الأحد السادس من الصوم
أعمال الرحمّة: تعزية الحزانى (يو 9: 39- 10: 21)
يعلو صوتُ ربّنا يسوع في الهيكل قائلاً: أنا بابُ الخراف ... أنا الراعي الصالح ... ربّنا يسوع المسيح يُقدّمنا راعٍ يعرفنا، كلٌّ بإسمهِ لأنه يُحبنا وقلبهُ متعلّقٌ بنا. يتقدمنا على الطريق ويدعونا لنتبعهُ. لم يقل: "آمضوا وسأكون معكم، بل قال: أنا الراعي الذي يتقدّم المسيرة. ومسيرتهُ هذه المرّة نحو أورشليم حيث هيكل الله وحيث الخيانة والعذاب والصلبُ والموت طاعةً لله الآب ومحبةًّ بنا.
ربّنا يسوع الراعي الصالح، راعٍ يُريد حياةً طيّبة لخرافهِ وهو مُستعد لأن يتركَ التسعة والتسعين ويذهب يبحث عن الضال حتّى يجدهُ. راعٍ مُستعدٌ للدفاع عنها عند الخطر حتى لو كلّفه ذلك حياته، لأنه يُحبُ خرافه ويُريد لهم الحياة فيعتني ساهراً ويحرسها لتبقى آمنةً فلا يقترِب منها حيوانٌ مُفترسٌ بل يرافقها ويقودها إلى المراعي الخضراء، وتطيعهُ الخراف حُباً به لا خوفاً منه، وهي تعرفهُ وتُميّز صوتهِ من بين جمع الأصوات، وتتبعهُ حيثما يذهب لأنها تعرِف انه سيأخذها إلى حيث الحياة الوافرة لأنه يحملهُم بمحبةٍ في قلبهِ ويحنو عليهم، ولا يدينهم إذا حادوا عن الطريق، بل يُعيدهم إلى الحظيرة آمنين.
يروي لنا إنجيل يوحّنا، أنَّ ربّنا يسوع قبل أن يُقيمَ بطرس راعياً للكنيسة، سأله ثلاثَ مرّاتٍ: يا سمعان بن يونا أتُحبني؟ تأكيداً على أن الرعاية تتطلّب محبة الراعي لرعيّتهِ، ومحبتهُ يجب أن تكون محبة سخيّة حتّى بذل الذات. فلا يُمكن أن نكون أعضاء في كنيسة ربّنا يسوع من دون أن نُحبهُ ونحبَ بعضنا بعضاً. فالمحبّة هي التي توحّد قلبَ الراعي بالرعيّة وتربط قلوبَ أبناء الرعيّة ببعضهم البعض. في رباط الوحدّة هذا تشعر الرعية بحضور الروح "المُعزي" فيها فتواصِل مسيرة الإيمان واثقة من أن رجاءها لن يخيبَ. محبة مُعزية وقت الضيق والشّدة والإضطهاد، ومن دون هذا العزاء يكون التواصل صعباً.
قلبُ الراعي الصالح يعرِف أننا نعيش في عالمٍ تتعارض فيه الحُريات وتتضاربُ فيه المصالح، وكثيراً ما يتركنا مجروحين أو حزانى أو منعزلين نبكي أحوالنا ولا مُعزٍ لنا. نلتقي في حياتنا مراراً بأشخاص حزانى أو مُضطهدين أو مرضى بحاجة إلى مَن يُشجعهم في محنتهم. أُناس مجروحون في قلوبهم ويشعرون بأنهم مُستغلوَن ومُستهلَكونَ من قبل الآخرين. بعضهم حزينٌ بسبب خطاياه وأخطاء الماضي الذي حبَسَ نفسهُ فيه. والمحبّة التي نحملها في قلوبنا تُلزمنا أن نقترِب منهم لا لدينونتهم أو مُعاتبتهم بل للتخفيف من ألمِ جروحاتهم حتّى لو "أصغينا" فقط إلى معاناتهم، ففي ذلك عمل رحمةٍ روحي مُتميّز: تعزية الحزانئ.
