الأحد الثالث من الصوم
أعمال الرحمة الروحية: تعليم الجاهل (متى 20: 17 – 34)
تقدّمت أم إبني زبدى من ربّنا يسوع لتطلبَ منه مكانةً متميزة لأبنيها اللذان رافقاه منذ بدءِ رسالته، وكانا، مع بُطرس، شهوداً لمواقف متميّزة في حياته. سمِعَ لها ربّنا وعرِف أنهما وراء طلبها، فلم يُجيبها بل واجههما بالحقيقة: "أنتما جاهلان"، وكان جهلهما فرصة للتعليم. علّمهم بمحبةٍ ولطف وصراحة على أنهم يجهلان أموراً كثيرة: "لا تعلما ما تطلبان"، وجهلهُم كان فرصة للتعليم، لتعليمهما أولاً وتعليم الرُسل أيضاً، لكي لا يجعلوا من "ميولهم وطموحاتهِم" آلهةً تُعبَد. علّمهم: كيف لهم أن يسيروا طريق التباعة خلفهُ؟ وما طبيعة الحياة التي عليهم أن يلتزموا بها؟ هو طريق حافلٌ بالألم والإضطهاد، وعليهم تحمّله وإنتظار الله دوماً. أرادَ ربّنا يسوع في تعليمهِ لهما، وللرسل وللكنيسة كلّها، أن يُحررهم من هذه الميول الطموحةِ وتلكَ الشهوات التي تزرعُ الفرقة بين الجماعة (الكنيسة)، وعليهم أن يتعلّموا كيف يسودُها لا لتسودهم، من أجل بناء كنيسة الخدمة، أي جماعة لا تُزاحم الآخرين ولا تتسابق على المناصب والأمكنة المتميزة مثلما يحصل في العالم. خدمةٌ من دونِ إمتيازات ولا ينتظر منها المؤمنُ مكافآت، بل كشفَ لهم من على صليبهِ لمَن سيكون مكانُ اليمين واليسار: لصانّ سرقَ أحدهما الملكوت في الساعة الأخيرة، فعلى الجميع أن يتبعاه في طاعة الإيمان، مثلما أطاعَ هو الله الآب.
"علّمهم" وعلّم تلاميذه (ونحن أيضا) على مثالِ الله الآب الذي رافق شعبهُ أباً ومدبراً ومعلماً. إلهنا وخالقنا عبّر عن محبتهِ لشعبهِ عندما كتبَ بإصبعهِ الكلمات العشر (التوارة) وعلّمهم كيف لهم أن يعيشوا دعوتهمُ، فكان هو المعلم الأول لا لأجل تعليم مُجرّد بل لأنه عاشَ هذا التعليم أولاً. ربنا يسوع لم يكن مُعلماً مثل باقي المعلمين بل كان هو التعليم الحيّ، فهو لم يسرد للشعب "توارة الله"، بل كان هو نفسه "توارة حيّة". وعندما حانت ساعةُ رحليهِ وعدنا بأن يُرسِلَ لنا الروح القُدس ليكون لنا مُعلماً للحقيقة (يو 16: 3)، والروح الُقدس يهبُ لنا موهبة الحكمة والفهم والمعرفة. فالتعليم عملٌ من أعمال الرحمةِ الروحية، ففيهُ نقومُ ببناء الإنسان وتحريره من سطوّة ميوله وشهواته وطموحاتهِ، وتسليحهِ بكل ما يلزمهُ ليعيش إيمانهُ المسيحي ويُعطي جواباً يُميّزه عن غيره من الناس.
ففي حياة كل إنسان ميول وطموحات يُريد أن تُكمَل، رّبنا تعرّف سمِعَ طموحاتِ إثنين من تلاميذه، وهي طموحاتنا جميعاً أيضاً: أن نكون في المراتب والمكانات المتميزة، وإذا لم يحظى الإنسان بمعلّمٍ مسيحي صادِق سيضيّع في عالمٍ تتضاربُ فيه القيم، ولن يعرف إلى أين يكون التوجّه. طموحُ إبني زبدى في الحصول على مراكز متميزة أثارَ غضبَ التلاميذ وزرع بينهم بذور التفرقة والتي كانت ستقودهم إلى الفرقة والخصومة والعداوة، لولا وجود المُعلّم، ربّنا يسوع المسيح، بينهم، والذي علّمهم أن من حق كل مسيحي أن يكون طموحاً، ولكن الطريق لتحقيق هذه الطموحات سيكون من خلال الخدمة، وأن يجعل هذا الطموح في خدمة الجماعة التي يعيش معهم وبينهم.
لذا، فتعليم الجاهل، والتعليم المسيحي مسؤولية عظيمة إذ فيها ومن خلالها يتم تربية وتنشئة ميولنا وطموحاتنا البشرية لتكون متوافقة وإيماننا المسيحي. هذه التربية وهذه التنشئة لا تقصد إلغاءَ هذه الطموحات أو تحريمها، بل توجيهها لتكون في خدمة بشارة ربّنا يسوع. لذلك، تكون مسؤولية التعليم المسيحي مسؤولية جدّية فمن دونها يُمكن للإنسان أن يتبع هذه الطموحات الإنسانية فيسير في طُرق لا تقوده إلى الله. التعليم المسيحي ليس مهمّة كنسية فحسب، بل تعبيرٌ صادقٌ عن محبتنا للقريب الذي نُريد له كل الخير فنرغب في تعليمه ليتجنّب الطُرق المُتعبة والشاقة، ويتعلّم السير في طرق تفتح له أبواب الحياة مُشرّعة من خلال عيش الفضائل المسيحية فيشّع الخير الذي فيه مُستفيداً من خبرة الكنيسة، لأن الكنيسة تبقى مثلما تُحِب أن تُقدم نفسها: أم ومعلمة.
هنا، نؤكد على عظمة رسالة الأب والأم في أن يكونوا "مُعلمين" صادقين لأبنائهم. فهم المعلمون الأوائل، وتعليم لن يكون بتقديم النصائح والإرشادات، بل بالنموذج والمثال الصالِح. هذا التعليم يتطلّب محبّة مُضاعفة لها إستعداد أن تجتهِد وتتعلّم وتتألمَ من أجل مَن تُحبُهم. تُصلي وتقرأ وتبحث في الكتُب من أجل أن تتعلّم قبل أن تُعلِم، وتُبَشَر قبل أن تشرع بتوجيه الإرشادات والتعليمات. محبةٌ لها القُدرة لأن تُثبّت "المُعلّم" في مسعاه الخيّر هذا، لأنه إنسان وأُعطي له أن يكون ذا سُلطان، وهو بذلك يواجه تحدياً آخر، أن يُعلَّم مثلما علّم يسوع، فلا يستغَل مَن يُعلمهم، بل يخدُمهم. لذا، جعلت الكنيسة من "التعليم" عملاً من أعمال الرحمة الروحية، إذ فيه يتحّدى المُعلم "شياطينَ عديدة"، ويفتح الباب رحباً ليكون رحوماً مرتين: مرّة تجاه ذاتهِ فُيعلمّها لتضبُطَ أفكارها فتكون أفكارُ المسيح، ومرة تجاه القريب الجاهِل إذ تُعلّمه كيف له أن يضبُط أفكاره لتكون مع أفكارِ المسيح يسوع.