا المعمذان، وهو من عائلة كهنوتية، ونشأ وتربى في الهيكل ويعرِف كل طقوسهِ، رفضَ البقاء في هيكل أورشليم وراح إلى البرية ليُمارِس خدمتهُ الكهنوتية، والتي تطلّبت غسل الماء، وهو طقسٌ كان على مَن يدخل إلى الهيكل أن يغتسل قبل أن يُقدِم الذبيحة. يوحنا نفسهُ أعلنَ عند مجيء يسوع: "هذا هو حملُ الله الحامِل خطايا العالم"، وسامعوه كانوا يعرفون معنى هذه العبارة: "هذا هو المزمع أن يحمل كل خطايا العالم، وحملها اليوم من جراء خيانة يهوذا، وعداوة رؤساء الكهنة، وتخاذل الشعب ونكران بطرس، وعلى الرُغم من هذه كلّها لم يتراجع عن تقديم العبادة لله فصرخَ اليوم: "يا أبتاه بين يديكَ أستودع روحي". من على الصليب حقق المُصالحة ما بين الإنسان والله: "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون"، لقد غفر لهم وطلبَ من أبيه أن لا يُمسِك عليهم خطيئة لأنهم جهلة علّهم يتوبون، وهذا ما حصلَ بالفعل، فلقد تابَ أحدهم، قائد المئة، وأعلنَ: ""كان هذا الرجل إبنُ الله حقاً" (مر 15: 39).
من على الصليب خرجَ دمٌ وماء، هو دمٌ المُصالحة الذي كان رئيس الأحبار يرشهُ على الشعب، وماء يغسل نجاسة الشعب الخاطئ. ماء يخرجٌ من الهيكل الجديد الذي عزمَ الله على بنائهِ مثلما تنبأ حزقيال النبي (حز 47)، فيُعطي حياة طيبّة لكل مَن يشربُ منه.
إخوتي وأخواتي،
الصليبُ هو المذبح الذي عليه قدّم ربّنا يسوع حياتهُ ذبيحة الطاعة التامّة لله. فكل الذبائح التي قدِمَت في الهيكل الفاسِد لم تكن كاملة والله كان يبحث دوماً عن ذبيحة تامّة، وهي جاءت من إنسانٍ كامل ليجعل من حياتهِ كلّها ذبيحةً لله، ويجعل المُصالحة ممكن ما بين الله والإنسان لأنه أزالَ عن الطريق كل ما يمنع الإنسان من تقديم العبادة الصحيحة له. مثل إبراهيمَ الذي لم يتردد من تقديم إبنه إسحق وحيدهُ والذي يُحبهُ لله: "هو بركة منَك وها أني اٌقدمهُ لك" (تك 22) لأنه تعلّم أن أمرَ الله يُطاع إذا ما أرادَ أن يكونَ شريكاً أمينا في العهد. طاعة إبراهيم جعلتهُ يترك ماضيه وحاضره إلى رعاية الله، ليتغرّبَ في أرضٍ لم يعرفها من قبلُ، وتركَ مُستقبله أيضاً بيد الله. طاعة إبراهيم أعطته عينان ليرى ما يُريده الله منه، على الرغم من أن الله لم يذكر له إسم المكان تحديداً، ولكنه سارَ حياته بما يُرضي الله: "رفعَ إبراهيمَ عينه فأبصرَ المكان من بعيدٍ".
طلَبَ إبراهيم من خدمه البقاء أسفل الجبل، لينفردَ هو مع إسحق "الصبي" للسجود لله، ولن يُعيقوه إذا ما أرادَ تقديم إسحقَ ذبيحةً. يُسميّه "الصبي أو الغُلام" وكأنه يتخلّى عنه منذ الآن لله واهبهُ، ليكون منذ الآن خادمُ المحرقةِ، خادم وصيّة الله.
وقفَ إبراهيم أمام اختيار صعب: الولاء لله أم الولاء لإبنه إسحق، فأختارَ الثقة بالله على الرغم من أنه لا يستوعبها تماماً. وصلَ الجبلَ وأعدَّ الذبيحة: إسحق الذي أطاعَ صامتاً: ""ظُلِمَ وهو خاضعٌ وما فتحَ فمهُ. كانَ كنعجةٍ تُساقُ إلى الذبحِ، وكخروفٍ صامتٍ أمام الذين يُجزّونهُ لم يفتح فمهُ". (إش 53: 7). ورفعَ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح إبنه، فناده ملاك الربَّ بإسمه مرّة أخرى: "إبراهيم، إبراهيم! قال: "نعم، ها أنا". (22: 11). إبراهيم لم يبخَل بإبنه على الله، لقد قدّمه له، ونالَ إسحق حياته من الله، وليس لإبراهيمَ فضل في ذلكَ.
ومخافة الله تظهر من خلال "طاعة الإنسان" لمشيئة الله، فهي ليست مشاعر وعواطف رخيصة، بل إلتزاماتٍ مُكلفة وإبراهيم يعرف كم كلّفته هذه الطاعة من تخلّياتٍ.
اليوم نسأل أنفسنا، نحن الذين اختارهم الله بنعمتهِ لنكون شعبهُ ووهبَ لنا كهنوتاً ملوكياً. اليوم يتحدانا ربنا يسوع المسيح نحن الذي دعاهم للإشتراك في ذبيحة الأفخارستيا:
هل أقوالي وأعمالي تدعو إلى المُصالحة ما بين الله والإنسان؟
هل أقومُ بما يلزَم لأجعل هذه المُصالحة ممكنة؟
كيف لي أن اُقرِّبَ أكثر ما بين الله والإنسان؟
كيف لي أن أكون الهيكل الذي فيه يقتربُ الله من كل إنسان ألتقيهِ في حياتي؟
هل أسعى لأٌقدمَ حياتي لأكون ذبيحة شُكرٍ وحمدٍ لله؟
الكاهنَ يُصلي من أجل غفران الخطايا، وربّنا يسوع يغفِر لصالبيهِ ويطلب من الله ويتشفّع لهم، فهل أعيش إيماني المسيحي غافراً للناس زلاّتهم؟ أم تراني أٌمسِك عليهم خطاياهم؟
الجواب على هذه الأسئلة لربنا يجعلنا محط إستهزاء الناس ورفضهم لنا. ولكن، ربّنا يسوع تقدمنا وحملَ الصليب، فلا نخافُ الرفض والإهانة، هناك مَن تقدمنا على الطريق، ولسنا أفضلَ منه.