مهمّة الراعي الصالح هي أن يكونَ إلى جانبِ رعيتِه حيثما هم، ويُعاملهُم بالمحبة والعدالة والرحمة، فيكون أكثر قُرباً لمَن هم في حاجةٍ إلى تشجيع وتعزية. إلهنا ملكنا دعا موسى وقال له: "إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه" (خر 3: 7)، وهكذا قادهم، ومن خلال موسى إلى أرضٍ تدرُّ لبناً وعسلاً، إلى مراعٍ خضراء، وعادَ وقادهم خارج أسرِ بابل، ثم قادنا إلى الكنيسة بيسوع المسيح، الراعي الصالح. لقد نادّى بلسان إشعيا بعد أسرِ بابل: "عزو عزو شعبي ..." (إش 40: 1)، فهو عازمُ على أن يحمل على ذراعية مُطمئناً إياهم: "لا تخافوا" (إش 41: 31)، لأنه قرر أن يكون مع شعبه: عمانوئيل، بل يقودهم كراعٍ صالحٍ، مؤكداً لهم محبتهُ، وقيمةً كل واحدٍ منهم: "أنت عزيزٌ على قلبِ الله، هو يعرفُك بالأسم، وحفرَ إسمك على راحة يديهِ". فالراعي حاضرٌ مع رعيتّه ليقودها إلى حياة أفضل، ويهبَ لها الدعم لمواصلة المسيرة فلا تُحبَط القلوب وقت الضيقِ والاضطهادات. ولأن "العزاء" حاجةٌ إنسانية كبيرة دُعيَّ حضور الله بالروح القدس بيننا: فارقليط، "الروح المُعزي"، ليرافقنا في مسيرة حياتنا الإيمانية والإنسانية لاسيما في أوقات الشّدة مُقدمين "حُزننا وآلامنا" لربنا يسوع الذي أُهينَ وعُذّب وسلّم حياتهُ كلّها بين يدي الله الآب، مؤكداً لنا أن كل هذه العذابات والألم ستؤولُ لخيرنا ولخلاصنا إن عرفنا أن نُسلَّم لله الآب حياتنا كلّها.
"تعزية الحزانى" عملٌ رحمة روحي وخدمةُ محبّة اجتهدت الكنيسة منذ بدءِ مسيرتها أن تعززها وتثبُتها في الجماعة. فقد كانت الجماعة مرفوضة ومُضطهَدة فكانوا يُعزون واحدهم الآخر بمواقفَ مُحِبّة، مؤمنين أن زمن الضيق سينتهي وسيكون للرعيّة فرحٌ بقدوم الراعي الذي جاء يطلبُهم ويهبُ لهم الآمان. لقد عزوا بعضهم البعض من خلال الإنتباه بالمسكين والضعيف والخاطئ والإهتمام بهم بمحبةٍ وحزمٍ. واصلوا الصلاة حتّى في أوقات شعروا أنهم يتحملون الصليب وحدهم، حتّى إكتشفوا أنهم "تغلبوا على اليأس وإنتصروا على الشرّ" لأن الله كان يحمل الصليب معهم.
"تعزية الحزانى" تبدأ بالصلاة لأجلهم لكي لا يفقدوا الإيمان، وبالحضور معهم لئلا يغلبُهم الغضبُ الداخلي فيفقدوا الرجاء، وبمرافقتهم لئلا يسقطوا من جراء الخوف والتعب. ففي قلبِ كلَّ منّا "حُزنٌ وغضبٌ" إزاء الكثير من الخبرات الإنسانية، ولكن العزاء الذي يُريدنا ربنا يسوع أن نُقدمه هو "لكل مَن هو حزين من الله"، فهذا الحُزن هو الذي يجعلنا نبتعد عنه. حُزن من الله لأنه لم يستجبِ لصلاةٍ قدّمناه له، أو لم يمنح لنا ما رغبناه، أو لأنه فرّقنا عن إنسانٍ نعزّه، أو لأننا خسرنا صديقاً أو حاجةً أو علاقةً ... رغبات تمنيناها منذ سنوات ونعتقد أنها كانت لخيرنا ولكنها لم تتحقق، فخلّفت حُزناً وتركت في قلوبنا غضباً مكبوتاً من الله.
لذا، تدعونا أمنا الكنيسة اليوم، ونحن نستعد للدخول إلى أورشليم خلفَ راعينا الصالح، أن نترَك هذا الغضب جانباً ونحرر من حُزننا هذا ونلتفت إليه، هو الذي يتقدمنا على الطريق حاملاً الصليب محبّة بنا وطاعة لله الآب، مع أنه صلّى: "إن كان ممكناً أن تعبر عنّي هذه الكأس". النظر إلى الوراء سيجعلنا أشبه بعمود ملحٍ على مثال زوجةٍ لوط، ويحولّنا غضبنا وحُزننا الداخلي إلى "أشخاص" قساة تجاه الحياة وتجاه والآخرين. لذا، تأتينا كلمة الربّ اليوم لنتقوّى للتحرر من هذا الغضب وتُعزينا في حُزننا ونتشجّع ونقول: لتكن إرادتُك ومشيئتُك، فأنت أبي المُحِب وتعرف ما هو الخير لي، علّمني أن أثقَ بك يا ربّ".